أغسطس
1. مُذكّرات ماركوس أغريبا: شذرات (13 ق. م.)
... كنتُ معه في أكتيوم، عندما ارتطمت السيوف حتَّى قدحت النار، وغمرت دماء الجنود متون السفن حتَّى فاضت ولوثت البحر الأيوني الأزرق، وصفَّرت الرماح في الهواء، وفحّت أبدان السفن المحترقة على المياه، وامتلأ النهارُ صخبًا بصرخات رجالٍ احترق لحمهم في دروعٍ لم يقدروا أن يطرحوها عنهم؛ ومِن قبل ذلك كنتُ معه في موتينا، حيث اقتحمَ معسكرنا ماركوس أنطونيوس ذلك نفسه وانغرز السيف في الفراش الشاغر حيث كان يرقد أغسطس قيصر، وحيث اكتسبنا أوَّل سُلطة سوف تمنحنا العالَم كله ومِن ثم احتفظنا بها؛ وفي فيليباي، حيث سافرَ وهو في مرضٍ شديد حتَّى إنه لم يقو على الوقوف ومع ذلك أمرَ بأن يحمَل على محفةٍ بين صفوف قواته، وأشرفَ على الهلاك من جديد على يد مَن اغتالَ أباه؛ يوليوس الخالد، الذي أُعلنَ إلهًا، وحيث حاربَ حتَّى دمَّر أولئك القتلة أنفسهم بأنفسهم.
أنا ماركوس أغريبا، وأدعَى أحيانًا فيبسانيوس، الأطربون لدى العامّة والقنصل لدى مجلس الشيوخ، والجندي والقائد لدى الإمبراطورية الرومانية، وصديق غايوس أوكتافيوس قيصر، المعروف الآن بأغسطس. إنني أكتب تلك المذكرات في العام الخمسين من حياتي عسى ألَّا تنسى الأجيال القادمة الوقت الذي وجدَ فيه أوكتافيوس روما تنزفُ بين فكّي التشرذم والشِقاق، وعندما ذبحَ أوكتافيوس قيصر وحشَ الفتن والتعصّب، وانتزعَ جسد روما منه وهي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، وعندما داوى أكتافيوس جراح روما وأعادها مِن جديد جسدًا واحدًا كاملًا، لكي تمضي بقوة وبأس وتخطو فوق حدود العالَم بأسره. لقد كنتُ جزءًا مِن هذا النصر، في حدود قدراتي؛ وحول هذا الجزء الخاص بي ستدور تلك المذكرات، عسى أن يدرك مؤرخو العصور سرَّ ذهولهم أمام أغسطس وأمام روما.
تحت إمرة أغسطس قيصر أديتُ وظائف عديدة من أجل استرداد روما، وهو واجبٌ كافأتني عليه روما بكرمٍ بالِغ. لثلاث مرات كنتُ قنصلًا، ولمرة واحدة محتسبًا وأطربونا، ومرتين حاكمًا لسوريا؛ وفي مرتين تلقيتُ خاتم أبي الهول من أغسطس بنفسه خلال في مرتين مرضَ فيهما حتَّى أشرف على الهلاك. قدتُ فيالق روما المظفّرة لمواجهة لوسيوس أنطونيوس في بروجيا، ولمواجهة الأكيتاينيين في بلاد الغال، ولمواجهة القبائل الجرمانية على نهر الراين، وهي خدمات أبيتُ أن أتلقّى عنها موكب نصر رسمي في روما؛ كما أخضعتُ القبائل المتمردة وحركات الانشقاق في كلٍ مِن إسبانيا وبانونيا كذلك. منحني أغسطس لقب القائد الأعلى لأسطولنا البحري، وقد أنقذنا سفننا من ذلك القرصان سكستوس بومبيوس، بفضل شَقّ مرفأ غرب خليج نابولي، وفي ما بعد استطاعت سفن ذلك المرفأ هزيمة بومبيوس وتدميره في معركة مَيْلاي البحرية ثم في معركة ناولوكوس على ساحل صقلية؛ ولقاء ذلك العمل كللني مجلس الشيوخ بتاج البحرية. وفي أكتيوم هزمنا الخائن ماركوس أنطونيوس، وهكذا بعثنا الحياة من جديد في جسد روما.
