التحولات الاجتماعية في المدينة العربية
من المؤكد أن الجميع، على مدى الأجيال الثلاثة الأخيرة، يلحظ، بوضوح أن هناك تحولات كبيرة في المدينة العربية، وأن السنوات العشرين الأخيرة شهدت تشكل ثيمة جديدة للمدينة العربية على النمط الغربي، من خلال التحولات في أشكال العمارة والتحديث والتنمية، ويدرك المرء بحواسه تحولات المدينة من العمارة الإنسانية وتغليب قيم التواصل إلى العمارة الشكلية والجمالية التي تؤدي وظائف مالية واستهلاكية في الغالب.. ولكن السؤال الاجتماعي والفلسفي هو: ما العلاقة بين أنماط تغير العمارة مع تغير السلوك؟ ومن الذي يحدد هوية المدينة: هل هو المكان أم الإنسان أم التحديث والتنمية؟ وهل يمكن أن يوجد نمط عربي ثابت يحكي هوية المكان في العمارة ولا تمسّه أشكال التحديث المتغيرة؟ وهل يمكن التعرف على أنماط عمرانية أساسية في كل مدينة عربية أم أنها تخضع لذائقة المطور العقاري والموضة العمرانية؟
وهل تُبقي المدينة الحديثة على أجزاء من المدينة القديمة، وتحفظ هُوية كل جيل أم أنها تستبيح تواريخها، كما هو الحال في المقابر القديمة التي وصفها أبو العلاء المعري بأن الأخير يستبيح من سبقه وصارت طبقات بعضها فوق بعض:
وقبيح بنا وإن قدُم العهدُ
هوان الآباء والأجدادِ
سِرْ إن استطعت في الهواء رويدًا
لا اختيالًا على رفات العبادِ
رُبّ لحدٍ قد صار لحدًا مرارًا
ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ
ودفين على بقايا دفينٍ
في قديم الأزمان والآبادِ
ونظرًا لما تتعرض له المدن القديمة، من عمليات هدم بذريعة التطوير والتحديث، فقد برزت جهود كبيرة للحفاظ على هوية المدينة العربية، وتنسيق جهودها، مثل «منظمة المدن العربية» وهي منظمة غير ربحية وغير حكومية، تهدف إلى حماية هوية المدينة العربية ورصد التحولات المناخية والديموغرافية فيها، تأسست في 15 مارس 1967م، واتخذت يوم 15 مارس من كل عام للاحتفال بيوم المدينة العربية العالمي، وتضم في عضويتها 650 مدينة عربية. وأثمرت جهودها عن أدلة استرشادية لحماية المدن العربية من مخاطر المناخ والصناعة وفقدان الهوية، ولكنها غير ملزمة، وتسعى لنشر تلك الثقافة من خلال مجلة المدن العربية والمؤتمرات السنوية.
ونظرًا لصعوبة تجميع التحولات وتحليلها في مقالة قصيرة، فسوف أستعرض ملامح من وظيفة المدينة، ثم الإشارة العابرة إلى أبرز السمات العامة للمدينة العربية، وبعض مظاهرها الاجتماعية والثقافية:
وظيفة المدينة والمزاج العام
كانت المدن تخطط على أسس وظيفية واضحة؛ وذلك نظرًا لقلة أعداد السكان ومحدودية وسائل الانتقال، وبالتالي كانت مدن تشغل حيزًا مكانيًا صغيرًا، ومقسمة على أحياء، ويتوسطها السوق والجامع ومقر الإمارة، ويربط بينهم شبكة من الشوارع الضيقة لمرور الناس ومواشيهم، وبالتالي يتحقق تلقائيًا عناصر الاتصال والتواصل بين أفراد المجتمع، وتسود قيم الإيثار والتعاون بينهم، ويشيع نمط الاستهلاك الأساسي.
أما المدن الحديثة فهي تتمدد بحسب الموضة، إما أفقيًا أو عموديًا، وتنتشر في كثير منها الأراضي البيضاء المملوكة لرجال أعمال وشركات، وساعدت وسائل النقل الخاص والعام على عدم الاكتراث لمشكلات التمدد، ولا الضغط على الخدمات، وبدأ يطغى عليها أنماط الترفيه والاستهلاك المظهري أكثر من الوظيفة الاجتماعية.
