يوميات .. «النظام لا يعمل»!
عبدالله حبيب -
(استكمالاً للحلقة السابقة)، الأحد 22 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:
بعد أن شاهدنا الفيلم غادرنا دار السينما، وانشغلت [...] بشيء من شؤونها، أما انا فقد انضممت إلى رهط اليساريين الأمريكيين «العواجيز» الذين جاءوا لمشاهدة فيلم «لومومبا» احتفاءً بذكرى لومومبا، والذين شكلوا ما يشبه تجمعاً صغيراً يحمل لافتات قليلة على رصيف المشاة قبالة دار السينما. أصر أحدهم- وقد كان في السبعينات من العمر وفقاً لما خمَّنت- على ضرورة «النضال المسلح» هنا في أمريكا، في «بطن الوحش» كما يظل يكرر. استهلكنا بعض الوقت وأنا أحاول تذكر شيء من قراءات السنين الخوالي – في سلسلة «دليل المناضل» إن لم تخني الذاكرة- حول إمكانية «الطريق السلمي إلى الاشتراكية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة»، وقد شاركت «الثوري العجوز» ما أفلحت في تذكره من تنظير. لكن صاحبنا العنيد هذا ظل يطوِّح برأسه ميمنة وميسرة في رفض قاطع، وهو يردد: «لا، لا، لا بد من النضال المسلح هنا في بطن الوحش»!. هنا كانت [...] قد التحقت بي على الرصيف متابعةً بقنوط كبير محاولات الاقناع الأخيرة وهي تنظر إليّ بغضب طفيف وعتاب ودود وتهز رأسها ذات اليمين وذات الشمال بطريقة غير ملحوظة تقريباً كي لا يفهم المناضل الأمريكي السبعيني مغزى الإشارة: «لا، لا، لا فائدة منه ولا منك، فهيَّا بنا نذهب يا أيها الأحمق بدوره». أمام هذا لم يكن أمامي بد من أن أترك ما تبقى من علبة سجائري للمناضل الأمريكي العتيد متمنياً له التوفيق في استئناف مشروع «النضال المسلح هنا في بطن الوحش»، ومُخاصِراً [...] في لمسة اعتذارية ونحن نبحث عن أقرب مطعم معقول ومفتوح الآن، حيث ان تجربتنا الأخيرة مع المطاعم المفتوحة على مدار الساعة لم تكن مشجّعة بصورة خاصة.
من السهل للكثيرين أن يقهقهوا بسخرية لما يقوله ذلك اليساري الأمريكي السبعيني العتيد والعنيد. ومن المتاح كذلك أن «الحرس القديم» في ظل الظروف الراهنة يمكن أن يفعلوا عين الأمر. غير انه ينبغي فهم أن من يتحلى (أو يُبتلى، لا فرق) بالعناد، والإرادة، والتصميم، لا تفتُّ القهقهات الساخرة من عضده مقدار عضلة، وهنا مبعث احترامي الشديد له- انه احترام وجودي، بالمعنى الحرفي للكلمة. أظن انه لولا العناد والمثابرة لما كان هناك شيء للبشرية تستطيع أن تفاخر به سكَّان الكواكب الأخرى.
في أوائل التسعينات، في مدينة نيويورك، تحدثت طويلاً مع امرأة أمريكية سوداء في منتصف العمر كانت ترفع بيرق الشيوعية الأحمر (المطرقة والسنديان) وشعاراتها في قلب مانهاتن، في قلب «بطن الوحش» تماماً، وذلك بين طابورين متغطرسين من ناطحات السحاب، وذلك في وقت انصراف الـ YUPPIEs اللامبالين من أعمالهم. كان ذلك شتاءً، وهي اختارت برميل تدفئة من تلك المنتشرة في شوارع المدينة، فوقفتُ إلى جانبها، وحدثتها عن أن ما تقوم به هو محض جنون؛ فالحزب الشيوعي الأمريكي كان الأصغر على الإطلاق في تاريخ الحركة الشيوعية الأممية قاطبة، وانه ينبغي التمييز بين الحركة النقابية العمالية المتقدمة جداً في الولايات المتحدة وحماقة تمني أي ازدهار جماهيري للحزب الشيوعي في المعقل الحصين للرأسمالية. لكنها ظلت تعارضني وهي تحدثني بنصف فم ونصف قلب فقط لأنني شوَّشتُ تركيزها وأزغت انتباهها عن ترديد الشعارات الشيوعية المعروفة «يا عمال العالم اتحدوا» إلخ، وظلت تصرُّ: «النظام [تقصد النظام الرأسمالي] لا يعمل؛ إنه ببساطة شديدة لا يعمل». تركتها وأنا أكثر إكباراً للمجانين، والعنيدين، والمكابرين، وذوي الكبرياء.
الإثنين 23 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:
لم يكن اليوم بداية الأسبوع، ولا نهايته.