احتفالًا بتخلّص روما مِن المؤامرة المصرية، نصبتُ المعبدَ المعروف الآن باسم البانثيون ومبانٍ عامة أخرى. وبصفتي المتصرف الأوّل في شؤون المدينة، برعاية أغسطس ومجلس الشيوخ، أصلحتُ قنوات المياه القديمة للمدينة وأضفتُ إليها أخرى جديدة، حتَّى يَنعم مواطنو روما وسكَّانها بالمياه ويبرأون مِن المَرض؛ وحينما حلَّ السلام في روما أسهمتُ في عملية المسح ورسم خريطة العالَم، والتي كانت قد بدأت في عهد يوليوس قيصر حاكمًا مطلقًا وصارت ممكنة أخيرًا في عهد ابنه بالتبني.
سوف أكتب المزيد عن تلك الأمور، وباستفاضة، مع تقدُّم تلك المذكرات. لكن عليَّ الآن أن أروي عن الوقت الذي شهدَ بداية كل تلك الأحداث وما حرّكها في المقام الأوّل، وهو العام التالي على عودة يوليوس قيصر منتصرًا مِن إسبانيا، تلك الحملة التي شاركَ فيها غايوس أوكتافيوس وسالفيدينيوس روفوس وأنا أيضًا. ثم إنني كنتُ معه في أبولونيا عندما بلغنا نبأ موت قيصر...
2.رسالة: غايوس كيلنيوس مايكيناس إلى تايتوس ليفيوس (13 ق. م.)
لا بدَّ أنك ستعذرني، أيها العزيز ليفي، على تأخّري في الرد عليك كل هذا الوقت. الشكاوى المعتادة: يبدو أنَّ التقاعد لم يحسّن حالتي الصحية بالمرة. الأطباء يهزّون رؤوسهم بحِكمة، ويغمغمون بكلام غامض، ويقبضون أتعابهم. وما من شيء يجدي على ما يبدو – لا الأدوية الفظيعة التي أتناولها، ولا حتَّى امتناعي عن تلك اللذات التي (كما تعلم جيدًا) لطالما استمتعتُ بها ذات يوم. خلال الأيام القليلة الماضية كان من المستحيل عليَّ أن أمسك قلمي بيدي بسبب النقرس، على الرغم من معرفتي كَم تثابر سعيًا وراء إنجاز عملك وأنك في أمس الحاجة لمساعدتي في الأمر الذي راسلتني بشأنه. وعلاوة على أسقامي الأخرى، ابتليتُ خلال الأسابيع القليلة الماضية بالأرق، وهكذا أقضي أيامي في وَهنٍ وكلال. لا يتركني أصدقائي، والحياة قائمة؛ ولهذين الأمرين لا بدَّ أن أكون شاكرًا.
تسألني عن الأيام الأولى مِن ارتباطي بمولانا الإمبراطور. لا بدَّ أن تعلم أنه، منذ ثلاثة أيامٍ فقط، تكرَّم عليَّ بزيارة منزلي، للاستفسار عن أحوالي الصحية، ورأيتُ أنه من الفطنة أن أطلعه على مطلبك. ابتسمَ وسألني هل أرى مساعدة مناصِر عنيد للجمهورية مثلك أمرًا ملائمًا أم غير ذلك؛ ثم انتقلنا إلى تذكّر الأيام الخوالي، كما قد يفعل رجلان يشعران بتَجرؤ الشيخوخة عليهما. إنه يتذكّر أمورًا – تفاصيل صغيرة – بوضوح أكثر مني أنا نفسي، الذي تتمثل مهمتي في عَدم نسيان أي شيء. سألتُه في النهاية إن كان يفضّل أن يرسل لك روايته الخاصة بتلك الفترة. أشاحَ بعينيه نحو البعيد للحظة وابتسم مجددًا وقال: «كلّا... فقد يسمح الأباطرة بأن تكذب ذكرياتهم بأسهل ممَّا قد يفعل الشعراء والمؤرخّون.» طلبَ مني أن أرسل إليك بتحياته الدافئة، وأعطاني الإذن بأن أكتب إليك بأقصى ما أجده في نفسي مِن حرية.