ولو عملنا مقارنة بين اتساع مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، لوجدنا أن الملك عبدالعزيز تدخَّل بشكل مباشر ووجَّه في رجب 1372هـ بمنع ارتفاع مباني المدينة المنورة إلى أكثر من ارتفاع منارات المسجد النبوي، بينما توسعت مباني مكة المكرمة إلى أبراج تجاوزت حدود مناراتها، مما جعل الصور الفنية تلتقط للكعبة بجوار مبنى الساعة، وصارت الوظيفة الفنية للصورة أهم من الوظيفة الدينية التي جعلت الكعبة في حجم صغير منحسر من أصل الصورة، مما يعني سيادة فكرة الشكل على المضمون والمنتج المادي على الثقافي.
من المؤكد أن جميع حالات التنافس في تطوير المدينة تسعى لتحقيق هدف واحد رئيس هو: تحسين المزاج العام لسكان المدينة، وجعلها أكثر جاذبية، إلا أن البلديات تحسن المزاج العام لتنفيذ مهامها، والمطور العقاري يحسن المزاج العام ليحقق الأرباح ويمنح الشعور بمواكبة التحديث الغربي، والأمن يحسن المزاج العام بردع الجريمة والانحراف.
ولو جمعنا الأماكن التي يلجأ لها الشخص العادي من أجل تحسن حالته المزاجية، لوجدنا أنها تتمركز في: مجمعات المطاعم والمقاهي والمولات وصالات السينما والحفلات الموسيقية، بينما يقل ارتياد الحدائق العامة والمكتبات والمتاحف، أما الأندية الرياضية وحضور المباريات في الملاعب، فهي تكاد تكون عملية وظيفية وأداء واجب تجاه الجسد وتجاه الفريق المفضل. ويوجد أماكن خاصة كالمنازل والاستراحات في السعودية والديوانيات في الكويت؛ حيث يلتقي فيها الأصدقاء لتحسين المزاج النفسي، وبرز مؤخرًا لجوء كثير من الناس لمواقع التواصل الاجتماعي الترفيهية وقضاء ساعات طويلة يوميًا للتنقل بينها لتحسن المزاج الخاص.
ويمكن ملاحظة التغير الكبير في المزاج العام في المدينة العربية خلال نصف قرن، من خلال تحولات المزاج العام من الروح الطامحة للتغيير السياسي والاجتماعي بقوة تأثير القومية أو الاشتراكية أو الإسلامية، وبعد أحداث عام 2011 بدأ المزاج العام يميل للاهتمامات الخاصة بعد الشعور بفشل الحلول العامة والإيديولوجيات.
ولكن الجهود الكبيرة المبذولة كانت تعمل بطرق منفردة، مما جعل كثيرًا من المدن تكون عالمية في جانب ومتخلفة في جانب، ومتطورة في أحياء ومتخلفة في أحياء أخرى، والأحياء التي تبقى متخلفة ومهمشة سوف تصدّر مشكلاتها إلى الأحياء المطورة. مما يؤكد على أن مفهوم المزاج العام لا يزال غامضًا لدى من يسعون لتحسينه.
وقد بدأت موجة تنموية جديدة تهدف لأنسنة المدن؛ بحيث تراعي البيئة وصحة المجتمع وتزيد من مساحة التشجير، وتصميم الأحياء لخدمة الإنسان وليس لخدمة السيارات، وتعيد تنظيم أعداد السيارات ومتوسط أعمارها الاستهلاكية في المدن، وسوف تعيد هذه السياسات روح المدينة وتفاعلها مع الإنسان.
غياب صانع التغيير
يكاد يكون تخطيط المدينة التقليدية متفقًا عليه بين المهندسين والبنائين والأهالي؛ وذلك لتشابه الوظيفة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية فيها، وكلما كان المجتمع تقليديًا كان التجانس هو السمة الغالبة على سلوكه العام، والتجمع السكني على أسس القرابة، والمهن الاقتصادية محدودة بالتجارة أو الزراعة أو التعليم والوظائف الدينية والسياسية والأمنية داخل المدينة.
بينما تتميز المدينة العربية الجديدة بغياب صانع التغيير فيها، ويوجد ثلاثة لاعبين أساسيين هم: البلديات ويمثلون الحكومة، والمطور العقاري ويمثل الاقتصاد، واللاعب الثالث هو المجتمع الاستهلاكي، الذي يستهلك الثقافة والفنون، والذي يستهلك للمظاهر، وكان من المتوقع أن تقوم البلدات بدور قائد التغيير، بوصفها الجهة الأقوى ولأن حساباتها تقوم على حماية الهوية والثقافة والأمن، بينما نجد الواقع أنه يتجاذب قوى التغيير اثنان هما: المطور العقاري، وأمانات البلديات، فإذا ضعف أحدهما نشط الآخر، وكان نتيجة ذلك عدم التجانس العمراني. وصارت القوى تسير خلف الرغبات الشعبية غالبًا، ولا تقودها.
