No Image
عمان الثقافي

استشراف ملامح الأدب والفن الجديدين في غزة

24 يوليو 2024
24 يوليو 2024

سيمضي يوما هذا العامُ، لكنه لن يمضي فعلا؛ بما يتركه من أثر عميق، على مصير العالم، وليس فقط مصير الغزيين، فكيف سيكون التعبير عن كل هذا الألم المقترن بالأمل؟

لقد نمت هناك على الساحل المنكوب لغة جديدة، ولوحة تولد من أبيض القلب وسواد الدخان، وموسيقى «الزنانة وضحك الأطفال»، واسكتشات مسرحية عن الخبز والحب والمتفجرات، ثمة أفلام سينمائية من روايات الباقين، إنه الإبداع المجترح من وجع شديد، ولكن ثمة نافذة هناك تطل على السماء بعد أن دمرت الصواريخ جدران البيوت وسقوفها. سينشأ هنا أدب وفن لعلهما يؤثران على مجمل الأدب والفن في العالم وليس فقط في الدب والفن في بلادنا.

الواقع أكثر بلاغة، «كنزي تتساءل يوميا: متى ستنبت يدي مرة ثانية»، نقلها الأب آدم المدهون، عن طفلته: هذه حبيبتي وأميرتي كنزي، الحرب جرفت يدها اليمنى وكسرت جمجمتها وحوضها وساقها، وخطفت طفولتها بكل غدر ووحشية. كنزي تتعافى الآن من صدمتها وتخبرني أنها مثل سوبرمان خرجت من تحت الأنقاض لكن يدها لا تزال مفقودة حتى يومنا هذا!».

تكرر وصف أطفال غزة عن نمو الأطراف كما النبات في الحرب على البشر والشجر. تلك توصيفات الأطفال التي تعرفت على نمو البذور والأغصان، فرأت في أطرافها أغصانا بترت لتنمو من جديد.

لقد تطور الأدب والفن في غزة في العقدين السابقين، وصولا إلى السابع من أكتوبر عام 2023، الذي تجلت فيه المأساة كأعمق ما يمكن أن يكون، ذبح المدنيين وتدمير البيوت فوق ساكنيها، ثم ليخرج فتى بشبشب في قدميه، ليعطب أو يدمر أحدث أنواع الدبابات.

إنها الصدمة المزدوجة التي اقترنت فيها البطولة بالمجازر، مثيرة شعورا بالفخر من جهة وبالرثاء من جهة أخرى.

الأدب، شعرا وقصة ورواية ويوميات، والفن التشكيلي والتصوير وفن البوستر، والمسرح والسينما، والموسيقى والغناء، قطاع غزة الذي صار زنزانة تقصف ليلا نهارا، الذي صار فيه الموت أمرا عاديا، خلق لغة جديدة، بل حياة جديدة، من خلال الإصرار على الحياة.

في ظل الكوارث والحروب في العصر الحديث والمعاصر، فإن التعبير عما يدور من صدمات يرجع إلى المبدع نفسه وما يتوفر من أدوات. وفي ظل عصر التواصل الاجتماعي، فقد استخدم الغزيون مواقعه فيما أمكن للتعبير أولا عن البقاء، والمقاومة، ولو بشكل سريع، حتى يتسنى للكتاب والفنون تجويد ما عبروا انفعاليا بشكل سريع. بالإضافة إلى أن بلورة الشكل والمضمون الجديدين ما زالت في حاضنة الاختبار والتجريب. لذلك كان فن الكلام، فالصورة والبوستر، فاسكتشات الفن التشكيلي. وربما بضع فيديوهات توثيقية. فيما من المتوقع كما علمنا أن هناك تجريبا روائيا ومسرحيا يكتبان الآن، يتعلقان بالتعبير عن الوجود البشري في حيّز ضيق مزدحم بالبشر متعرض لتكرار النزوح والتعرض للقصف والموت، أي اختفاء أفراد من الحيّز.

في المدارس التي صارت كل غرفة تأوي مجموع أسر، تجمع الفتيان والفتيات في ساعة تعلق بالحياة فرقصوا وغنوا، لعله تعبير عن الحياة «ما استطعنا إليها سبيلا»، كما قال محمود درويش.