لكن أي حُرية أستطيعُ أن أجدها في نفسي للتحدّث إليك عن تلك الأيام؟ لقد كنّا صِغارًا؛ وعلى الرغم مِن أن غايوس أوكتافيوس، كما كان يُدعَى آنذاك، علمَ أنَّه مُميّز عن الآخرين بفضل مصيره المرسوم ولأنّ يوليوس قيصر ينتوي تبنيه، فلا هو ولا أنا ولا ماركوس أغريبا ولا سالفيدينيوس روفوس، اللذين كانا صديقيه، كان بوسعنا أن نتخيّل حقًا إلى أين ستقودنا مصائرنا. لا أملك حُرية المؤرّخ، يا صديقي؛ فأنت قد تروي تحرّكات الرجال والجيوش، تتبَّع المسار المعقّد لدسائس الحُكم، وقد توازن بين الانتصارات والهزائم، تربط بين أعداد المواليد والوفيات – وتظلّ حرًا بعد هذا كله، في البساطة الحكيمة لعملك، حُرًا مِن العِبء الرهيب لمعرفةٍ ما، معرفةٍ لا أعرف كيف أحددها بالاسم، لكني مع زحف السنين أصبحُ أكثر قدرة على فَهمها، ولو على وجه التقريب. إنني أعلم ما تريد؛ ولا شكّ أنك ضِقت ذَرعًا بي لأنني لا أستجيب ببساطة فأعطيك الحقائق التي تحتاج إليها. لكن ينبغي عليك أن تتذكَّر أنني، على الرغم مِن الخدمات التي قدّمتها للدولة، فإنني أيضًا شاعِر، ولذا فأنا لا أستطيع أن أقاربَ أي شيء بصورة مباشِرة للغاية.
قد تُفاجأ إذ تعلم أنني لم أكن أعرف أوكتافيوس حتَّى قابلته في برينديسي، حيث أُرسلتُ للحاق به هو وجماعة أصدقائه في الطريق إلى أبولونيا. لم تزل أسباب وجودي هناك غامضة عليَّ؛ لكني واثق أنَّ الأمر تمَّ بوساطةٍ من يوليوس قيصر. كان يعرف أبي، الذي قدَّم له خدمة ما ذات يوم، وقبل بضع سنين مِن تلك الرحلة، زارنا في فيلتنا في أريتسو. تجادلتُ معه في مسألة (أصررتُ، هكذا أعتقد، على أنَّ قصائد كاليماخوس تفوق قصائد كاتولوس)، وأبديتُ في ذلك غرورًا، وانفلت لساني بسباب فاحش، وكنتُ أيضًا (هكذا ظننت) فَكهًا لمّاحًا. لَكم كنتُ صغيرًا للغاية. على أي حال، بدا أنه يستظرفني، وتحدثنا لبعض الوقت. بعد عامين على ذلك، أمرَ أبي أن يرسلني إلى أبولونيا برفقة حفيد أخته.
صديقي، لا بدَّ مِن أن أعترف لك (ولو أنك قد لا تستخدم هذه المعلومة) أنني لم أنبهر أو أتأثّر كثيرًا بشخصية أوكتافيوس في تلك المناسَبة عند لقائنا الأوَّل. كنتُ قد نزلتُ في برينديسي آتيًا مِن أريتسو بعد أكثر من عشرة أيام سَفر، ومُنهكًا حتَّى النخاع، وقذرًا من غبار الطرقات، وعصبيًا شكس المزاج. وصلتُ إليهم على الرصيف البحري الذي سوف نُبحرُ منه. كان أغريبا وسالفيدينيوس يتحادثان، ووقفَ أوكتافيوس منفصلًا عنهما قليلًا، يحدّق في مركب صغير كان راسيًا غير بعيد. لم يبدُ عليهم أنهم لاحظوا اقترابي، فقلتُ، بصوتٍ أعلى ممَّا يجب، على ما أظن: «أنا مايكيناس المنتَظر أن يقابلكم هنا. مَن مِنكم مَن؟»
نظر أغريبا وسالفيدينيوس إليَّ مُتسليين مُستضحكَين وقدَّما لي اسميهما؛ لم يستدر أوكتافيوس، وإذ ظننتُ أنني أرى في ظهره هذا غطرسة واستخفافًا بالآخرين، فقلت: ولا بدَّ أنكَ ذلك الآخَر، الذي يُدعَى أوكتافيوس.»
استدارَ عندئذٍ، وعلمتُ أنني كنتُ أحمق؛ فقد كان وجهه مكتسيًا بخجلٍ يائس. قال: «نَعم، أنا غايوس أوكتافيوس. لقد تحدَّث خال أمي عنك.» وابتسم ومدَّ لي يده مصافحًا ورفع عينيه ونظر إليَّ مباشرة لأوّل مرة.