ومن ثم؛ فإنه إذا غاب التخطيط الجمالي وقلَّ الاهتمام بالهوية والثقافة المحلية، مقابل التركيز على جذب المستهلك، فإن المدينة سوف تكون مؤقتة وغير قابلة للاستقرار؛ وذلك لأن ذائقة المستهلك تقوم على أسس ربحية، وتتغير بسرعة، كما أنها ليست مقياسًا جادًا لنمو المدن، وتتسبب في عزل المدينة عن هوية الدولة والمجتمع.
تضخم المدينة
تواجه المدينة العربية تضخمًا ديموغرافيًا، من حيث كثافة السكان والمساكن، بسبب زحف الأرياف والقرى إلى المدينة، وزيادة عدد السكان، وتركز الخدمات الأساسية كالتعليم العالي والتعليم الجيد وخدمات الصحة والبنية التحتية وفرص العمل في المدن، مما جعل تلك المدن غير جاهزة لاستيعاب القادمين الجدد، فصارت تتوسع بطرق تقليدية، وتسبب الضغط على خدمات التعليم العام والجامعي وعلى الصحة والحركة المرورية في إضعاف كثير من الخدمات العامة وصعوبة الرقابة عليها وضبط الجودة، وبالتالي لم تستطع أن تحدد هوية المدينة العمرانية والثقافية، فصار من سمات المدينة العربية العصرية أن يوجد فيها: توسع أفقي وعمودي، وإنشاء مدن صغيرة مغلقة (كمباوندات)، إضافة إلى توسع أحياء الجاليات والعشوائيات، وهي أحياء مفتوحة جغرافيًا ولكنها مغلقة ثقافيًا وتكاد تكون مغتربة عن المدينة التي تستضيفها.
من يطالع مدينة مثل الرياض، وهي مدينة متوسطة الحجم، حيث يبلغ عدد سكانها سبعة ملايين نسمة، وقد كانت عام 1975م لا تتجاوز تسعين ألف نسمة، سوف يلحظ أن أقصى مداها الجغرافي قد وصل إلى مئة كيلو متر، ويفترض أن لهذا تبعات في الفتوى الدينية، حيث إن من يقف في آخر نقطة في جنوب غرب الرياض، سوف يكون على مسافة مئة كيلو متر من أقصى نقطة في الرياض وعلى مسافة مائة كيلومتر للبلدان التي تقع غربها مثل تبراك، ونجد فرق توقيت دخول أوقات الصلاة والصيام والإمساك هو زيادة ست دقائق لمن هو خارجها، وعدم زيادة أي وقت لمن هو داخلها. مما يعطي مؤشرًا بعدم الإحساس الاجتماعي بالتضخم ولا فارق التوقيت، وانصهارهم العفوي في مفهوم المدينة المتراصة المباني.
وقد واجهت القاهرة تجربة تضخم المدينة أيضًا، وتحولت من أجمل مدن العالم في الأربعينيات إلى مدينة مشتتة ومثقلة بالكثافة السكانية والعشوائيات والتلوث، ثم تبين ضرورة توزيع السكان في مدن جديدة، وتشجيع التطوير العقاري لبناء مدن مغلقة تتسع لمئات الآلاف وبعضها لبضعة ملايين.
الانعزالية
تواجه المدينة العربية اليوم تحديات أكبر من أي زمن مضى؛ وذلك لتعقد طبيعة المدينة، وتداخل التوسع الجغرافي والسكاني مع العزلة الاجتماعية والنفسية، وصارت كل جماعة تحيط نفسها بسياج نفسي وثقافي، وتداخل المدن الرقمية مع الأحياء القديمة، مما أسس لثقافات مغلقة تعزِّز العزلة النفسية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى التدمير المستمر لهوية المدينة القديمة في بعض المدن وتأسيس هويات جديدة لا تعكس هوية المجتمع.