مظاهر وظواهر، ترى ما الفرق هنا في غزة الساحلية؟ تلك المظاهر، تتعلق بما يظهر من تجليات الحدث، فيما سيكون ذلك مآله الظواهر، في حال التكرار.

لن يكون ما بعد السابع من أكتوبر كما قبله، وسيتجلى ذلك أكثر ما يكون في الأدب والفن؛ سيكون أحد أهم مظاهره التخلص من الخوف الذي لم يضمن لشعوبنا لا العدالة ولا السلام.

قتل الخوف

نص «خيمة للعزلة» للكاتب شجاع الصفدي، الذي نشره مع أوائل يوليو، سيعدّه المؤرخون أحد تجليات التحرر من الخوف الأدبي، الذي يتعرض فيه الكاتب إلى مسألة يصعب الحديث عنها إلا في هذا المكان: «أحدهم يضحك ويحمر وجهه، يفكر بمشروع خيام للخلوة الشرعية، ما رأيك أن تشاركني؟ الخيام تكلفتها باهظة، وتوصيل المياه أيضا، ويستمر في سرد فكرته، يحتاج شريكا لديه المال، اقتطاع مساحة على شاطئ البحر منعزلة قليلا عن مراكز الإيواء، نصب ثلاثة خيام، تحويطها جيدا مع الحرص على التباعد، وتخصيصها للتأجير، مع الحفاظ على الخصوصية، أسمع ذلك وأقهقه، فلا يروقه الأمر، هل تظنني أمزح؟ يتحدث صاحبي بجدية، هذا مشروع ناجح، ثمانية أشهر لم يختلِ رجل بزوجته، ونحن نقدم خدمة فندقية شرعية وفقط نستضيف الأزواج بعد التأكد من الهويات وعقد الزواج.

لم يتركني إلا مع وعد أن أفكر بالأمر، وبينما مضيت في طريقي، كان يشغل تفكيري أمر آخر، كم سنة سوف تبقى حياة الخيام، الناس لم تستيقظ بعد من هول النكبات المتلاحقة، كل شيء سيبقى معلقا بيد الاحتلال مثل الريموت كنترول، أغلق افتح، هل هذه أهدافنا؟.... تذكرت وعدي لصاحبي أن أفكر في المشروع، هل يليق حقا إنشاء مشروع خيام فندقية للخلوة الشرعية؟

لا يتناسب الأمر معي من حيث المبدأ، يجب إعادة صياغة المشروع، قهقهت كالمجنون عندما تذكرت صياغات التفاوض في الدوحة والقاهرة، والإضافات والتعديلات، وما بين رفض وقبول!، فجأة ارتطمت بساقي قطعة من الخشب، أحدهم طارت منه بينما يقطع الأخشاب، نظرت بغضب، تمتم بشيء غير مفهوم يشبه الاعتذار، عليّ قبول ذلك، هذا أقصى ما يمكن أن يقدم زوج غاضب لا تتوفر له خيمة للخلوة، قهقهت مجددا ، نظر لي الرجل وقال: بيعوض الله.».

لكنه يتجاوز ما ذهب إليه من سخرية بألم إلى البحث عن الإخلاص من خلال الاعتزال:

«قفزت لذهني فكرة معدلة، خيام للعزلة!!، إنه أمر أرقى من خيام للخلوة، أليس كذلك؟ من يرغب بالعزلة؟، لا أعرف هل يقبل صاحبي شراكة من هذا النوع، أم أن خيام العزلة مشروع فاشل، زبائنه من الكتاب والشعراء الفقراء، ولا جدوى منهم!! يقول هاجس: هل تنتهي الحرب؟، يحتاج التفكير لخيمة عزلة. ترى ما الأنجع؟ خيمة للعزلة أم للخلوة؟»

لعل عبارة «زبائنه من الكتاب والشعراء الفقراء، ولا جدوى منهم!!» عبارة نقدية وناقدة بل تحمل في طياتها الثورة الأدبية، التي تبحث عما يكون من جدوى؟ جدوى الحياة بكل تجلياتها!

