الأسماء كلها
الماءُ والكلماتُ أَوَّلُ آصرةْ
وُهِبتْ، ليكتشفَ الترابُ عناصرَهْ
لا تسرق اسمك من نبيذ سواك
إن الكرم في الكاسات يعرف عاصره
في فيلم كوميدي شهير«طاقية الإخفا» من إنتاج عام 1959 بطولة عبد المنعم إبراهيم ومحمد عبد القدوس: والد عصفور وفصيح قمر الدين يستهلك عمره في محاولة تحويل التراب إلى ذهب، حلم كل فقير لا يملك إلا التراب، وكأن الذهب أغلى من التراب، هكذا يعتقد الفقراء دوما مع أن التراب العنصر الأعظم أهمية في الكون بعد الماء. قال تعالى «وجعلنا من الماء كل شيء حي»، وقال كذلك جل من قائل: «إنما مثل عيسى بن مريم كمثل آدم خلقه من تراب وقال له كن فيكون».
نعود لسحر الحلم في تحويل التراب لذهب الذي ظل هاجسا شعبيا يتجدد دوما بصورة أو بأخرى.
سيم هي الكلمة السحرية في عصرنا بهاتفك simi card
شريحة صغيرة تحمل معلوماتك وتحدد هوية هاتفك وتميزها عن أي شخص آخر، السيمياء التي بقي منها في أوهام العامة فكرة تحويل التراب لذهب تسمى أحيانا خيمياء كتحويل عنصر لعنصر
كما لو كانت نوعا من الكيمياء الإلهية لا يستطيعها غالبية البشر.
تشير كل الدلائل القديمة إلى أنها علم العلامات كما في قوله سيماهم في وجوههم، فالسيم يعطي علامة تدل على معنى يفهمه الرائي كما لو كان كلمة أو جملة. سيم الصلاة يعني هذا يصلي والعلامة تدلك وهي أثر السجود في جبهته، فهي علامة بالصورة على معنى لغوي ولذلك سواء بالعربي أو باللغات الأجنبية ظلت سيم بمعنى علامة.
وسيمياء علم العلامات باللفظ العربي ويماثل المصطلح الغربي سيمولوجيا أي علم العلامات
السمات الصفات والمواصفات التي تميز وتسم لتصبح سمة أو علامة. يعد الشخص مميزا بها حتى قيل وسيم على صاحب القسمات المميزة. وأقوى العلامات الاسم جاءت من نفس الكلمة سيم.
السمة قبل الاسم وإن لم نعرف اسم الشخص تساعدنا السمة في تمييزه عن غيره.
الكاتب سيميائي
أنا سيميائي يمكنني تحويل التراب لذهب
ت راب / ت ب را
الحروف ذاتها تبدلت مواضعها فالتراب أصبح تبرا والتبر هو تراب الذهب، أو الذهب المطحون،
كانت الصورة كلمة قبل أن توجد الكلمة، ثم صارت الصورة مقطعا ثنائيا، قبل أن تتجرد أكثر وتصبح حرفا، وهكذا نشأت العلامات اللغوية والأبجديات.
وهكذا نقترب من فهم سحر الكتابة السيمياء التي يحلم به الجميع.
لماذا نكتب؟
يقول لك أحدهم أكتب من أجل المجد، فتهمس له بتواضع الكتابة سمة وليست أوسمة، وتذكر له عباقرة كثر لم يحصلوا في حياتهم على المجد اللائق بإبداعهم، على سبيل المثال جائزة نوبل أهملت تولستوي، وفرجينيا وولف، وجيمس جويس، ومارسيل بروست ومنحت لأدباء أقل منهم تأثيرا
لكن من ذكرت له يحملون سمة الكاتب الكبير عن جدارة واستحقاق وهم أرفع شأنا وأقوى حضورا من كثيرين ممن فازوا بنوبل.
في رواية الياباني ناتسومي سوسيكي «وسادة من عشب» ترجمة وليد السويركي
يقول: «ولما كان العيش في هذا العالم الذي لا نستطيع مغادرته أمرا شاقا فإن علينا أن نجعله مريحا ولو قليلا كي نقوى على احتمال حياتنا العابرة فيه ولو لفترة من الزمن وهنا يتجلى نداء الشاعر وتظهر موهبة الفنان فكل مبدع هو عظيم القيمة لأنه يخفف من قسوة عالم البشر ويثري قلوبهم».