ويمكن أن نجد سمات مشتركة للمدينة العربية في السلوك الاجتماعي أكثر مما نجده في العمارة، ومن أبرز الثيمات التي تميز المدينة العربية الآن الاغتراب النفسي الكبير؛ حيث اغتربت الدول والحكومات عن شعوبها، واغتربت الأجيال الجديدة عن أجيال الآباء، ولم تعد رموز أجيال المدن تؤخذ من رجالات الدولة ورموز الوطن، ولم يعد الوالدان رموزًا وقدوات لأبنائهم، وإنما صارت الرموز تأتي من الغرب والشرق عبر تطبيقات التواصل، كما اغترب نهار المدينة عن ليلها، واختلف عدد سكان المدينة نهارًا عن عددها ليلًا، وصار للنهار مراجعات من خارج المدينة، والليل للسياحة والترفيه.
المقاهي ليست وسيلة تواصل
قال يورجن هابرماس عن المجال العام، أنه نشأ بسبب لقاءات الطبقة البرجوازية في مقاهي القرن التاسع عشر، حيث يلتقي فيها الغرباء من أبناء الطبقة ويتبادلون الأحاديث ويتناقلون الأخبار السياسية والثقافية، مما مهد للديموقراطية وتأسيس علاقة بين الشعب والسلطة. وقد تعرضت نظريته للنقد المستمر، وكان من أبرز نقاد هابرماس تلميذه أوسكار نيغت الذي يرى أن الطبقة العاملة أسهمت أيضًا في تشكيل الفضاء العام، ولكنها تتآكل في المجتمع الغربي الآن بسبب فقدان معاني الثقافة ومنظومة القيم.
ولكن على مدى قرنين من التحولات الاجتماعية والاقتصادية في المدينة، نشأت أشكال من التفاعل خارج إطار المقاهي والأماكن العامة وخارج إطار الطبقات الاجتماعية، وتتمثل كثير منها في صعود الشركات بوصفها لاعبًا أساسيًا في صناعة وعي الشعوب وإنتاج مجتمعات موازية مبنية على التقنية والذكاء الاصطناعي.
واحدة من الثيمات الأساسية في المدينة العربية ظاهرة مجمعات المطاعم والمقاهي، بمعاييرها الغربية مثل: سكوير وبلازا وبوليفارد، ويمكن للسائح المتنقل بين المدن العربية أن ينتقل من الرياض إلى مسقط ودبي والقاهرة، وهو يرتاد المقاهي ذاتها وتصاميم المجمعات نفسها، والذي تغير عليه هو مفارقته للحاجز النفسي الذي أحاط نفسه به في مدينته.
وقد حققت جوانب من الإفادة منها، وخاصة في توفير أماكن مريحة للقاءات العابرة وعقد الاجتماعات ولاجتماع الأصدقاء للقهوة أو لتناول وجبات دون تكلفة معنوية، كما أنها تحولت إلى أماكن عامة للفرجة والتقاط الصور «السيلفي» للتعبير عن الذات.
تتجه المدينة العربية للاستجابة للهوس الشعبي بظاهرة مجتمعات المطاعم والمقاهي، ولو كان ذلك على حسابات الهوية والثقافة المحلية؛ حيث نجد انتقال السياح من الحسين إلى التجمع الخامس في القاهرة، ومن سوق الزل إلى «يوووك» وواجهة الرياض، ومن سوق مطرح إلى مقاهي القرم في مسقط، ومن دبي القديمة إلى دبي الحديثة الجاذبة للعالم، وكل هذه التحولات لها مؤشرات كبيرة في تآكل الثقافة المحلية أمام غزو الثقافة الغربية، وترك هوية المدينة العربية لقيادة الماديات وتراجع الثقافة.
وبالتالي من المرجح أن مفاهيم السفر والسياحة لا تزال تعمل بقوة الصورة الذهنية القديمة والجميلة، فصار من يسافر بين المدن العربية والغربية يكرر السلوك ذاته، المتمثل في ارتياد مطاعم ومقاهي، والتقاط صور الطبيعة لنشرها في وسائل التواصل، وصارت متعته في نشر الصور التي يلتقطها لزيادة مشاهداته، وقد تنبهت الباحثة الفرنسية إلزا غودار لهذه الظاهرة وأصدرت كتاب «أنا أصور سيلفي إذًا أنا موجود»*، وأشارت إلى أن مصطلح سيلفي استقر في القواميس اللغوية عام 2013، وعدته كوجيتو جديد لكوجيتو ديكارت الشهير «أنا أفكر إذًا أنا موجود»؛ وذلك لارتباط الهوية الذاتية بالصورة.
