التشاؤم في عصرنا الراهن.. سمٌ ناقع أم ترياقٌ نافع؟
هل نعيش عصرًا مِزاجُه العام هو التشاؤم؟ وهل مِن جدوى تُرتجى من التشاؤم وهو يحكم باللاجدوى على كل شيء؟ وهل حقًا تمسُ حاجتنا إلى التشاؤم حين نغدو رهائن في عالم مأزوم يتداعى أخلاقيًا وإنسانيًا وتخيم عليه نذرُ حرب ضروس قد لا تُبقي ولا تَذر؟ وهل يصح هنا أن نأخذ بذلك المبدأ العلاجي المعروف الذي تُجسده في أدبنا العربي مقولة أبي نواس الشهيرة: «وداوِها بالتي كانت هي الداء»؟ ليصبح التشاؤم بمثابة ترياق أو علاج ندرأ به تلك السموم المبثوثة في صميم وجودنا البشري المحكوم عليه بالزوال، فيستكين المرء لراحة اليأس بدلًا من أن يشقى بأمل منيع يُتشبَث به ولا يُطال.
تنطلق الرؤية التشاؤمية عمومًا من منطلقات فلسفية ثلاثة، منفردة أو مجتمعة، وهي «الرأي بأن هذا العالم هو الأسوأ بين جميع العوالم الممكنة» و«الرأي بأن هذه الحياة لا تستحق أن تُعاش» و«الرأي بأن اللاوجود خيرٌ من الوجود»، وبمقتضى هذه الرؤية ينفتح «عالم الأسوأ على مصراعيه»، ويصبح البشر «بؤساء بالضرورة»، ويسود هذه الرؤية مزيج من اللاجدوى والتشكك والاستسلام الذي يصبح شكلًا من أشكال التصوف وتعبيرًا عن إرادة سليبة.
في جوهره، يتمحور التشاؤم حول شعور طاغٍ باللاجدوى التي تقف بالمرصاد لكل مسعى أو جهد بشري، لتصبح اللاجدوى وكأنها مطرقة تقوض أركان كل فكرة أو خاطرة، وينتهي بها المطاف إلى تعطيل كامل للحياة، ولذلك يستصحب التشاؤم معه دائمًا مصيرًا محتومًا ينبعث من الإحساس بأن كل شيء سوف يؤول إلى السوء وبأن كل شيء إلى زوال. هكذا إذن يؤسس الفيلسوف والأكاديمي الأمريكي يوجين ثاكر، الأستاذ بجامعة نيو سكول الأمريكية، لمقارباته الغنية والعميقة حول موضوع التشاؤم في كتابه المعنون «في التشاؤم» الذي صدرت ترجمته حديثًا عن دار الكرمة بالقاهرة، والذي ينتهج خلاله أسلوب الكتابة الشذرية على غرار نيتشه وسيوران وأدورنو وغيرهم.
ويرسم ثاكر في كتابه الذي ترجمه صاحب هذا المقال، لوحة متشابكة الخطوط يقدم من خلالها تشريحًا عميقًا للتشاؤم، فلسفةً كان أو مزاجًا معتلًا، فيجد المتشائم نفسه مكبلًا بمصير مأساوي وبرعب هائل من لامبالاة كونية إزاء وجوده وبضغينة قد تتسع لتشمل البشرية جمعاء، فيقول «لا» لكل شيء، ويصبح التشاؤم، كما تقول إحدى شذرات الكتاب: «سُكْر يُشرب في نخب كراهية البشر وسموم اللاجدوى».
