إدواردو جاليانو يؤرخ للعلاقة بين الكرة والسياسة: ألعاب الحماقة
وصف الكاتب الأوروجواياني إدواردو جاليانو نفسه بأنه «كاتب مهووس بالتذكر، بتذكر ماضي أمريكا، وقبل كل شيء ماضي أمريكا اللاتينية، الأرض الحميمة ذات الخصوصية والتي حُكم عليها بفقدان الذاكرة».
في كل أعمال جاليانو ستجد هذا الحفر المستميت والدؤوب والمتقن في الأرشيف وفي الذاكرة لإضاءة أبعد المناطق وأكثرها ظلمة في تاريخ بلده أوروجواي، وفي تاريخ شعوب أمريكا، وكذلك في الثقافات العالمية الشبيهة.
في كل عمل لجاليانو رغبة متقدة ومحمومة وواثقة في ترك نقوش بارزة وكتابات على أحجار وأوراق وعلامات في الطريق يسهل تتبعها وربطها ومن ثم تكوين صورة لكل ماضٍ يسافر إليه، والمثال البارز هو كتابه الصغير الفذ «كرة القدم بين الشمس والظل».
لغة هذا الكتاب برغم أن فيها المعلومة والتاريخ أقرب إلى لغة الشعر، كل مقطع من الكتاب يشبه قصيدة، ولذلك فإن هناك صعوبة في عرضه، أو في إعادة صياغة ما يكتبه جاليانو، فهذا يشبه محاولة صياغة قصيدة رائعة بلغتك وأسلوبك أنت، ولذلك فالأفضل تقديم حكاياته كما كتبها، لتصل إلى الناس بنفس مذاقها، ونكهتها.
حظي كتاب جاليانو مثل معظم أعماله بالتقدير المناسب، لكنَّ نجاحه الحقيقي في مقروءيته الكبيرة، فقد تُرجم إلى عدد كبير من اللغات العالمية، وكلما مر على صدوره زمن تبدو الحاجة ملحة إلى إعادة قراءته. الأجيال الجديدة، صار بإمكانها ممارسة اللعبة وهي تجلس على كرسي، وتتحكم في لاعبين عالميين عبر ذراع التحكم في لعبة «فيفا» أو «البلايستيشن» وبرغم تفتح عيون تلك الأجيال على قوانين شديدة الاختلاف تخص اللعبة، إلا أنها تلجأ إلى تلك الحكايات القديمة لتعيش حكايات مسحورة.
يتتبع جاليانو تاريخ كرة القدم، وكيف نشأت، وتطورت، وكيف كانت عناصر اللعبة وماذا أضحت، مثل الحكام والجمهور والقوانين وغيرها، إلا أنه يقدم كل شيء في قالب أدبي ممتع جعل اللعبة أسطورة تشبه أساطير أمريكا اللاتينية، كأن ما يتعلق بكرة القدم وماضيها تحديدًا ليس واقعيًا وإنما يندرج في باب الغرابة وحدها.
وهذه بعض حكايات جاليانو..
يقول إن «كرة الصينيين مصنوعة من الجلد ومحشوة بالقنب، وأن المصريين في زمن الفراعنة صنعوها من القش أو من قشور الحبوب، ولفوها بأقمشة ملونة. وكان الإغريق والرومان يستخدمون مثانة جاموس، منفوخة ومخيطة. أما أوروبيو العصور الوسطى وعصر النهضة فكانوا يتنازعون فيما بينهم كرة بيضاوية مملوءة بشعر أعراف الخيول. ويروي مؤرخو البلاط الملكي الإسباني أن هيرنان كورتيس قذف كرة مكسيكية وجعلها تطير عاليًا جدًا أمام عيني الإمبراطور كارلوس الزائغتين.
الكرة المطاطية التي تُنفخ بمنفاخ والمغطاة بطبقة من الجلد، بحسب جاليانو، ولدت في أواسط القرن الماضي، بفضل عبقرية تشارلز جوديير، وهو أمريكي شمالي من كونكتيكت. وبفضل عبقرية توسوليني، وبالبونسي، وبولو وهم ثلاثة أرجنتينيين من كوردوبا، وُلدت بعد زمن طويل من ذلك لعبة الكرة دون لمسها باليد. هم من اخترعوا الإطار الداخلي المزود بصمام، والذي ينتفخ من خلال حقنه بالهواء، ومنذ مونديال 1938 صار بالإمكان ضرب الكرة بالرأس دون خوف من الأذى الذي كان يسببه الرباط المستخدم سابقا في ربط الكرة.