وكما تعلم، ما أكثر ما قيلَ في تينك العينين، لكنَّ أغلبه مصوغٌ في شعرٍ رديء ونثرٍ أردأ؛ أحسبُ أنه الآن لا بدَّ أن يكون قد بدأ يعافُ سماعَ كل تلك الكنايات وما شابهها لوصف عينيه، مع أنه ربما كان مزهوًا بهما ذات يوم. غير أنهما كانا، حتَّى في ذلك الحين، استثنائيتين صفاءً ونفاذًا وحِدّة – مائلتين للأزرق أكثر من الرمادي، ربما، على الرغم مِن أن المرء قد يفكر في الضوء، وليس اللون ... هاكَ، أرأيت؟ حتَّى أنا الآن قد شرعت في ذلك؛ لا بدَّ أنني اطّلعت على عددٍ أكثر ممَّا يجب من قصائد أصدقائي.
لعلَّني تراجعتُ خطوة؛ لا أدري. على أي حال، لقد جفلتُ، وهكذا أشحتُ بنظري بعيدًا، فوقعت عيناي على المركب الذي كان أوكتافيوس يحدّق فيه.
سألتُ: «أذلك هو القارب الذي سيعبر بنا؟» صرتُ الآن أشعرُ بأنني أكثر مرحًا بقدرٍ هين. كان مركبًا تجاريًا صغيرًا، لا يزيد طوله عن خمسين قدمًا، تعفنت ضلوعه الخشبية عند قيدومه وتهلهلت أشرعته ذات الرُقَع. تهبّ منه رائحة نتنة.
خاطبني أغريبا، قائلًا: «قيلَ لنا إنه الشيء الوحيد المتوفّر». وابتسم لي ابتسامة صغيرة؛ أتخيّل أنّه رأى فيَّ متأنقًا، لأنني كنتُ أرتدي عباءة التوجا وأضع عدة خواتم، بينما اكتفوا هُم بأثواب التونيك البسيطة القصيرة وبلا أي حُلي أو زينة.
قلتُ: «لن تكون هذه النتانة محتَملة».
فقال أوكتافيوس في رزانة: «أظن أنَّهم يقصدون أبولونيا لتوصيل حمولة سمك مُخلّل».
صمتُّ للحظة؛ ثم غلبني الضحك، وضحكنا كلنا، فأصحبنا أصدقاء.
لعلَّنا نكون أكثر حِكمة في شبابنا، ولو أنَّ الفلاسفة قد يختلفون معي. لكني أقسمُ لك إننا أصبحنا أصدقاء منذ تلك اللحظة فصاعدًا؛ وإنَّ تلك اللحظة مِن الضحك الأحمق جمعتنا برباطٍ أقوى مِن أي شيء وقعَ بيننا من بعد ذلك – الانتصارات أو الهزائم، الوفاء أو الخيانة، الأفراح أو الأتراح. غير أنَّ أيام الشباب تولّي، ويولّي معها جزءٌ منَّا، بغير رَجعة.
وهكذا جرى الأمر، عبرنا إلى أبولونيا، في قارب سمك نتن الرائحة، كان يأنَّ أمام أرقّ موجة تصيبه، ويميلُ على جانبه ميلًا خطرًا فنضطرّ لأن نتشبث ونتماسك لكيلا نتشقلب ونتدحرج على سطحه، والذي حملنا إلى مصيرٍ ما كان بوسعنا أن نتخيله آنذاك...
أستأنفُ كتابة هذه الرسالة بعد انقطاع يومين؛ وسوف أريحكَ من عناء تفاصيل متاعبي المتسببة فيه؛ فليس وراء ذلك إلّا الغَم.
أيًا ما كان، لقد رأيتُ أنني لا أقدّم لك ذلك الشيء الذي سيكون أكثر نفعًا لك، لذا أمرتُ أمين سِري بأن ينبش أوراقي بحثًا عن موادٍ تكون أفضل عونًا لك في مهتمك. لعلَّك تتذكّر أنني، قبل نحو عشرة أعوام، ألقيتُ كلمة بمناسبة تدشين معبد صديقنا ماركوس أغريبا المكرّس لفينوس ومارس، والمعروف الآن لدى العامّة باسم البانثيون. في بداية الأمر خطرت لي فكرة، ونبذتها بعد ذلك، وهي أن أضع خطبة عصماء مفوّهة، قصيدة تقريبًا، إن جاز لي القول، تقيم روابط مُدهشة بين الدولة الرومانية كما عهدناها شبَّانًا صغارًا والدولة الرومانية كما يمثلها في الزمن الحاضر هذا المعبد. وعلى أي حال، كوسيلة مساعِدة لنفسي على حل تلك المعضلة التي فرضها عليَّ الشكل المختار للخطبة المزمَعة، كتبتُ بعض ملاحظاتٍ قصيرة عن تلك الأيام الخوالي، وهي التي أستأنسُ بها الآن بهدف معاونتك لتكملَ كتابة تاريخ عالمنا.