يوميات الصدمة:

قال لي الكاتب أكرم الصوراني «سأرسل لك وأحاول قادم الأيام بما تيسر من بقايا عقل لديّ.. إن أمكن سيكون»، كتب أكرم: أتمنى فقط ألا نفقد عقولنا، وأن نكون محظوظين بما فيه الكفاية لرؤية الفصل الأخير من كل هذا قبل أن نتبخر في الهواء.. واقعنا يفوق كل تصور، حتى في أحلك فصول التاريخ، لم يذكر مثل هذا القدر من القذارة..».

مظهر كتابة، بل وظاهرة، لعل توثيق ما يدور هنا كان هو السبب، فهذا الدكتور عاطف أبو سيف الروائي، ووزير الثقافة السابق الذي عاش جزءا كبيرا من الحرب داخل غزة، يجد نفسه في أتون الرواية الدموية؛ فلأن الصحافة والمنظمات الدولية غادرت غزة في بداية الحرب، فإن الحافز الذي دفعه إلى تأليف كتابه وقت مستقطع الذي يقعُ في 632 صفحة، هو الرغبة في عدم النسيان. «لم أبح بذلك لأحد من قبل إلا أنه في أشد اللحظات حلكة تحت وطأة الحرب المستمرة، كان يراودني هاجس أنه حتى لو مت، أريد للناس أن تقرأ عني».

يصدمنا الكاتب في قوله: «أقول دائما إنني لو غادرت شخصيات رواياتي عالم الرواية إلى العالم الحقيقي، لما تعرفت على الأمكنة، لأن معظمها تعرض للتدمير»، وصولا إلى مأساة عبارته: «لا أستطيع قراءة يوميات وقت مستقطع للنجاة».

«كتابة خلف الخطوط»، ثلاثة كتب أشرف عليها دكتور عاطف أبو سيف، تضمنت نصوصا تجمع ما بين الشهادة واليوميات وتأمل الألم إلى آخر مدى. من النصوص الموجعة كانت للفنانة هيفاء عبد السلام أبو جراد، وهي فنانة تشكيلية لجأت إلى عالم الكلمة. في نصها «في صباحِ اليوم الخامس والسبعين، دعيني أُسرح شعري علّني أشعر بشيء جميل، شعري أصبح كتلةً واحدة لا يمكن تمشيطه أو فك عقده، لا يوجد ماء للاستحمام سوى كل أسبوعين، أشتاق لحمام دافئ براحةٍ، أن أستمتع وأنا أستحم، ألعب بالصابون، أترك الماء ينساب على شعري بهدوء. أتخيل الماء البارد دافئا، وأحاول أن أخدع نفسي بأن الماء ساخن وجميل. لو أن هناك مرآة، أشتاق أن أرى نفسي ماذا حدث لوجهي! هل تغير شكلي؟! كيف أبدو بهذا الحزن؟! أشعر أنه أصبح حول عينيّ هالات سوداء، ووزني نقص، أتحسس وجهي وعينيّ، هناك خطوط حول عينيّ أنني أشعر بها بيدي، نحن النساء نحب رؤية أنفسنا بالمرآة كل لحظة، نرى أجسادنا الجميلة ونسأل المرآة كالعجوز الشريرة التي كانت في فيلم الكرتون بياض الثلج أخبريني يا مرآة من أجمل مني؟! كل أنثى تحب أن تكون هي الأجمل والأبهى. قالت لي ابنة أخي أن الشيب بدأ يظهر في مقدمة رأسي، آه يا ابنة أخي الحزن ختيار. الحزن يجعلنا نكبُر أعواما فوق عمرنا. أحضرتُ المقص وبدأت أقص خصلات من شعري بشكلٍ غير منتظم وأنا أبكي، وعندما انتهيت من قصهِ وجدتُ نفسي أشبه من خرج من مرحلةِ اكتئاب شديدة. أخذتُ الخصلات ووضعتها في كيسٍ. سأحتفظ بهنَّ إلى حينِ عودتنا إلى مدينتي، وسأقوم بزراعتها تحت شجرةِ الزيتون التي أمامَ منزلنا حتى تعود وتكبُر كما أخبرتني أمي دائماً: ازرعيها تحت شجرة الزيتون وستكبر.

متى سنعودُ يا أمي ومتى سَيكبُر الزيتون ويَكبر معهُ شعري؟!