في كرة القدم، كما في كل شيء تقريبا، كان الصينيون هم الأوائل. فمنذ خمسة آلاف سنة كان البهلوانات الصينيون يُرقّصون الكرة بأقدامهم، وكان أن نُظمت أول ألعاب الكرة في الصين. كان المرمى في الوسط، وكان اللاعبون يسعون ألا تلمس الكرة الأرض، دون أن يلمسوها هم أنفسهم بأيديهم. وقد استمرت هذه العادة من سلالة إلى أخرى، كما يظهر في بعض النقوش التذكارية التي تعود إلى ما قبل المسيح، وكذلك في بعض الرسوم التالية التي تُظهر صينيي سلالة مينغ وهم يلعبون بكرة تبدو كأنها من ماركة أديداس.
ومن المعروف أن المصريين واليابانيين في العصور القديمة كانوا يتسلون بتبادل ركل الكرة. وعلى رخام قبر إغريقي يعود إلى ما قبل المسيح بخمسة آلاف سنة، يظهر رجل يلاعب كرة بركبته. وفي كوميديات انتيفانيس هناك عبارات ذات مغزى، مثل: كرة طويلة، تمريرة قصيرة، كرة متقدمة»...
ويضيف: «يقال إن الإمبراطور يوليوس قيصر كان يتقن استخدام كلتي ساقيه في لعب الكرة وإن نيرون لم يكن ماهراً في اللعب: وعلى أي حال، ليس هناك من شك في أن الرومان كانوا يلعبون لعبة شديدة الشبه بكرة القدم حين كان المسيح وحواريوه يموتون على الصلبان.
وعلى أقدام الرومان القدماء وصلت البدعة إلى الجزر البريطانية. وبعد قرون من ذلك، وتحديدًا في عام 1314، مهر الملك إدوارد الثاني بخاتمه وثيقة ملكية تدين هذه اللعبة الرعاعية والصاخبة: «هذه الاشتباكات حول كرات كبيرة الحجم، التي تنتج عنها شرور كثيرة لا يبيحها الرب»، وكرة القدم التي كانت تسمى بهذا الاسم منذ ذلك الحين، كانت تخلف أعدادًا من الضحايا. فقد كانوا يتنافسون في جماعات كبيرة، ولم يكن هناك تحديد لعدد اللاعبين، ولا لمدة اللعب ولا لأي شيء آخر. فقد كان شعبا بكامله يتبادل ركل الكرة ضد شعب آخر، ويدفعونها بالأقدام والقبضات نحو الهدف الذي كان في ذلك الحين عجلة طاحونة قديمة. وكان اللاعبون يصطفون على امتداد عدة فراسخ، ولعدة أيام، وبتكلفة تصل إلى عدة حيوات بشرية. وقد منع الملوك هذه المباريات الدموية: ففي عام 1349، ضم الملك إدوارد الثالث كرة القدم إلى «ألعاب الحماقة التي ليست لها أي فائدة» وهناك مراسيم ضد كرة القدم ممهورة بتوقيع هنري الرابع في عام 1410، وهنري السادس في عام 1547. ولكنهم كلما كانوا يمنعونها كان اللعب يزداد، مما يؤكد القدرة التحريضية لكل ما هو محظور».
وهذه قصة أخرى: «في عام 1592، لجأ شكسبير في مسرحيته «كوميديا الأخطاء» إلى كرة القدم ليصوغ شكوى إحدى شخصياته: إنني أتدحرج فيما بينكم بطريقة... أتراكم اتخذتموني طابة كرة قدم؟ أنتم تركلونني إلى هناك، وهو يركلني إلى هنا. فإذا ما بقيتُ في العمل فلا بد لكم من أن تغلفوني بالجلود.
وبعد سنة من ذلك، في مسرحية «الملك لير»، كان الكونت كينت يشتم أحدهم بهذه الكلمات: أنت، يا لاعب كرة القدم الحقير!
وفي فلورنسا كانت كرة القدم تسمى كالشو مثلما تسمى حتى الآن في إيطاليا كلها. وكان ليوناردو دافنشي مشجعاً متحمسا، وميكيافيلي لاعبا ممارسا. وكان تشارك في اللعب فرق من 27 رجلًا، موزعين على ثلاثة خطوط، يمكنهم استخدام الأيدي والأقدام لضرب الكرة، ولبقر بطون خصومهم. وكانت الحشود تتوافد إلى المباريات التي تجري في أوسع الميادين وفوق مياه نهر آرنو المتجمدة. وبعيدًا عن فلورنسا، في حدائق الفاتيكان، اعتاد البابوات كليمنت السابع، وليون التاسع، وأوربانو الثامن أن يشمروا ثيابهم لكي يلعبوا الكالشو.