وفي عصرنا يأتي التساؤل المخيف:
إذا كانَ الرَّصَاصُ هُوَ المُغَنِّي
فما جدوى القريحةِ للقريحِ؟
غناؤُكَ لا النُّسُورُ على جبالي
ولا خَفْقُ النَّسَائمِ في سفوحي
فهَلْ عَلَّلْتَ بالكلماتِ كَلْمَى
أَمِ اسْتَعْرَضْتَ مِلْحَكَ في جُروحي؟
أَمَنْ يمشي على حَرْفٍ فصيحٍ
كَمَنْ يمشي على جُرْحٍ فصيحِ؟
يقتحم الروائي البرتغالي أفونسو كروش مأساة الأدب في عصر المادة ويختار عنوانا ساخرا لروايته «هيا نشتر شاعرا» مرتعبا من تحول العالم الاستهلاكي إلى اقتصاد وسلع وأوزان وأحجام وأطوال بحيث صار الشعراء والروائيون والرسامون والنحاتون سلعا مباعة للزينة والتسلية كقطع أثرية من عهود بائدة لا تقدم ولا تؤخر في عجلة النمو.
يفاجئنا في النهاية بالانتصار للشاعر، فبوجوده المختلف أحدث تحولا جذريا في مسيرة البيت القاتم، ثورة ناعمة غيرت من وضع الجميع فأعاد للابن الحب، وللزوجة الإرادة، وللأب النجاح، وللبنت لمسة الإنسان في عصر الروبوتات.
رواية قصيرة مكتنزة بالمعاني تختار لغة محايدة غالبا لكنها تدهشك بالأثر العظيم لجملة شعرية مرهفة.
في عصر التسليع والخوف تغدو الكتابة آخر رداء يستر عورة العالم أمام قبح المرايا الوقحة.
نلتقي الآن لكيلا نلتقيْ
نحن تشبيهانِ والحب استعارةْ
قرويونَ خطاهم مدنٌ
وبدائيونَ حراسُ حضارةْ
مَلحميونَ بلا ملحمةٍ
ودراميونَ مِن غيرِ إثارةْ
وغِنائيونَ في أبراجِهم
واقعيونَ كبرجيّ التجارةْ
القوافي النابغياتُ صدًى
والمجازاتُ الحداثاتُ حِجارةْ
قد تعرى الناسُ مِن أسمائِهم
فاسترِوا الناسَ بأسماءِ الإشارةْ
الكتابة خزائن البشرية، الانتصارات، الإخفاقات، المشاعر، الأحداث، الشخوص، والأدب ذاكرة البشر يختزن ما نتخوف من فقدانه، ما نرغب في إرساله لمن بعدنا، الفرح والدمع، الأمل والشك،
فَمَنْ يُجيبُ سؤالَ الشَّمسِ لو سَألَتْ
هَلْ نستعيدُ خُطانَا أمْ خَطايانَا؟
كُنَّا ضَحيَّةَ أحلامٍ نطارِدُها
أمْ أنَّ أحلامَنَا كانت ضَحايانَا؟
منذ فجر البشرية ارتبط البناءُ بالرّسم، والكتابة، والفكر والعقيدة، كانوا يبنون ليكتبوا للقادمين فكرهم، ويبدعون الفن ليرسلوا للأجيال القادمة بريد الجمال والوعي كتبوا فعمّروا وبنوا،
وكلّما بنوا فكروا، وكتبوا جديدا، فالكتابة بناءٌ لا هدمٌ، إضافةٌ لا محوٌ، صلة لا قطيعة.
كيف نكتب
-قالت لي معلمتي: من لم يستطع القصيدة السهلة فاتته الحقيقة الصعبة، وخانه الشعر الذي يستحق الخلود.
فاكتب ما يحظره الشعر على ضعاف القلوب
أكتبُ كيائسٍ من النصرِ يائسٍ من قبولِ الهزيمةِ ذلك هو الأملُ الوحيدُ لأبطالِ الكلمةِ!!
يتطلب الإبداع شجاعة
كسيف الساموراي الحرف فاكتبْ
لترفع هامة وتذل هاما
فإن لم ينصر الثكلى حسامٌ
فمِل بحشاكَ واحتضنِ الحساما
الكاتب العظيم لا يفتح لك صفحات كتابه فقط بل يفتح لك معها دون أن تشعر آلاف الكتب التي سبقته ويبشرك بما سوف يتلوه.
لا تقفْ في الصفحاتِ السوداء كنهايةٍ حزينةٍ، لكتابٍ مُحبِطٍ، قِفْ كفاتحةٍ لكتابٍ، لا ينتهي جمالُه، إلا ليبدأَ مِن جديدٍ.