على ذكر أختي.. أنا وهي نتقاسم الفراش ننام على فرشةٍ واحدة وغطاء واحد. الجو بارد جدا كيف لا يكون باردا وهذه هي ليالي الشتاء القارصة البرد أو كما تسميها أمي (الأربعينية). أختي وهي نائمة تسحب الغطاء عليها فأشعر بالبرد أنا، أقوم بقرفصة رجليّ وأنكمش لكي لا أقوم بسحب الغطاء عنها أقول: «حرام بردانة أكيد». تستيقظ هي فتجد نفسها ساحبة الغطاء فتقوم بتغطيتي. أنا أطول منها، فأقدامي تكون خارج الغطاء فتقوم بتغطية أقدامي وتقول لي: «اتدفي..».

بدأت أمشي وأنا أنظر هنا وهناك لا أعلم ما الذي حدث هنا، مدارس مكتظة بالسكان، مياه صرف صحي بالشوارع، قمامة في كل مكان، أخرجت هاتفي لألتقط بعض الصور والمشاهد لأحتفظ بها ولكن لم أستطع، سأحتفظ بالمشاهد في ذاكرتي أعتقد أنها لن تُمحى ولو بعد أعوام، فكرت ماذا سألتقط؟! الخراب والدمار، الأطفال الباعة هنا وهناك الأطفال الذين خسروا سنة دراسية من حياتهم وأصبحوا يبيعون ويتسولون، رؤيتهم هكذا تفطر القلب، شباك المدرسة الذي يتجمع حوله مئات بل الآلف من الرجال والنساء لاستلام القليل من المعلبات، مكتوب ورقة على الشباك العائلة التي لديها 11 شخصا وأكثر تحصل على علبتين من الفول وعلبة جبنة؟!

نسيت أن أنظر للسماء أين هي لم أرها؟! كأن أعداد السكان غطت السماء وحجبت الشمس.

واصلت المسير وأنا أتشبث بذراع أختي الأصغر مني خوفا من أن أضيع بين الزحام، نعم خفت وأنا الكبرى، فهنا لا تعلم من يواسي من، ومن يحتضن خوف من، ومن يطمئن من، هنا الجميع مكلومون.

غازلني شاب ثلاثيني، لا أعلم ما هي المشاعر التي اجتاحتني حينها، هل أبتسم لأنني لم اهتم لهكذا مغازلة؛ فقد افتقدنا الحب في هذه الحرب؟

بينما كتبت أميرة حمدان: أردت أن أكتب، لكني لم أجد يدي، تكتبني الفكرة بدلا من تلك اليد، أعتقد أنني أرهقتها في إشعال النار، حمل الحطب، ونفض الرمال عن كل ما يحيط بنا من أدوات وملابس ووجوه. وحين فرغت لم أجد جدارا أستند إليه فاستندت إلى ذات اليد حتى نامت أحلامي للأبد، تكتبني الأوجاع جرحا سرمدي النزف، يكتبني الصبر ملحا لهذا الجرح ، تكتبني الأوراق التي دسستها تحت نار الموقد فتشتعل آلامي كل صبح وظهر وعصر، حتى إذا جاء الليل انطفأت روحي تماما مثل قنديل بلا زيت، فتصير خيمتي خيبتي، ورحلتي محنتي، تكتبني المدينة رقما سالبا جدا لا أساوي صفرا ولا حتى أبلغه!

حامد عاشور وكلبه:

«دخل هذا الكلب بيتي مع مجموعة من الناس الذين كانوا يهربون من القصف في الليل وأقاموا فيه حتى خروجهم في الصباح تاركين الكلب بلا اسم أو صاحب. كان يحفظ دخاليج البيت كأنه تربى هنا، يهرب من غرفة النوم إلى أرض الديار ومن الحديقة الخلفية إلى سطح البيت متناغماً مع صوت الغارات في محيطنا، يتموضع في المكان الأكثر أماناً قبل أن تفزعه القنابل ظل صامداً. معي ثلاثة أيام من لحظة الاجتياح، تقاسمنا الخوف والنباح والشظايا واللحم المعلب. لا هو كلبي ولا أنا صاحبه لكننا نعيش معاً المصير نفسه، خرجنا نركض ونقفز برشاقة من بين القذائف، لا نحمل شيئاً غير مفتاح لباب البيت المفتوح دائما، حفاة القلب والعقل والأقدام، شيدنا عريشة من الخِرَق القديمة وبعض البوص وسعف النخيل، نتناوب عليها مثل صديقين. أحدنا ينام ليحلم بالعودة والآخر يسهر ليحرس الحلم والطريق. لا هو كلبي ولا أنا صاحبه. هكذا كان يتعلق الغرباء في بيتي، فما بالكم أنا!