وفي عام 1872 ظهر الحكم. وكان اللاعبون حتى ذلك الحين هم حكام أنفسهم، يفرضون العقوبات على المخالفات التي تحدث. وفي عام 1880 كان الحكم يحمل جهاز توقيت في يده ليقرر متى تنتهي المباراة، وكانت له سلطة طرد من يسيء التصرف خارجا، ولكنه كان لا يزال يوجه المباراة بإطلاق الصرخات من خارج الملعب. وفي عام 1891 دخل الحكم لأول مرة إلى الملعب نافخًا في الصفارة، وأُقرت أول ضربة جزاء في التاريخ حين خطا الحكم اثنتي عشرة خطوة محددًا نقطة توجيه الضربة. وقبل سنوات من ذلك، كانت الصحافة البريطانية تشن حملة لصالح إقرار ضربة الجزاء. فقد كان لا بد من توفير الحماية للاعبين عند فم المرمى الذي كان مسرحًا لمجازر دامية. وكانت مجلة ويستمنستر جازيت قد نشرت قائمة مرعبة بأسماء اللاعبين الذين قضوا نحبهم أو تكسرت عظامهم هناك».
وحتى يمكن فهم كيف كان الناس ينظرون إلى كرة القدم يكتب جاليانو: عند سور مستشفى للمجانين، في ميدان مقفر في بوينس آيرس، كان بعض الفتيان الشقر يتقاذفون كرة بأقدامهم.
سأل طفلٌ: من هم هؤلاء؟ فأخبره أبوه: إنهم مجانين. إنجليز مجانين.
الصحفي خوان خوسيه دي سويثا رييللي يتذكر هذه الحادثة من طفولته. ففي الأزمنة الأولى، كانت كرة القدم تبدو لعبة مجانين في منطقة ريو دي لابلاتا (الأرجنتين وأوروجواي). ولكن في أوج التوسع الإمبراطوري البريطاني، صارت كرة القدم سلعة بريطانية للتصدير لا تقل شهرة عن أقمشة مانشستر أو القطارات أو قروض مصرف باريتجز أو مذهب حرية التجارة. كانت اللعبة قد وصلت إلى أمريكا اللاتينية مع أقدام البحارة الإنجليز الذين كانوا يمارسونها فيما حول أرصفة ميناءي بوينس آيرس ومونتيفيديو، بينما كانت سفن جلالته تُفرغ عباءات البونتشو والأحذية والدقيق، وتُحمّل الصوف والجلود والقمح لتُصنّعه هناك بعيداً وتحوله إلى مزيد من عباءات البونتشو والأحذية والدقيق. وقد كان المواطنون الإنجليز، من دبلوماسيين وموظفي سكك حديدية وغاز هم من شكلوا أول الفرق المحلية في أمريكا اللاتينية. وأول مباراة دولية جرت في أوروجواي، في عام 1889، كانت مواجهة بين إنجليزيي مونتيفيديو وبوينس آيرس تحت صورة ضخمة للملكة فيكتوريا، بجفونها المتهدلة، وتكشيرتها المزدرية. وقد رعت صورة أخرى لملكة البحار نفسها في عام 1892، أول مباراة لكرة القدم البرازيلية تنافس فيها مواطنون بريطانيون يعملون في شركة الغاز وفي سكك حديد ساو باولو».
الصور القديمة، كما يسرد جاليانو، تُظهر أولئك الرواد محاربين مهيئين للمعركة. فدروع القطن والصوف تغطي كامل أجسادهم، حتى لا يجرحوا مشاعر النساء اللائي كن يحضرن المباريات وهن يعتمرن قبعات حريرية ويهوّين بمناديل من الدنتلا. لم يكن اللاعبون يكشفون سوى وجوههم ذات النظرات القلقة والشوارب ذات الأطراف المدببة التي تطل من تحت القبعات. وكانوا ينتعلون في أقدامهم أحذية ثقيلة من نوع مانفيلد.