الهامشيون والمهمشون
هوية المدينة تتعرض للشتات، فلا تكاد تتضح هويتها الأساسية، في ضوء ضغط المدن الرقمية المخصصة للعمل والشركات، وضغط مجمعات المطاعم والمقاهي المخصصة للاستهلاك المظهري والفرجة، مما جعلها مدنًا مزدحمةً وشديدةً التفاوت الطبقي، وبالتالي تسبب في غياب مظاهر القيم الدينية والاجتماعية والثقافية التي تميز المدن التاريخية، ومن ثم يبدأ ظهور أجيال لا تحتفظ في ذاكرتها إلا مظاهر العمل الدائم والاستهلاك الدائم، وتنقطع صلتها بالهوية الاجتماعية والثقافية.
ويضطر إنسان المدن الكبرى اليوم إلى تغيير سكنه المستمر بسبب تغيير عمله، وبالتالي تغيير مدارس أبنائه باستمرار، ومن ثم تختفي الذكريات والحنين للطفولة، وتختفي ظاهرة الجيران لمدة طويلة وأصدقاء العمر.
وتعاني المدن من غلاء المعيشة، واتساع الهوة الطبقية بين طبقات المجتمع، مما وسع دائرة الطبقات الهامشية والمهمشة، وهي التي يمكن لها أن تقصى عن الفضاء العام الجديد، أو ترتاده للفرجة دون الاستمتاع بخدمات الرفاهية.
صار مشهد المشردين (الهوملس) من المشاهد المألوفة في المدن الكبرى، وهم في تزايد مستمر، مما يعني أن هناك مشكلات كبيرة لا تزال مدفونةً في زخم التغيير المستمر والسريع وزيادة الكثافة السكانية، ووجود طبقات هامشية تزداد نزولًا للقاع كلما كبرت المدينة، ورغم أن ظاهرة المشردين لا تزال ذكورية، إلا أن المؤشرات تؤكد على أن التشرد النسائي محتمل الحضور، وأن المدينة وسياساتها غير محصنة من كوارث البيئة والفقر والجريمة في قاع المجتمع.
أخيرًاإن التركيز على التحديات لا يعني بالضرورة وجود حل واحد سريع، وإنما الدعوة للتمركز حول البنية الفوقية المتمثلة في الهوية الاجتماعية وتقاليد الشعوب، والبنية التحتية الاقتصادية والتقنية والأمنية.
وتمثل المحافظة على أجزاء من هوية المدينة القديمة فرصة للتعريف بالثقافة المحلية؛ وذلك لأن السائح والزائر الأجنبي لن يأتي ليرتاد ستاربكس ويأكل من بوفيهات مفتوحة، فهذه الثقافة هو الذي صدرها للمدينة العربية، كما أنه لن يأخذ معه مقتنيات عصرية، وإنما جاء ليعيش الدهشة ويأخذ الذكريات والمنتجات الثقافية المحلية، ويحمل معه انطباعات شخصية عن الشعوب وثقافاتها وعاداتها، وهذه السمات لا يوفرها إلا الهويات المحلية، التي تتوفر في السلوك العام والانضباط المجتمعي والأماكن القديمة والأثاث الشعبي والمطبخ المحلي والزي الشعبي.
إن أعظم الإنجازات تكمن في القدرة على التخطيط الاجتماعي والثقافي وتنظيم السلوك، وليس في التخطيط المادي، وذلك لأن التفاعل الاجتماعي بين فئات المجتمع يعد حالة دائمة، وينتج عنها أنماط من العادات والسلوك، بينما التخطيط والعمارة تلبي الاحتياجات الآنية وتتسم بالتغير المستمر. وتمثل انتشار ظاهرة مجمعات المطاعم والمقاهي التي تتزايد بشكل مفرط تواصلًا استهلاكيًا ماديًا، لا تواصلًا اجتماعيًا وثقافيًا، وينطوي نفوذها الكبير وجاذبيتها السريعة على مخاطر انفصال الأجيال الجديدة عن ثقافة المجتمع وهويته، وقد استطاعت المدن أن تصدّر ثقافة مجمعات المطاعم والمقاهي إلى البلدان والأرياف المحيطة بها مع تآكل مستمر لما تبقى من الثقافة المحلية.
إلزا غودان، أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحولات الأنا في العصر الافتراضي، ترجمة سعيد بنكيران، المغرب: المركز الثقافي للكتاب، ط 1، 2019، ص 81
د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير باحث سعودية في علم الاجتماع