يفتتح ثاكر كتابه باستهلال مقتضب يقر خلاله بأن كتابه هذا «لا أمل يرتجى منه»، لكن ذلك ليس خللًا أو ضعفًا في مقولات الكتاب، بل تأكيدا لاتساق المؤلف مع رؤيته الفلسفية للحالة البشرية المأزومة ومصيرها المحتوم. ويُقر أيضًا في الاستهلال ذاته بأن الصمت، لا الكتابة بجميع أشكالها، هو أبلغ أشكال التعبير الإنسانية عما يسميه «السخافات المنطقية» التي يعيش فيها الإنسان عالقًا وحبيسًا في دائرة جهنمية مغلقة يفضي فيها الشك إلى شك أكبر منه... وبأن الإنسان واقعٌ لا محالة بين مطرقة اللاجدوى وسندان عجز الكلمات. ولاحقًا يطفئ ثاكر أي بارقة أمل حين يورد ذلك التعريف الساخر الذي يعدّه الأفضل تعبيرًا عن مفهوم التشاؤم، مقوضًا به ذلك المنطق التفاؤلي الساذج الذي عادة ما يدعونا للنظر إلى نصف الكوب «الممتلئ» بدلًا من «الفارغ»، قائلًا: إن التشاؤم هو أن «أرى نصف الكوب ممتلئًا، ولكن بالسم».
ولكن التشاؤم الذي ينطلق في الأساس من فكرة اللاجدوى قد يصبح نافعًا، إذ يمكنه أن يؤدي وظيفة نقدية يعين من خلالها على انتقاد الأوضاع الراهنة (كما في تشاؤم أدورنو وكامو وأونامونو)، ووظيفة أخلاقية يصبح من خلالها مرآة لبشرية مردت على النفاق (كما في تشاؤم بسكال وفولتير وليوباردي)، كما يمكنه أن يصبح فلسفة تتخطى نطاق الفلسفة، ولكنه في الحالات الثلاثة، كما يرى ثاكر، نفعٌ يخلو من القصدية.
وقد يكون للتشاؤم وجه آخر للنفع والجدوى وهي أنه يُضعف «مواقف الاغترار الزائف بالذات لدى البشر»، ويضفي شيئًا من التواضع على هذا التفكير الزائف الذي يجعل البشر يتوهمون أنهم «مركز الكون» وأنهم سوف يعثرون على أغلال ضعفهم فوق «أجنحة اللاجدوى السوداء».
ولما كان الوجود الإنساني هشٌ إلى أبعد الحدود... ويبقى الزوال في جميع الأحوال أقرب إليه من حبل الوريد... ودائمًا تكفي لحظة واحدة كي يغدو حطامًا... حرفيًا كان ذلك أو مجازيًا... فإن الإنسان يصبح أحوج ما يكون إلى شيء من التشاؤمية... يتدرع بها في مواجهة ضربات الحياة وأقدارها... فيكون عندئذ كمن يستمتع بالسيئ؛ لأن الأسوأ قادم، ولأن أفضل ما يمكن للمرء التطلع إليه هو الأسوأ.
إن كلمة «بسيموس» (pessimus) (اللاتينية) والتي اشتُق منها مصطلح «التشاؤم» (pessimism)، تعني «الأسوأ»، ومن ثم يظل المتشائم يتوقع «الأسوأ» الذي هو حكم نسبي وتقديري بقدر ما هو مطلق، حتى إنه يجعل الحياة تتساوى والموت الذي ينزع عنه التشاؤم درجة «الأسوأ». ومن هنا تنبثق جدوى التشاؤم وتنبجس قوة المتشائم شديد الصلابة، الذي يصبح عندئذ المتفائل الحقيقي، ولكنه المتفائل الذي نفدت خياراته، ومن ثم ينغمس في الأسوأ انغماس المنتشي، والذي أسماه نيتشه ذات يوم «التشاؤم المبهج».
إن التشاؤم وهو يطفئ جذوة الأمل، يصبح في الآن نفسه بمثابة ترياق يبطل أثر السم المبثوث في كل شيء أوعلى عكس المعهود، القُبلة التي تعيد الحياة لمن يوشك أن تنقطع أنفاسه من كثرة تعلقه بأمل يعتبره ثاكر «معاناة». وفي ذلك تقول إحدى شذرات الكتاب: «بالنسبة إلى المتشائم، الأيام السعيدة قليلة ومتباعدة، وغالبًا ما لا تستحق العناء أبدًا. وتصبح أهون المطالب، مثل ألا يزعجك أحدٌ وأن تنعم في هدوء بفنجان قهوة طيب المذاق، وكأنك تطلب أكثر مما ينبغي».، فيما نواجه في شذرة أخرى سؤالًا يبقى معلقًا: «أيهما أشد وطأة: ألَّا يراودك أي أملٌ قط أم أن تظل تفقده كلما لاح لك....؟»
وفي شذرة أخرى، يمكننا أن نفهمها حرفيًا أو مجازيًا، يصبح: «المتشائم هو ذلك الشخص الذي ينظر في كلا الاتجاهين حين يعبر شارعًا ذا اتجاهٍ واحد». ولا ريب أن هكذا سلوك في عالم متلاطم يمضي بسرعة هائلة نحو حتفه أفرادًا كان أو جماعات، مثل هذا الذي نعيشه الآن، سوف يكون فيه توقيًا لمخاطر جمّة وجسيمة، أو حتى خلاصًا في ظل وجود بشري يتأرجح بشكل لا نهائي بين «السعي وخيبة الأمل».
