الأيام :«صفقة القرن».. دولة واحدة ناقصة
في زاوية آراء كتب الدكتور علي الجرباوي مقالاً بعنوان: «صفقة القرن»: دولة واحدة ناقصة، جاء فيه:
لا تترك خطة ترامب المعروفة باسم «صفقة القرن» للفلسطينيين، حتى غُلاة المعتدلين منهم، أي مجال للتعاطي الإيجابي معها، أو إمكانية لقبولها. السبب في ذلك يكمن في المنطلق الذي تنبع منه الرؤية التي تستند عليها تفاصيل التسوية التي تعرضها لحلّ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، بشكل جذري ونهائي. فمن الطريقة التي صيغت بها هذه الخطة يتضح أنها تنطلق في أساسها من إعطاء الأولوية لحقّ دولة إسرائيل الأصيل في «أرض إسرائيل» من النهر إلى البحر، لاعتبارات توراتية وتاريخية. أما «الفلسطينيون»، فلكونهم متواجدين على هذه الأرض، ويشكّلون لإسرائيل معضلة نجم عنها صراع مديد، فإن ضمان «بقاء وأمن» إسرائيل يتطلب محاولة ترضيتهم بمقايضة اعترافهم بأهمية وأولوية حقّ إسرائيل على مطالبهم، مقابل تحسين مستوى معيشتهم ووعدهم بإمكانية إقامة دولة مخنوقة لهم، تتشكل من كانتونات متّصلة ببعضها عبر جسور وأنفاق، ولكن تبقى منقوصة السيادة تعيش تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة. ومع كل هذه القيود فإن هذه «الدولة» ليست مضمونة التحقق، بل تعتمد إقامتها على حسن نوايا وسلوك وأداء الفلسطينيين، وعلى نجاحهم في تخطي امتحان الجدارة المفروض عليهم اجتيازه عبر مفاوضات مع إسرائيل.
ما يعنيه ذلك أنه لا حقّ فلسطينياً يوازي الحق الإسرائيلي، بل يُقزّم هذا الحقّ ليصبح محصوراً بضرورة تعاطي إسرائيل، صاحبة الحقّ الحصري، مع احتياجات الفلسطينيين من أجل جعلها آمنة ومستقرة من ناحية، ومقبولة من خلال تطبيع علاقاتها مع محيطها الإقليمي والدولي من ناحية أخرى. لذلك فإن الخطة الأمريكية تطلب من إسرائيل القيام بـ «تنازل مهم» وهو «تحويل نسبة كبيرة من الأرض التي لها عليها ادعاءات قانونية وتاريخية مشروعة، والتي هي جزء من وطن الأسلاف للشعب اليهودي». ولا تطلب أمريكا هذا التنازل إلا لأنها تعتقد بأنه يزيد «... من أمن دولة إسرائيل على المدييْن القريب والبعيد».
لذلك، فإن ادعاء الخطة بأنها تحقق «حل الدولتين» هو ادعاء غير صحيح ومُفرغ من مضمونه. فحلّ الدولتين يقوم على أساس الاعتراف بوجود حقّين متكافئين ينجم عنهما في التسوية السياسية دولتان تتمتع كل منهما بالاستقلال والسيادة الكاملة. هذا هو أساس التسوية القائمة على الشرعية الدولية التي صدر بموجبها العشرات من القرارات التي تعترف الخطة بأنها تتجنبها ولا ترتكز عليها.
لماذا إذاً تقوم الخطة بإعطاء وعدٍ بإقامة هذه «الدولة» للفلسطينيين؟ هي تقوم بذلك لأنها تريد الاستجابة للغاية الصعبة التي تريدها إسرائيل، والقائمة على تحقيق أمرين متعارضين في آن واحد. فإسرائيل تريد الاحتفاظ بسيطرتها الإجمالية على «أرض اسرائيل» من جهة، والاحتفاظ بنفسها دولة يهودية من جهة أخرى. ما يمنع تحقق الأمرين معاً هو وجود هذا الكمّ الكبير من الفلسطينيين. لذلك تنطلق الخطة لتحقيق المقاربة الأفضل لإسرائيل، تحت شعار ضرورة قبول الفلسطينيين التعاطي مع حقائق الأمر الواقع، وذلك من خلال تعظيم مساحة «الدولة اليهودية» لأقصى إمكانية ممكنة، ومنع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من التواجد فيها، وذلك لضمان تحقيق هذه «السمة اليهودية» لها. هذا ما يُفسّر الخارطة المقترحة لدولة «فلسطين الجديدة»، فهي تتشكل من تجميع مناطق كانتونية مع بعضها البعض، وأهم خصائص هذه الكانتونات أنها كثيفة المحتوى بالسكان الفلسطينيين الذي لا تريد استمرار تواجدهم في دولتها، لأن ذلك سيمنعها من أن تستمر «دولة يهودية» لفترة طويلة. باختصار، إن تحصين إسرائيل من الخطر الوجودي الفلسطيني عليها، يتطلب فصل الفلسطينيين عنها، حتى من منهم يحملون جنسيتها في منطقة المثلث.
ولكن هذا الفصل يجب ألا يكون بإعطاء الفلسطينيين حقهم الكامل بالحرية والاستقلال والسيادة، كون ذلك يُفقد إسرائيل جزءاً من الأرض التي تريد الاحتفاظ بها. بالتالي فإن المقاربة الأفضل تكون بإعطائهم أقصى «دولة» مقلصة، وتبقى تحت السيطرة الكاملة لإسرائيل. لذلك تمنح الخطة إسرائيل السيادة على القدس الموحدة لتكون عاصمتها الأبدية، وتعطيها الحق في ضم المستوطنات ومساحات واسعة من منطقة، بما فيها بسط السيادة على غور الأردن. كما تمنحها السيطرة المطلقة على كل مياه البلاد، ومعابرها الخارجية، وأجوائها، وتعطيها التحكم الأمني الكامل عليها. هذا علاوة على أن إسرائيل لا تتحمل مسؤولية اللجوء الفلسطيني، لذلك تعفيها الخطة من الالتزام بحق العودة، بل تنشئ هذه الخطة آلية دولية للتعامل مع قضية اللاجئين الفلسطينيين، وتضيف إلى جانبهم اليهود، وتطرح آليةً لتأمين التمويل اللازم لتعويض الطرفين.
باختصار، فإن خطة ترامب، والتي هي فعلياً خطة نتانياهو، تعطي لإسرائيل أقصى ما يمكن من مطالبهاـ وتعطي لفلسطين ما لا تريده إسرائيل، وهو الفلسطينيون. إنها خطة لتحقيق إقامة الدولة الواحدة؛ إسرائيل الكبرى، ناقص الفلسطينيين الذين يبقون داخلها، ولكن مفصولين عنها بـ «دولة» لا سيادية. فالسيادة عندما تأتي بالاتجاه الفلسطيني تُصبح، كما تنصّ الخطة، أمراً ليس له الكثير من الاعتبار والأهمية، وعلى الفلسطينيين تجاوزه لما هو أهمّ، وهي «الاعتبارات البراغماتية والعملياتية للأمن والانتعاش الاقتصادي».
لا غرو في كل ذلك أن احتفال البيت الأبيض بإطلاق «وعد ترامب» كان إسرائيلياً بامتياز، وأن نتانياهو صفقّ لنفسه ولترامب حتى كلّت يداه.
ويطلبون من الفلسطينيين مع كل ذلك الشعور بالغبطة وإظهار الابتهاج والامتنان لخطة تئد لهم حقوقهم الوطنية الشرعية، وتؤبد عليهم الاحتلال!.