لقد عرض عالم التواصل اجتماعي لجوء الكلاب والقطط للأهالي المنكوبين، وثمة الكثير من القصص التي يمكن أن تكتب عن تضامن الغزيين مع الكائنات.

البقاء

من مظاهر الحرب وظواهرها في غزة هو البقاء، بكل الأشكال،

الفنان التشكيلي ميسرة البارودي، اختار رسم يومياته، معنونا كل بُوست ينشره: ما زلت حيا.

يقول عن تنقله بحثا عن الأمان: لقد وصلنا بعد مشقة إلى المنزل الذي كان يأوينا قبل خمسة أشهر. لقد وصلنا ووجدنا ما تبقى منه. واليوم ما تبقى (ومن تبقى) منا يقيم فيما تبقى من المنزل الذي يقع فيما تبقى من الحي. وفيما تبقى من غرفة بحثت لنفسي عن مساحة جديدة للرسم. مساحة تتسع لأوراقي وأقلامي وبعض أفكاري. مساحة فيما تبقى من غرفة بلا جدران تطل على أفق واسع أشاهد من خلالها على امتداد البصر ما تبقى من المدن التي تركتها خلفي تحترق.

من جهة، اختارت الفنانة رنا البطراوي العمل مع الأطفال في صناعة كوانين (جمع كانون) فخار للنار. والكانون هو وعاء كان يستخدم للطبيخ وتسخين الماء كذلك للتدفئة شتاء، حيث تمت العودة إليه في غزة خلال الحرب.

يجلس الأطفال تحت ظلال ما تبقى من شجيرات، ينهمكون في العمل في حين بدت سحنهم متأثرة بما عاشوه من فظائع، فكأنهم هنا إنما يعبرون عن إصرارهم على البقاء، بل واختيار الفن وسيلة للبقاء.

إنها ورشة في الفن التطبيقي استخدمت فيها البطراوي خبرتها في عمل المنحوتات، وقد اختارت هنا الفخار، كون مادته الطينية متوفرة في أرض غزة. يجيء هذا العمل لإسعاد الأطفال وتوفير كوانين لعائلات الأطفال، بما يعلمهم مهارات فنية. وقد تمت الورشة من خلال فرع جامعة دار الكلمة في غزة التي مقرها الرئيس في مدينة بيت لحم.

ويبدو أن الفنانة البطراوي، هي أيضا، تصرّ على البقاء والتواجد الفني، في المتحف القومي المصري في القاهرة حيث خاطبت الجمهور: «جئتكم لأننا سننجو ونستمر رغم الحزن والحداد، من خلال مشاركتي بالجناح الفلسطيني في ملتقى التمكين بالفن النسخة الثانية...».

فيما أكدّت البطراوي أن لوحاتها المعروضة في المتحف الفلسطيني في بلدة بير زيت، القريبة من رام الله، في إطار تظاهرة «هذا ليس معرضًا»، هي الوحيدة الناجية لها، بعد قصف منزلها ومرسمها، وتأكيد تدمير محترف شبابيك للفنون المُعاصرة في غزة، في سياق تعرض لوحات كثيرة للتدمير. وكان لافتًا أن البطراوي لا يفارقها الهاجس الدائم بأن غزة على الدوام مُعرضة للحروب وللدمار.

القادم؟

تقول البطراوي: إنها كفنانة، وربّما غالبية الفنانات والفنانين في غزّة، لم يسألوا أنفسهم بعد ما الذي هم مُقدِمون عليه، وما هي مشروعاتهم الفنيّة، أو أعمالهم الآتية، في مستقبل قريب أو بعيد، وإن كان بعضهم يقوم برسم «اسكتشات» خلال الحرب فهي عبارة عن تفريغ من جهة، وشعور بالبقاء على قيد الحياة من جهة أخرى، أو توثيق ما لما يعايشه، خاصة مع غياب كل مقوّمات الحياة في القطاع، ومع لا جدوى الوقت، بانتظار أي صاروخ قد ينهي حياته، أو حيوات من يحبهم ويحبّونه، مؤكدة أنها تنتظر أن يتوقف شلال الدم في غزة لتكون قادرة على التفكير في مشروعات فنيّة مستقبلية.