بصورة من أعتى الصور، لم يكن اليوم الاثنين.
وبصورة من أقوى الصور، اليوم هو ذكرى 23 يوليو في مصر، وفي عُمان [...].
الثلاثاء 24 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:
قررنا تنظيف الشقة بصورة جذرية تماماً، ونفَّذنا القرار بماكنة الكنس الكهربائية، والمكانس اليدوية الصغيرة التي تفتك بالغبار حتى في أصغر الزوايا، وبأفضل ما جاد به علينا قسم المنظِّفات والمُطَهِّرات والمُعقِّمات في «السوبر ماركت». كذلك تخلصنا من الأوراق الميتة في أصص النباتات والأزهار، وأعدنا سقيها وتشذيبها.
قبل أيام قالت لي [...] بغضب أن الغبار الذي تمسحه من على سطوح الأشياء في الشقة لم يعد لونه لون الغبار، بل ان لونه صار أسود، وان علينا أن نعتني بمكان سكنانا أولاً قبل الذهاب إلى المتاحف، والمكتبات، والمنتبذات، ودور السينما، والمراقص، والمقاهي إلخ.
قلت لـ[...] ان ذلك صحيح تماماً. وهاأنذا اليوم أشمِّر عن ساعديَّ، وانضم لها بطاقة هِرَقْليَّة كبيرة في التنظيف، لدرجة أنني نظَّفت وطهَّرتُ وعقَّمتُ كل منافض السجائر في الشقّة (في الطريق إلى المطبخ، في المطبخ، في الطريق إلى الحمّام، في الحمَّام، في الطريق إلى الصالة، في الصالة، في الطريق إلى غرفة النوم، في غرفة النوم، في كل فراغ بين الجدران)؛ فكان من حقي التمتع بما يتمتع به أعضاء «البروليتاريا الرَّثَّة» من أجر بخس لقاء بناء الحضارة. ولم أكن في غاية الغلو في مطالبي الطبقيَّة العادلة، ولم أردد مع الطلبة والمثقفين والعمال في مظاهرات 1968 في فرنسا: «كونوا واقعيين: اطلبوا المستحيل»، بل اكتفيت فقط بالتدخين ونفض الرماد في إحدى «الطفايات» التي نظفتها قبل قليل. قالت [...] إنها تتساءل عن مقدار الهول والدمار الذي تكون عليه الشقة في غيابها في عُمان. رددت عليها ببساطة لئيمة ان الشقة تكون في أفضل حال لأن «إحدى عشيقاتي الشقراوات الأمريكيات الكثيرات» تتكفل بالتنظيف. وضعت [...] قبضتي يديها على خصرها وكوعيها نافران على هيئة مثلثين وهي تقذفني بـ«تكشيرة» فيها من الحنان العميق أكثر مما فيها من الغضب المُفتَعَل. استحممنا بعد الحرب الضروس ضد الغبار، ثم انطلقنا إلى مقهانا الأثير في منطقة الـ«وِستوُد» متخاصران في هرولة قفزيَّة ونحن نضحك من قلبينا. أيها الحب: لا تتركنا، فنتيتَّم من جديد.
الأربعاء 25 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:
أصدقاء على العشاء في الشقة (بمن فيهم فيروز).
ليت الأصدقاء لا يفترقون؛ ليت الأصدقاء لا يفعلون ما هو أسوأ من ذلك.
الخميس 26 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:
اكتئاب حاد، وآلام سيئة جداً في المعدة، وكوابيس فظيعة طوال الليلة الفائتة، وإحساس عارم بالرغبة في التلاشي بلا أدنى إبطاء. تذكرت ما كتبه كافكا في «اليوميات» واصفاً أحد أيامه: «هذا يوم كريه لدرجة اني لو صرخت في وجهه لعاد إليّ الصدى مصاباً بالغثيان». [...] تواسيني وتشد من أزري: الموت ليس حلَّاً إلا للموتى. رددتُ عليها متشجعاً ومبتسماً بمقولة للمسيح: «دع الموتى يدفنون الموتى».
