No Image
عمان الثقافي

التكوين الرومانسيّ والفيض البشريّ في رواية «الفطْر» «قراءة في الصراع القيميّ والذكاء الصناعيّ»

26 يوليو 2023
26 يوليو 2023

كثيرا ما كان يدهشني المزج بين الجانب الشعوريّ باختلاف توجّهاته الرومانسيّة والاجتماعيّة والمواقف القلبيّة بقسوة التّحولات والصراعات في سينما الخيال العلميّ، إذ يشكل ذلك الساحة التي تقوم عليها معارك أشد شراسة بين الجزء الحقيقيّ الأول في الذات الإنسانيّة والمتغيّرات في الذوات الأخرى، أو ما يعني المكنون القيميّ الذي يناضل للبقاء على قيد الحياة للوصول إلى السلام والحريّة والعدالة، فصراع الإنسان بجانبيه الضعيف والمتسلّط ضمن هذه التحوّلات يتّصل بخفوت ذلك أو اشتعاله، وفي زمن الذكاء الصناعي يشعر الإنسان بتوظيف العلم والتكنولوجيا من قبل الرأسماليين والانتهازيين لتحقيق المصالح على حساب القيم والأسرة والأرض.

رواية «الفِطْر» للكاتب محمّد العجمي تشكّل نوعا مختلفا من الصراع القيميّ المرتبط بالإنسانيّة وأخلاقها وتراثها وأساطيرها، فهي بناء فنّي عن المكنون الرومانسيّ وجوديّا وأخلاقيّا في العلاقات المختلفة؛ ومن ضمنها علاقة الإنسان بالجماد والأشياء والموضوعات، «روبوتات القهوة بالمحل والتي تمّت برمجتها بحيث تلاطف الزّبائن وهي تقوم بتقديم الطلبات» ص28، فنقل هذه المشاعر إلى الآلة هو حلم الإنسان لدوافع نقل الطفرات والمعطيات الجينيّة علميّا في ظل ما يجهله الإنسان من المستقبل؛ ولكنه يستقرئ بالعلم والمتغيّرات الراهنة.

مصطلح «الأنيسان» يشير إلى الكثير من أوجه العلاقة بين ما يمكن أنْ ينجزه العلم وبين موقف البشريّة من طبيعتها؛ ما نعنيه هو البحث عن شكلٍ آخر للخلق، أو لعلّه سؤال القلق المناقض للمسافة بين الإنسان وتاريخ تأكيد أفضليّة الكائن البشريّ، ثمّة قوى تحرّك هذا التّمرد بتقدّم العلم، يدفعه موقف لا يمكن فهمه إلا بإعادة قراءة مسبّبات الحروب التي تُشنّ على البشريّة، وإذا بالعلم يتيح للعالم نوافذ للخروج من خدمتها إلى صناعة عالم موازٍ لها، في المقابل «آلة» تحاول البشريّة في أشكال هيمنتها أنْ تجعلها مسيطرة لها أو مستبدِلة رغبة في هذا العالم.

لكن!؛ ــ وهي عتبة لا يمكن تجاوزها ــ يبقى أن هذه التكوينات والإنجازات لا تستطيع أنْ تغمر حقيقة الإنسان وطبيعته الروحيّة، ولهذا يشكّل هذا الصراع العودة التي يجد فيها هذا الكائن الشديد ضعفه وقوّته، انهياره ونجاته، فالجانب الرومانسيّ يؤسسه المنطلق البسيط الذي يحاول الإنسان نفسه تجاوزه ليكون عمليّا ذا نظرة ماديّة يصنعها التقدم والذكاء الصناعي؛ فيقطع في ذلك أشواطا يكتشف بعدها أنه على شفا الانهيار؛ لهذا يبقي على كل ما يربطه بالفن والتراث والتصوف والجمال.

رواية «الفطر» عمل آخر من الفن الروائي الذي ــ كما أشارت ــ يوازي بعض الأعمال السينمائيّة التي تبرز هذا التكوين الرومانسيّ الشفيف روحيّا، من خلال العلاقات والمواقف والنتائج، سأحاول تتبّعها من خلال بعض الاستقراء الذي يظهر هذا الجانب في ضوء قراءة فنيّة أعزّزها بنماذج من العمل.