وأكدّت البطراوي على أن ثمة شكوكًا تسكنها، وربّما غيرها من المبدعين، بخصوص ما إذا كانوا قادرين عبر الفن على التعبير عمّا حدث ويحدث في غزة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر الماضي، خاصة مع اختلاف هذه الحرب عن سابقاتها، «حيث عشنا جميعنا أكثر من نزوح، وخسرنا منازلنا، وبعضًا أو كثيرًا من أحبّتنا».

وحول سؤالنا للفنانة البطراوي، عن ظهور مضامين وأشكال فنية جديدة، ذكرت أن ذلك سيحدث لكن ليس في الوقت الحالي؛ فما زلنا والكلام للبطراوي، تحت تأثير الصدمة.

الصبر العظيم

محمد أبوسل يستكشف نبات الصبّار الذي صار رمزًا للمقاومة في ثقافتنا الفلسطينيّة؛ ففي كلّ مرّة تعمل آليّات الاحتلال الإسرائيلي على جرفه واقتلاعه، يشقّ الأرض ويعاود الخروج من جديد.

إنها فعاليّة تستضيف في بير زيت عن بعد الفنّان الغزّي أبو سلّ في حوار حول رمزيّة الصبّار في أعماله الفنيّة، وكيف يستمدّ منه الصبر والتجلّد، ويحوّله إلى تحفة بصريّة تذكّرنا بغنى المشهد الطبيعي في فلسطين، ومن خلال الرسم سيتعرف أطفال رام الله على خصائص هذا النبات وأنواعه وألوانه، ليزرعوه في حدائق المتحف».

ترى لو أن ماسلو كان على قيد الحياة، كيف سيعيد تقديم نظريته عن هرم الحاجات؟ وكيف سيحلل مثلا اهتمام من لم يتوفر لهم الماء ولا الطعام ولا الأمان بالثقافة والفن والقراءة والكتابة؟ يروي الروائي عاطف أبو سيف عن صفحة الكاتب سائد حامد أبو عيطة: «أجمل مكتبة بيع كتب في العالم. في دير البلح (أو الداروم كما يقول أجدادنا الكنعانيون) وبين خيام النزوح والبيوت المهدمة هذا الفتى مازال مصرًّا ومؤمنًا يقينًا أن الكتاب خير جليس في كل الأزمان حتى حين تهدم الدبابة البيت وتتحول البناية إلى خيمة ونصبح نازحين. أليست هذه أثمن مكتبة بيع كتب في الكون؟!.

ولعل البقاء يتجلى في مشاركة المصابين من الغزيين والغزيات الذين يتلقون العلاج في مصر، في «الورشة الفنية التي يقوم عليها مجموعة من الفنانين والمعماريين من غزة في المركز الفرنسي في القاهرة ويشارك فيها طلاب الفن والعمارة والعاملون في القطاعين الفني والهندسي تتضمن تطوير أفكار وأعمال فنية من مواقع الكارثة التي عاشوها خلال الإبادة».

استعادة

ظاهرة استدعتها الإرادة النفسية لتوثيق ما كان من وطن، قبل التدمير، ولعل لذلك علاقة بالحنين والبكاء على الأطلال. «بعد خمسين عامًا، أو أقل، ستحكون لأولادكم وأحفادكم قصصًا لن يصدقوها، وحين يمر الوقت، ستشُكّون أنتم في صدقها، ليس لأنها لم تحدث، ولكن لأنها كثيرة على ذاكرة واحدة».