ويقول: العدوى لم تتأخر طويلا. فعاجلا وليس آجلا، بدأ رجال المجتمع المحلي بممارسة ذلك الجنون الإنجليزي. فاستوردوا من لندن القمصان والأحذية وواقيات قصبة الساق والسراويل التي كانت تمتد من الصدر إلى ما تحت الركبتين. ولم تكن كرات كرة القدم تلفت أنظار رجال الجمارك الذين ما كانوا يعرفون كيف يصنفون تلك الأشياء: «في 1880، في لندن، سخر ريديارد كيبلينج من كرة القدم ومن «الأرواح الصغيرة التي يمكنها أن ترتوي برؤية الحمقى الذين يلعبونها» وبعد قرن من ذلك، كان خورخي لويس بورخيس، في بوينس آيرس، أكثر خفة: فقد ألقى محاضرة حول موضوع الخلود في اليوم نفسه، والساعة نفسها، التي كان فيها المنتخب الأرجنتيني يخوض مباراته الأولى في مونديال 1978. احتقار الكثير من المثقفين المحافظين لكرة القدم كان يستند إلى اليقين بأن عبادة الكرة هي الشعوذة التي يستحقها الشعب، فالغوغاء المصابة بمس كرة القدم تفكر بأقدامها، وهذا من خصائصها، وفي هذه المتعة التبعية تجد نفسها. فالغريزة البهيمية تفرض نفسها على الجنس البشري، والجهل يسحق الثقافة، وهكذا تحصل الدهماء على ما تريده، وهناك في المقابل مثقفون يساريون كثيرون يزدرون كرة القدم لأنها تخصي الجماهير وتحرفها عن النشاط الثوري».
ويحكي: «في صيف 1916، في أوج الحرب العالمية، اندفع نقيب إنجليزي إلى الهجوم وهو يشوط كرة. فقد قفز النقيب نيفيل من المتراس الذي يحميه، وراح يركض وراء كرة متقدمًا الهجوم باتجاه الخنادق الألمانية. ولحقت به فرقته التي كانت مترددة. لقد قُتل النقيب بقذيفة مدفع، ولكن إنجلترا استولت على تلك الأرض واستطاعت أن تحتفل بالمعركة باعتبارها أول انتصار لكرة القدم الإنجليزية في جبهة الحرب.
بعد سنوات طويلة من ذلك، وفي أواخر القرن تقريبا، كسب صاحب نادي ميلان الانتخابات الإيطالية تحت شعار قوة إيطاليا المأخوذ من مدرجات ملاعب كرة القدم. لقد وعد سيلفيو بيرلوسكوني بإنقاذ إيطاليا مثلما أنقذ نادي ميلان، الفريق الخارق وبطل الجميع، وقد نسي الناخبون أن بعض شركاته كانت على حافة الانهيار. كرة القدم والوطن مرتبطان على الدوام، وكثيرا ما يضارب السياسيون والديكتاتوريون بهذه الروابط. ففصيلة كرة القدم الإيطالية ربحت مونديالي 34 و38 باسم الوطن وموسوليني، وكان لاعبوها يبدأون وينهون كل مباراة بصرخة تحيا إيطاليا وبتحية الجمهور ببسط راحاتهم المرفوعة. وقد كانت كرة القدم بالنسبة للنازيين أيضا مسألة دولة. وهناك نصب في أوكرانيا يذكّر بلاعبي فريق دينامو كييف في 1942. ففي أوج الاحتلال الألماني، اقترف أولئك اللاعبون حماقة إلحاق الهزيمة بمنتخب هتلر في الملعب المحلي. وكان الألمان قد حذروهم: إذا ربحتم ستموتون. دخلوا الملعب وهم مصممون على الخسارة، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع، ولكنهم لم يستطيعوا كبح رغبتهم في الجدارة والكرامة. فأُعدم اللاعبون الأحد عشر وهم بقمصان اللعب، عند حافة هاوية، بعد انتهاء المباراة مباشرة.
يقول جاليانو أخيراً: «عندما مات القرن التاسع عشر، انتهى معه الاحتكار البريطاني لكرة القدم. ففي عام 1904 ولدت الفيفا، أي الاتحاد الدولي لكرة القدم، التي صارت تحكم منذ ذلك الحين العلاقة ما بين الكرة والقدم في العالم بأسره. وعلى امتداد بطولات العالم المتتالية أدخلت الفيفا تعديلات قليلة على تلك القواعد البريطانية التي نظمت اللعبة».
حسن عبدالموجود قاص وصحفي مصري.