تخيَّل، إن استطعتَ، أربعة شبّان (لشدَّ ما أصبحوا غرباء عليَّ الآن)، جاهلين بمستقبلهم وجاهلين بأنفسهم، جاهلين فعليًا بذلك العالَم نفسه الذي بدأوا يعيشون فيه. أحدهم (هذا هو ماركوس أغريبا) طويل ومتين العضلات، بسيماء وجه فلَّاح تقريبًا – أنف قوي، عظام كبيرة، وبشرة مثل جِلدٍ جديد؛ وشعر جاف يميل للبُنّي، ولحية مثل عُشبٍ أحمر خشن؛ وهو في التاسعة عشرة. يسير بخطوة متثاقلة، مثل صغير الثور، لكن في سيره مع ذلك رشاقة غريبة. يتكلم بوضوح، وببطء، وبهدوء، ولا يُظهر بواطنه. لولا لحيته لما أدرك أحد أنه لم يزل صغيرًا لهذا الحد.
والثاني (هذا هو سالفيدينيوس روفوس) كان نحيلًا وخفيفًا بقدر ما كان أغريبا ثقيلًا ومتينًا، وكان سريعًا ومندفعًا بقدر ما كان أغريبا بطيئًا ومتحفظًا. له وجه هضيم وبشرة بيضاء، عيناه سودوان؛ وضحكته قريبة، وطالما خفف بها الثقل الذي كنا نسببه نحن الثلاثة المتبقون. كان يكبرنا جميعًا سنًا، ومع ذلك فقد أحببناه كما لو كان أخانا الأصغر.
وثالثهما (أهو أنا؟) الذي لا أتبين صورته إلَّا بغشاوة، فيظهر أقل وضوحًا مِن الآخرين. لعلَّ الإنسان لا يعرف نفسه أبدًا، ولا يعرف أيضًا كيف يبدو حتَّى في أعين أصدقائه؛ لكني أتخيل أنهم بلا شك اعتبروني أحمق، ولو قليلًا، في ذلك اليوم، بل ولبعض الوقت من بعد ذلك. فقد كنتُ آنذاك محبًا للتَرف بدرجة ما، وخُيّل إليَّ أنَّ الشاعر عليه أن يعيشَ الدور كما ينبغي. كنت أنفق ببذخ على ثيابي، وأتصرف بتكلّف مدروس، واصطحبتُ معي خادمًا مِن أريتسو كان واجبه الوحيد هو الاعتناء بشَعري – إلى أن أشبعني أصدقائي سخريةً لا ترحم فأمرته بالعودة إلى إيطاليا.
وأخيرًا هذا الذي كان آنذاك غايوس أوكتافيوس. كيف قد أصفه لك؟ إنني لا أعرفُ الحقيقة؛ ليس لديَّ غير الذكريات. يمكنني أن أقول مُجددًا أنه بدا لي صبيًا، رغم أنني لم أكن أكبر منه إلَّا بعامين فقط. إنكَ تعرف هيئته الآن؛ وهي لم تتبدَّل كثيرًا. لكنه الآن إمبراطور العالَم، ولا بدَّ أن أنظر لما وراء ذلك لكي أراه كما كان آنذاك. كانت خدمتي له تتمثّل في مَعرفتي بما تخفيه صدور أصدقائه وأعدائه على السواء، ومع ذلك أقسمُ لك إنني لم أستطع التنبؤ بما سيصير إليه هو نفسه. اعتقدتُ أنه مجرد فتى مليح، لا أكثر من ذلك، وجهه أرق مِن أن يتلقّى صفعات القدر، وشِيَمه أشدُّ حياءً مِن أن يبلغَ غاية، وصوته أنعمُ مِن أن ينطقَ الكلمات عديمة الرحمة التي لا بدَّ أن ينطقها كلُّ مَن يقود الرجال. اعتقدتُ أنه ربما يصبح عالِمًا هاويًا على سبيل تزجية الفراغ، أو رجلًا مِن رجال الأدب والكُتب؛ لم أعتقد أنه لديه الهِمَّة الكافية لأن يصير حتَّى عضو مجلس شيوخ، وهي المكانة التي يخوّلها له اسم عائلته وثروته.