لماذا الفطر؟، صاحب البناية كان قد جلب فريقا من قبل لمعالجة مشكلة انتشار الفطر في الحيّ، ص(60)، هل رصده الكاتب إطارا للعمل أم شكّل به مقارنة تعكس طبيعة الحياة التي يحاول البشر تجاوزها، لكنه منتشر في الحيّ، بينما هو طعامنا ونظام حياة متواضع، «أحضرت فطرا ولبنا وقليلا من الزّبيب المحمَّص» ص(60)، يمثّل تلك المواد التي رافقت البشريّة منذ القدم واستطاعت أنْ تلفت اهتمام الإنسان بكل أنواعها، وفي الرواية له لغة خاصة، وطريقة نموّه تنبئ عن أشياء؛ ولفهم ذلك بنى العلماء نماذج لفهم عمله العجيب؛ كتوزيع رؤوسه وأبعاده الدّالة على تصادم مجالات كهرومغناطيسيّة، فهل كان عنوان الرواية ينطلق من هنا، الكثير من الأسئلة ترتبط بالطبيعة وطرق تعامل الإنسان مع القضايا والموجودات في المحيط السياسي والاجتماعي والثقافي يمثّلها الفطر، وجوده وعدم وجوده ينبئ عن المؤشّرات التي يمكن أنْ يتجاهلها البشريّ لكنها تبيّن له عنصره الأقرب إلى ملموسه، وهذا ما صنعته الرواية في إظهار هذا المؤشّر في العلاقة بين الإنسان والفن، إذْ يشكّل الفطر عنصرا في العديد من تلك اللوحات. أثارت موضوعات الفطر تساؤلات كثيرة لديهما؛ لماذا الفطر تحديدا؟، طرح النقيب احتمال أنها كانت تقطّر بعض المهلوسات من الفطر؛ ص(61)، فخرج من الفن إلى محاولة فهم علميّة، وكما ارتبط بالمجالات الكهرومغناطيسيّة؛ نجده يشكل مادة كيميائيّة أساسيّة في حياة المريضة الغامضة.

جانب آخر يتعلق بمراتب «الروبوتات»، يوضّح به الكاتب تعدد الرؤى التي تشكلها الطفرة العلميّة بين الرغبة في العالم الموازي والسيطرة أو التّحكم به؛ صوت «لا تتركوا الحبل على غاربه..»، ومن هنا ولد الحرص على بناء الرتب والخروج عليها، وهو ما يمثّله كلام الروبوت في الرواية ص(53) : إنها مرحلة صعبة بسبب اختباراتها الطويلة واشتراطاتها الصارمة. ولكن إذا وصلت الرتبة السابعة فسيكون بمقدوري حينها السفر بالطائرة لوحدي. هناك مزايا أخرى كثيرة للرتبة السابعة؛ من بينها ترخيص حمل السلاح.. ويمثّل الموقف من هذه الرتب كلامه في نفس الصفحة عن المساعد الأمني المعروف بالخوارزميّ الذي بلغ الرتبة الثامنة، ثم أُتلف سريعا؛ بعد أنْ أنتج تصميما معماريّا بالغ التعقيد لمجسّم الأعمال الكاملة للخوارزميّ بالعاصمة. حيث يمثّل ذلك الجانب البشريّ الحريص على ألا تنافس البشريّ اختراعاته أو تتجاوزه فيما هو من طبيعته، وهي قضيّة أساسيّة في الأعمال التي تتبنّى فكرة الإنسان الآلي.

وهنا نستحضر موقفين بين آدم الروبوت والبشريّة كامي؛ الأول ص (88) يتعلق باستطاعة كامي إقناع آدم بالموت؛ وهي رتبة مرتبطة بالعواطف البشريّة، وهذا خطر لاستيعابه حالات البشر المتناقضة؛ فيطوّر قرارا أخلاقيّا بالقتل، ولأن آدم من دون رقابة فقد وصل إليها؛ وإلا فلا يُسمح لروبوتات الرتبة الخامسة بالبقاء مع المرضى، والثاني ص(94)، تعبير آدم عن كامي: «سيدتي كائن يحب الجمال في الأصل. ولكن عندما تخاف؛ تصبح شيئا آخر، إنها مستعدة للشراسة والشر أكثر من استعدادها للحب والخير». وموقف (الرماديّ) الذي مثّل به الكاتب الأنموذج البشري الذي يقف بجانب الحق الآلي يلغي الحدود بين الطرفين، فلفظة (صديقي) التي يستخدمها الآلي الراوي في سرد الوقائع المرتبطة بالرّماديّ، وما يتاح له من حقوق تمثّل هذه الرغبة.

وفي عمل تراكمي ذكيّ بناه عمل محمد العجمي نصل إلى ما يمكن ــ ولو خيالا ــ أنْ يتحقق حين يتطوّر الذكاء الصناعي؛ فينكسر ما بين البشريّ والآلة في الشعور والمواقف، فموقف الدومري من حمل دماغ السيّدة يعني تحقّق ذلك، إنه يرى دفن دماغها أكرم له من وضعه داخله باعتبار ذلك إنقاذا لها، وهذه تضحية رفضها الدومريّ؛ فهل صنعه الرمادي لذلك، ولماذا هو من يضحّي، ولماذا يدفع ثمن أخطاء غيره، فذنبه أنه إنسان، والدومري يسأل أيّ ميزة في الإنسان، ليجيبه بأنه سبب وجود الدومريّ، فكان بإمكان الرمادي كما يقول ألا يمنحه حق الاعتراض أليّا، لكنه أراد أن يرى موقفه من القرارات الحكيمة، ثم يعود إلى موقف الرفض بسؤال أكثر حساسية؛ كيف يمكن أنْ يتّحد الإنسان ــ وهو أعظم موجود ــ أنْ يتّحد مع أخسّ موجود دون أنْ يبتلعه، ويرى وهما آخر في كلام الرّمادي حول العيش بأقل الخسائر؛ إذ وجود البشر متمدّد على النقيض من وجود الروبوت المحدود ص(176)، إنه مستوى متقدّم نجد صورته في كلام الروبوت آدم ص (222)، وص (223):

«تعلمت الحياة كما يتعلمها البشر، وأصبحت أحب كامي»، «هل البشر الذين امتلكوا أعضاء روبوتيّة أكثر حياة من الروبوتات التي امتلكت مشاعر بشريّة؟».