خالد جمعة أحد أهم الشعراء الفلسطينيين الذي ترسخ اسمه كشاعر وكاتب في هذه الحرب:

في نصه الاستعادي بعنوان «هنا سرقنا البرتقال»، نقرأ:

في طفولتنا، وحتى مراهقتنا، كانت غزة عبارة عن غابات من البيارات، حرفيا، من رفح قبل تقسيمها إلى بيت حانون، خمسة وأربعون كيلومترا من البيارات، وبما أن أبي كان يعمل في «ضمان البرتقال»، فإني أجزم بأنني زرت جميع بيارات قطاع غزة معه، من بيارات الشوا في الشمال إلى بيارات الحارون في الجنوب. هناك سرقت البرتقال عن الشجر، رغم أنه كان متوفرا في بيتنا لدرجة توزيعه على الجيران، لكن للبرتقال عن الشجرة وبمجهودك الشخصي طعم آخر.

اليوم، لا أحد يمكنه أن يسرق برتقالا، ولا جريفوت (جريب فروت)، ولا ليمونا، ولا بوملي، ولا كلمنتينا، ولا مندلينا، ولا فرنساوي، ولا بلنسيا، ولا شموطي، ولا أبو صرة، ولا دم الزغلول، ولا حتى خشخاشًا، ذلك الشجر الذي هو أصل كل أشجار الحمضيات، والذي كان المزارعون يحيطون به البيارات من الخارج؛ لأنه مر لا يؤكل وبذلك يصعّب عملية السرقة.

ليس السبب في عدم القدرة على سرقة البرتقال أنهم وضعوا المزيد من الأسلاك حول البيارات، ولا أنهم ربوا كلابا مدربة على الحراسة، بل ببساطة، لأنه لم تعد هناك شجرة برتقال واحدة صالحة للسرقة.

ولعل نصه «لكل إنسان مدينة، ورفح مدينتي»، هو نص لافت:

لن أخترع تاريخا لرفح، فرمالها تاريخها؛ لأنها مفصلُ بوابةٍ بين بلدين وقارتين؛ ولأنها في حضن انحناءة البحر الأخيرة قبل أن يسافر شرقا، فقد أعطاها الغزاة عيونهم كي ترضى، ولم ترضَ.

فتحتُ عيون طفولتي على المدينة في بيتٍ يجاور «سكة الحديد»، كان بيتنا يقع جوار النجمة الحالية، بابه يفتح غربا على بيوتٍ ما زلت أذكر أصحابها واحدا واحدا حتى آخر الشارع الطويل، أما شمال بيتنا، فبعد الحاكورة الصغيرة التي تفصله عن بيت «أبو خاطر»، كان حانوت إسماعيل سلمان المجاور لعيادة الدكتور محمود جمعة، وجنوبا يقع بيت أبو فايز القيسي وبعده مدرسة الوكالة الإعدادية، أما شرق بيتنا وما أدراك ما شرق بيتنا، حيث يكفيك أن تتجاوز سكة الحديد التي تبعد عن بيتنا 30 مترا فقط، لتدخل عالم البيارات، بيارة الرميلي، بيارة قشطة، بيارة أبو طه، بيارة سلمان... إلخ.

تعلمت في روضة «العدلوني» التي كانت تعرف بالروضة الزرقاء، لتمييزها عن الروضة الحمراء جوار محطة القطار الذي ظل يعمل حتى حرب 1973، وتحتل معلمتا الروضة ذكرياتي مع ابن عمي بسام، أبلة امتياز وأبلة رسمية. حين بدأت في تكوين الذكريات، جاء ممثل عن شارون وقال لأبي في الرابعة صباحا: عليك أن تخلي البيت قبل انتصاف النهار... نريد أن نهدمه لننشئ شارعا تستطيع فيه آلياتنا أن تتحرك بسهولة، وقد كان بيتنا أول الضحايا في شارع «خرط» المخيم، بعرض 55 مترا وطول 450 مترا، وانتقلنا في نفس المخيم إلى بيت كانت تملكه «عمتي عزيزة» المتزوجة في عمّان، واشتراه أبي منها لاحقا، لكني أصبحت «ابن حارة غريبة»، خصوصا أن صديق طفولتي الوحيد وقتها «بسام» قد رحل إلى خانيونس مع أهله.