وهؤلاء هُم الذين نزلوا إلى اليابسة في ذلك اليوم من بدايات فصل الخريف، في العام العاشر مِن تولية يوليوس قيصر منصب القنصل، في أبولونيا على شاطئ البحر الأدرياتيكي مِن مقدونيا. اهتزت قوارب الصيد في المرفأ، ولوَّح الناس؛ وكانت شِباك الصيد مفرودة على الصخور لتجف؛ والأكواخ الخشبية تصطف بامتداد الطريق الصاعد نحو المدينة، القائمة على أرضٍ عالية أمامَ سهلٍ يمتدّ منبسطًا حتَّى يرتفع فجأة نحو الجبال.
كانت أوقات الصباح مخصصة للدراسة. ننهضُ قبل الفجر، ونستمعُ إلى محاضرتنا الأولى على ضوء القناديل؛ نتناول إفطارًا خشنًا عندما تطلع الشمس فوق الجبال الشرقية؛ نتحادث باليونانية حول كل الأمور (أخشى أنَّ هذه الممارسة تحتضر الآن)، ونتلو فقراتٍ من هوميروس حفظناها في ليلتنا السابقة، ونُسأل فيها، وأخيرًا نقدّم خُطبًا موجَزة نكون قد أعددناها بحسب أوامِر أستاذنا أبولودوروس (والذي كان شيخًا هرمًا حتّى آنذاك، لكنه صاحب حكمة عظيمة ومزاجٍ هادئ غير متقلّب).
في أوقات بعد الظهيرة، نُقادُ إلى خارج المدينة بمسافة يسيرة حيث المعسكر الذي تتدرّب فيه فيالق يوليوس قيصر؛ وهناك نشارك في تدريباتهم خلال معظم ما تبقى من اليوم. لا بدَّ أن أقول إنني خلال هذا الوقت بدأتُ لأوَّل مرة أشك أنَّ حُكمي على قدرات أوكتافيوس غير صائب. كما تعلم، لطالما كانت حالته الصحية سيئة، غير أن وَهنه البدني كان أشد ظهورًا للعيان مِن وهني الخاص، فلا شك أنَّ قَدَري، يا عزيزي ليفي، أن أبدو كأنني مثال الصحّة والعافية حتَّى في أقصى حالات سُقمي. في ذلك الوقت، حتَّى أنا نفسي لم أشارك إلَّا قليلًا في التدريبات والمناورات الحقيقية؛ بينما فضَّل أوكتافيوس أن يشارك فيها طوال الوقت، مفضلًا، شأن خالِ أمّه، أن يمضي وقته مع القادة بالفعل، وليس وسط الضُبّاط الاعتباريين. ذات مرَّة، أتذكّر، في معركة زائفة تعثر حصانه فطرحه أرضًا بشدة. كان كلٌ مِن أغريبا وسالفيدينيوس واقفين بالقرب منه، هَمَّ سالفيدينيوس من فوره بالركض لمساعدته؛ لكن أغريبا أمسكه من ذراعه ولم يدعه يتحرك. بعد دقائق معدودات نهض أوكتافيوس بمفرده، ووقف مستقيمًا في تصلّب، وطلبَ حصانًا آخَر. جلبوا له واحدًا فامتطاه وظلَّ على متنه ما تبقى من فترة بعد الظُهر، مكملًا دوره في التدريب للنهاية. في خيمتنا ذلك المساء، سمعنا أنفاسه الثقيلة فاستدعينا طبيب الفيلق ليفحصه. كُسرَ له ضِلعان. ربطَ الطبيب صدره بإحكام، وفي الصباح التالي حضر فصول الدراسة معنا وفي الأصيل شارك بنفس الهمة في مسيرة زحفٍ سريع.
إذًا، ففي خلال تلك الأيام والأسابيع الأولى، بدأتُ أعرف أغسطس الذي يحكم الآن العالَم الروماني. ربما ستحوّل هذا إلى بضع جُمَلٍ من ذلك التاريخ الباهر الذي حظيتُ أنا بشرف أن أرمقه بإعجاب. غير أنَّ هناك الكثير ممَّا لا يمكن أن يدخل في الكتب، وتلك خسارة صارت تؤرقني أكثر فأكثر.
مقتطف من الفصل الأول من رواية بالعنوان نفسه ترصد حياة وصعود وموت أول الأباطرة الرومان، عبر الرسائل والوثائق المختلفة لشخصياتها. تصدر قريبا عن دار أثر
جون وليامز شاعر وروائي أمريكي
محمد عبد النبي روائي ومترجم مصري