الشعر والموسيقى
وما جدوى بحرُ الطّويل إذا كانت خطواتُك في الموسيقى قصيرةً جدا ورقصُك بليدا، وما نفعُ البسيطِ إنْ كنتَ تتعثّر من عجزِك، وسجنِك في فكرتِك الهشّةِ، ونظرتك من وراءِ زجاجٍ مغبّشٍ.
يمتلك البندولُ إصرارا مدهشا على الحركةِ، ودأبا، لكنّه لا يفارق رقعتَه الصغيرةَ، إلّا ليعودَ من حيثُ بدأَ.
لم يرَ غيمةً شقراءَ، ولا نهرا أخضرَ.
الكتابة الهبة الأولى للبشر والاختبار الخطير لهم، هل يبدعون أم يجترون هل يقتحمون أم ينكصون
والشِّعْرُ جبَّارٌ إذا أغْضْبتَهُ
ما بينَ قافيتينِ يَشْنُقُ شاعِرَهْ
رسم الفراهيديُّ دائرةَ الرؤى
وعبرتُ مثلَ الفهدِ قوسَ الدائرةْ
لمن نكتب
كثير من الكتابات كالسلعة الرخيصة يدلل عليها بائع غشاش كالأمَةِ ييدي نخاسها بانتظار سيد يتفضل عليها كقارئ يلتهي بها وقتما شاء، قليل من الكتابات حرة يدفع مهرها قارئ نبيل وتشرف أبا عزيزا.
أوقُدْ مصباحَك كرمًا تضئْ لك مصابيحُ العالم امتنانا.
هل يمكن تعلم الكتابة
هو سؤال على طريقة هل يمكننا التعلم؟ بالتأكيد يمكن تنمية مواهبنا وإلا لم نرسل الأبناء إلى مدارسهم
المثل الإسباني «يولد الكاتب ولا يصنع»، كذّبه العرب بعنوان «كتاب الصناعتين» ويقصد الشعر والنثر «أبو هلال العسكري» (المتوفى: نحو 395هـ)
الإبداع والتنقيح والنقد البناء
وحكى أن رجلا قال لخلف الأحمر: ما أبالي إذا سمعت شعرا استحسنته ما قلت أنت وأصحابك فيه!!
فقال له: إذا أخذت درهما تستحسنه وقال لك الصيرفي إنه رديء هل ينفعك استحسانك إياه؟.
أبو علي الحسن بن رشيق المعروف بالقيرواني توفي 456هجريا
كتاب العمدة في معرفة صناعة الشعر ونقده وعيوبه، حواء القديمة «منشم» عطرت قومها للحرب فكأنما دلت السيوف عليهم فقتلوا جميعا، وحواء المعاصرة تكتب وتبدع وتعطر بذاتها وبكتاباتها وتهزم أسطورة منشم وتنتصر للخنساء وحفصة بنت الحاج الأندلسية وولادة وشهرزاد.
الكتابة والأنوثة
سيِرِي بِلا خَوْفٍ حُرُوفُكِ حُرَّةٌ كَالحُبِّ توجِزُ تَارَةً وَتُطِيلُ
فَهَلِ الكِتَابةُ أَحْمَرُ الشَّفَتَيْنِ أَمْ أَنَّ الكِتَابَةَ هُدْبُكِ المَكْحُوْلُ؟
أَمْ فَزَّةٌ فَوْقَ التُّرابِ، وَقَفْزَةٌ نَحْوَ السَّحَابِ، وَغَمْزَةٌ وَهُطُوْلُ
إسْوارَةُ المَحْبُوبِ، دُمْيَةُ طِفْلَةٍ عُكَّازُ شَيْخٍ، وَرْدَةٌ، وَصَهِيلُ
قَمَرٌ عَلى الشُّبَّاكِ سُبْحَةُ ذاكِرٍ سجَّادَةٌ وَتَبَتُّلٌ وَبَتُوْلُ
طِيرِي عَلَى ثِقَةِ اليَمَامَةِ بِالسَّمَا عُمْرُ الجَنَاحِ: يَمَامَةٌ وَهَدِيلُ
عطرُ المحارب نبلُ غايته، وعطرُ الشهيدِ دمُه، وعطرُ القائل كلمتُه
الكتابة الصادقة صلاة القلم البشري
«حين أجاد المغنى؛ قال أحدهم: لحنٌ جميلٌ؛ فشكر العازفَ، وقال الآخرُ: عزفٌ جميلٌ؛ فشكر الآلةَ، وقال الثالثُ: طربٌ جميلٌ؛ فشكر الأذنَ، وقال الأخيرُ: الله فكان الأوفى».
رفعتُ للهِ قنديلي فأوقدهُ
فهل تظنُّ يدًا في الأرضِ تُطفِئُني
أحمد بخيت شاعر مصري