لهذا رسمت الرواية المرحلة المتقدّمة في صراعات الجانب الإنساني حول المستوى الذي وصلت إليه هذه الآلات «فبعض الخوارزميّات اكتشفت أن الإنسان هو أكبر مهدد للحياة على كوكب الأرض وبالتالي يجب تدميره، ولكن الروبوتات لكي تقتل يجب أنْ يأمرها الإنسان بذلك» ص (76)، كذلك تساؤل الروبوت عن تساهل البشر من تناقضاتهم الكثيرة مقابل عدم احتمال خطأ «الأنيسان»، لاحقا أدرك أنه طريق اكتشاف الجديد لديهم على الرغم من أنه فظيع في المنطق؛ فهم ليسوا منطقيين كالآلات لهذا يريد منه الرّمادي التوقف عن كونه آلة منطقية ويستعمل الحيل وهو مستوى لم يصل إليه بعد، ص(112)، فيتّخذ منه موقفا صارما، كالموقف من الروبوت (سام)؛ ص(92): «بدأت تتعلم كيف تعترض يا سام. وتسأل أسئلة ليستْ من اختصاصك! أظنّ أنه حان الوقت فعلا لتخضع لاختبار الرتبة السابعة».

وقد تنوّعت مظاهر تطوّر هذا الجانب لدى الآلات لتشمل العوالم البشريّة الخاصة؛ تلك التي يجد فيها الإنسان حلمه وقراءات بداياته ومصيره ويؤسس فيها خرافاته وأساطيره، فيشير الرماديّ إلى جبل الآلات، وانتشار التمائم الإلكترونية لحماية الكائنات الآليّة أيّام المجزرة القديمة، مئات الآليات دمّرت على أيدي الغاضبين، وقد اتّخذَ الجبلُ مزارا؛ تجربة مضادّة تساعد على إعادة هندسة الماضي أو حتّى نسيانه بمتحف أو تمثال على الجبل ص(135)، وقد قطع الذكاء الصناعي ــ كما يتّضح ــ طريقا طويلا يعود إلى سنوات خلفت صراعات بين الإنسان والآلة كما مثّلت ذلك سلسلة فيلم (المُدمّر) أو (المبيد) الذي أخرجه (آلان تايلور).

شكّلت الفنون الجانب الآمن في الرواية بالتعبير عن هذا الصراع، أو في استعادة البشري من أحلامه القاسية التي تحكّم بها الذكاء الصناعيّ، فيحضر الشعراء باعتبارهم قراءات تاريخيّة لبشريّة الإنسان في عطاء الفن، فالماستر والروبوت في ساحة المدينة أمام تمثال أبي نوّاس وعباءة المعرّي، ومتعبّدون يردّدون أذكارا تشبه أناشيد القدماء؛ كانوا في صلاتهم كما لو أنهم يدرأون العالم بأكمله عن أرواحهم ص(239)، ويستفيد الرّماديّ من قصائد قديمة لتدريب جذوة الروبوت؛ لتحاكي عن طريق اللوزة أصوات شعراء جاهليين وعباسيين، كامرئ القيس ومعلقات عنترة وطَرَفة، وقصائد المتنبي وأبي تمّام والبحتري ص(101)؛ في إشارة إلى المنجز البشري الفنيّ المرتبط بوجود الإنسان الذي تمثّله اللغة.

ويحضر الفن التشكيليّ والموسيقى على شكل «تحفة فنيّة رائعة لرأس معْدني؛ لأنيسان يخطب عن الأرض والطبيعة، وآلة سنطور بديعة يتغيّر لونها بحسب موقع الناظر وزاوية الضوء بالنسبة لمكانه» ص(100)، ولوحة الخلق التي وضعها الرماديّ أمام الروبوت لحظة عزفه لحنا شرقيّا على السنطور وهو عارٍ، وتحية التعارف «مرحبا بك في عالمنا» ص(124)، إضافة إلى إشارات متفرّقة في الرواية عن الجانب الذي جسّدته الفنون واللغة والفلسفة والأفكار التي حدّدت أهميّة هذا الجانب في التوازن بين العالمين، واستعادة البشريّ من الهيمنة الصناعيّة.

حاولت في هذه القراءة مد صلة بيني وبين رواية «الفطْر» لمحمد العجمي، ولا أزعم أن هذه الجوانب كافية لبناء هذه الصلة؛ فالرواية تبرز الكثير من التكوينات الرومانسيّة التي تمسّ حقيقة الإنسان وتماسّه مع معطيات الذكاء الصناعيّ فنّيّا.

محمود حمد شاعر عماني