تفاصيل مدينة رفح عموما، ومخيم الشابورة خصوصا، تحضر بشكل دراماتيكي عند كل حدث، أماكن رفح ومفاصل جغرافيتها، من البحر غربا بطول شارع البحر الذي أسمته البلدية «شارع أبو بكر الصديق»، الذي يمتد من البحر إلى الحدود الشرقية في قرية الشوكة، مرورا بتل السلطان ومخيم الشعوت، وسوق المخيم ومنطقة المطافي ودوار العودة إلى الجوازات ومنطقة كازية الشويخ، ومن مصبح شمالا إلى خربة العدس ومنطقة «المضاة» إلى مخيم الشابورة ثم إلى دوار العودة وسوق «الشعرا» ثم الحدود مع مصر التي وضعت عام 1982، ومخيم البرازيل على يسار الشارع وبلوك أو على يمينه، وشارع فاطمة الخطيب في وسط المدينة حيث يمر إلى مدرستها وبيتها في مخيم يبنا.

لا أحد من خارج مخيم الشابورة يعرف الاستقطاب المذهل بين «حسن المدلل»، و«فضل»، بائعي الفول والفلافل المتقابلين في شارع «أم الحبيب» بائعة الترمس، فإن كنت من زبائن أحدهما فلن تستطيع الشراء من الآخر حتى لو متّ من الجوع...

كل هذا عدا عن غابات البرتقال في المدينة، والتي اختفت مع «الحضارة»، وحلت محلها أبنية بعد أن قطعت البيارات وأشجار الكينا وصار بإمكانك أن ترى مدرسة بئر السبع من مخيم الشابورة بعد أن كان ذلك متعذرا في السابق.

رفح ليست مجرد مدينة، فحتى «هبلانها» عبارة عن قصص يمكن أن توضع في روايات، من الشيخ محمد، إلى الشيخ بطاطا، إلى عبد الحكم وأبو طلال، إلى نعنوش... وبقية الأسماء، إلى شهدائها الذين يرقدون في مقبرتها الشرقية ومقبرة المخيم، ومقبرة الزعاربة، والمقابر الجديدة التي استحدثت لتستوعب كل هذا الجنون.

رفح مدينة الورد الذي كان يصدر إلى أوروبا ويحتل مكانا مميزا في بورصة الورد في أمستردام، رفح المدينة التي كنا نرى فيها موشيه ديان بمخلاة من القماش على كتفه وهو يبحث عن الآثار في منطقة الزعاربة غرب المدينة، رفح يشعر من يذهب إليها أنه جزء منها، ولو كانت زيارته إليها خاطفة.

نختتم بجزء من قصيدة خالد جمعة:

«في هذي المساحات الشاسعة أمامكَ

بفِضَّتِها السائلة

بغوايات بناتٍ صغيرات

يلعبن بالحبلِ على بقايا البيوت

يمكنك أن تلملمَها في كيسٍ مخمليٍّ

وتدّعي أنك ستملأها قُبَلاً وأشجاراً

وتنظّف السماء من الدخان

والأوديةَ من الجثث

لكن عليك أولاً

أن تعدّ الفطور للأطفال الجالسين في الظل اللاهب

فأمهاتهم لم يلمسن الطحين كما تعرف

هي عادة الأمهات (السيئة)

«حين يمتن ويتوقفن عن صنع الخبز»

عليك أن تحمّمَهم من الحزن الذي تراكم على جلودهم

وتسكّن كل حروف اللغة حين تكلمهم

واكتب أسماء الراحلين على الشوارع

[إذا وجدتَ ما يكفي من الشوارع]

ضع الكلامَ كلّه في أكياسٍ من خجل

وإياك... ثم إياك

أن تسمح لطفلٍ واحدٍ بالسؤال

كي لا تقف أنت والتاريخ معا

محرجين من الإجابةْ»

بقيت غزة، وستبقى، ومن ذلك البقاء الثقافي كمظهر جمالي وجوهري للحياة، وهي في ظل كفكفة الدموع، يرتقي مبدعوها لما يكون، فنقرأ ونسمع ونرى تجليات الصدمة، منتهى الألم ومنتهى الأمل. إبداع متحرر من الخوف، يعيد الاعتبار لمعنى الحياة بكل تفاصيلها: معنى أن تكون حيا وعلى قيد الحياة، واقعا ورمزية وجودية عن معنى أن نكون فعلا.

تحسين يقين كاتب فلسطيني