الجمعة 27 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:
يوم نقاهة إلزامي وضروري. إعادة مشاهدة «المصير» ليوسف شاهين على الفيديو: يا له من فيلم قميء. لا يستحق ابن رشد، ولا يوسف شاهين، ولا الجماعات الإسلامية هذا الفيلم. كيف يمكن أن يتصور المرء واحداً من العظماء في تاريخ الفلسفة الإسلامية، بل في تاريخ الفلسفة قاطبة – مترجم أرسطو وشارحه الأوثق للثقافة الغربية بأكملها -- وهو يحكي بالدارجة المصرية («حَعْمِل إيه يعني؟. أَهُه دَنَا بَعمِلْ سَبَتْ» [سَلَّة من قش])!. حين أنجز دِرِكْ جارمَن تحفته السينمائية الخالدة عن القديس سبَسْتِيَن، «سبَسْتِيَن»، كانت لغة الحوار في الفيلم اللاتينية التي لم يعد يفقهها أحد سوى الأكاديميين الكهول الذين يحتضرون في مراكز البحوث والدراسات. وبهذا فقد «فَرَضَ» جارمَن على مواطنيه البريطانيين التافهين متابعة حوارات الفيلم عبر ترجمة إلى لغتهم الغبيَّة على الشاشة، بل و«فَرَضَ» على كافة المشاهدين في انحاء المعمورة ان يشاهدوا ويستمعوا إلى القديس سبَسْتِيَن وهو يتلو شهادته على التاريخ ويستشهد في سبيل ذلك ككل العظماء باللاتينية وليس بأي من لغاتهم الوطنية. يقول روبير بريسون: «الجمهور غبي. افرض عليه شهواتك، مباهجك» («ملاحظات في السينماتوغرافيا»)، أما لدينا فـ «الجمهور عايز كده».
ثم ان تصوير الجماعات الاسلامية بتلك الصورة التي تتساوق بصورة صريحة مع وجهة النظر الغربية عن تلك الملّة فهي صورة أكثر من استشراقية (إنها بالضبط ما يسميه إدوَرد سعيد «مَشْرَقَة الذات» أو «شَرْقَنَة الذات»: “self-Orientalization”. لقد ظهرت الحركة الإسلامية السياسية في الفيلم باعتبارها شيطاناً دموياً قفز هكذا من الفراغ بلا خلفية، أو مقدمات، أو أسباب؛ وليس باعتبارها ردة فعل على خلف الأنظمة العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال بالوعود التي قدمتها لشعوبها في مرحلة النضال ضد الاستعمار، وما نجم عن ذلك النكث من استشراس الظلم، والفقر، والنهب، والتفاوت المريع بحيث انك تجد في القاهرة (ومصر هي المعقل الرئيس لتلك الجماعات) فندق خمسة نجوم خاص بالكلاب، وهو الوحيد من نوعه في كل العالم في الوقت الذي يسكن فيه سواد عظيم من القاهريين الأحياء في المقابر. وبهذا فإن يوسف شاهين لا يفعل أكثر مما فعله ديفِد لِن في فيلمه «لورَنس العرب»: ليس العرب والمسلمون إلا قوم رعاع وفي غاية الانحطاط على الرغم من بهاء الأندلس التي شيَّدوها وهاهم اليوم يتذكرونها بحنين منتهي الصلاحية («إني أحِنُّ إلى حدائق قرطبة»، هكذا يقول الأمير فيصل في فيلم «لورَنس العرب»). بَيْدَ ان مما يُحسب ليوسف شاهين «المشهد التأسيسي» (establishing scene) الذي يسرد قصة ذهاب واحد من ابناء الارستوقراطية الفرنسية مغامراً بحياته في دروب من المهالك من أجل أن يتلقى العلم على ابن رشد. غير ان يوسف شاهين لا يلبث أن يستسلم بخنوع للكثير من تقنيات أفلام «الويسترن» الأمريكية (مشهد القلعة هو خير وأسوأ مثال على ذلك)؛ ناقلاً بذلك تراكم لاوعيه الثقافي (من حيث تلقيه تعليمه السينمائي في الولايات المتحد) إلى الوعي السينمائي للمُشاهد الغربي (الفيلم انتاج فرنسي أصلاً). أما محمد منير فدوره مقتصر فقط على اثارة الغناء المجاني تقريباً وتأجيج الطرب في مغازلة واضحة للمُشاهد الغربي الذي لا شك سيخرج بهذه النتيجة الباهرة: يمكن القول، في نهاية المطاف، انه حتى المسلمين قوم أطياب ويحبون الرقص والغناء للمفاجأة الشديدة!. ولا يغفر لمحمد منير على الإطلاق في جرمه الشنيع هذا ان عدالتنا نحب كثيراً أغنية «جفنه علَّم الغزل» بصوته! (*).
-------------
(*): لاحقاً خفَّت غلوائي وتصالحت إلى حدود معقولة مع «المصير» ضمن سياق سياسي وثقافي (أكثر منه جماليَّاً) ناجم عن آثار أحداث سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة فيما يخص «الآخر» من موقعي باعتباري عربياً مسلماً حضارياً وثقافياً. ولذلك فقد قررت هذا الفيلم على طلبتي في مساق «سينما العالم الثالث»، قسم الدراسات السينمائية، جامعة أوتاغو، نيوزيلندا، 2012؛ وذلك من حيث ان الفيلم «وثيقة سينمائية عربية تاريخية» ضد مُنَمَّطات الإعلام الغربي المضادة للعرب والمسلمين في اثر ما جرى في الولايات المتحدة (هامش أُضيف إلى المتن في يوم السبت، 21 يناير 2017، مسقط).