ويستشهد ثاكر في شذرة مقتضبة ببحث لأطباء نفسانيين في ألمانيا تشير نتائجه إلى أن أصحاب النظرة التشاؤمية «القاتمة» يعيشون عمرًا أطول ويصبحون أكثر تأقلمًا مقارنة بأصحاب المواقف التفاؤلية الذين عادة ما يكونون أكثر عرضة للإصابة بالأمراض والاكتئاب والموت المبكر. وعليه، لن يعدو أحدهم الحق إذا أثنى على كتاب «في التشاؤم» قائلًا: إنه «خير جليس» في زمننا هذا الذي اشرأبت فيه المحن والشدائد وأطلت برأسها الحروب والجوائح.
ويقتبس المؤلف عن الفيلسوف الأسكتلندي آر أم وينلي توصيفًا يعدّه أحد أبلغ توصيفات التشاؤم لا سيما في عقده الصلة بين التشاؤم والتنسك والذي يقول: «التشاؤم هو الملاذ الأخير للقديس، ولهذا الذي يدير ظهره لمتاع الدنيا مثل معظم الزهاد، أو للوغد الذي يعرف عن الحياة ما يكفي كي يعد نفسه قادرًا على الاستهزاء بها، أو للجبان الذي يقهره ما يحيط به....»
ويحوي الكتاب عموما العديد من الشذرات التي تتمحور حول السمات الجامعة للمتشائمين ومفهوم التشاؤم وأنواعه وتاريخه، ويتساءل المؤلف في غير موضع إنْ كان التشاؤم فلسفة حقًا أم أنه لا يعدو أن يكون مزاجًا معتلًا؟ وفي هذا السياق يقر بأنه من المحال أن نميز بين مزاج معتل وافتراض فلسفي، بدعوى أن كل فلسفة إنما تنبثق في نهاية المطاف عن مزاجٍ معتل.
ويعيد المؤلف طرح أسئلة فلسفية كبرى مثل «العدل الإلهي» وما إذا كان هذا العالم حقًا «أفضل العوالم الممكنة» فيما يجترح إجابات يحلل من خلالها الرؤية التشاؤمية متتبعًا تمظهراتها عبر كثير من الأعمال الأدبية والكتابات الفلسفية. ولا يفوته أيضًا أن يقدم صياغات جديدة لمقولات فلسفية تليدة معززًا ذلك بتأملاته وتعقيباته التي تأتي فلسفية حينًا وشخصية حينًا آخر، ولكنها في جميع الأحوال تظل مريرة وساخرة وتعكس مزاجًا معتلًا قد تخالطه بعض الدعابة السوداء.
وينقلنا الكتاب عبر شذراته إلى «خواطر» بسكال تارة، ثم يعرج على «دفاتر مسودات» ليشتنبرج و«مقالات» مونتني وشيستوف ويأتينا بمقتطفات من كتابات نيتشه وسيوران وكيركجور وموليير وفولتير ودوستويفسكي، ويعيد قراءة الكثير من الكتابات الفلسفية التي تؤسس للرؤية التشاؤمية وما تستتبعه من شعور باللاجدوى وكراهية للبشر، بداية من الفيلسوف الياباني نيشيتاني والأديب النمساوي برنهارد وصولًا إلى الأمريكي إدجار سالتوس وكتابه «فلسفة خيبة الأمل»، والإسباني ميجل دي أونامونو وكتابه «الشعور المأساوي بالحياة».