يوميات : الليل هو الحقيقة
عبدالله حبيب -
استكمالا للمادة المنشورة في العدد الفائت: الجمعة 15 يونيو 2001، البريمي (عمان)، العين (الإمارات):
جلست مع أمي في المطبخ. كان العتاب أكبر من محاولات الإخفاء بعباءة اللقاء، ولذلك فإننا انسردنا في الحنين الموجع الذي تحبه أمي وتطرب له ثم تنسى انها غاضبة على فلذة كبدها لهذا السبب أو ذاك. منذ 6/ 7/ 1977 حيث انفصالي بكل معاني الكلمة عن الأسرة والعائلة والوطن يمزقني شعور انتحاري في رغبتي الدافقة لرؤية أمي وإحساسي بالعجز الكامل لكلينا عن رؤية بعضنا البعض بعد ذلك التاريخ الذي يشكل مفصلاً رهيباً في حياتي الضئيلة.
حتى في لقاءاتنا المتقطعة منذ 1977 صرت أخاف كثيراً من أن أكون مع أمي في نفس الغرفة أو نفس اللقاء في حيِّزه المكاني أو العاطفي، وأختلقُ كل الأعذار الممكنة وغير الممكنة كي أهرب منها ومني.
لقد حالَ أبي بيني وبين أمي بإمكاناته الجبروتيَّة والبطشيَّة الهائلة، وبذلك تَوَّج انتصاراته التعسفيَّة الباهرة وصار من حقه أن يتباهى بكسب الفقدان الذي مُنِي به هو نفسه : الحرمان حتى من حنان الأم. إنها رواية مؤلمة هو بطلها الوحيد في تقنية «الزمن الدائري»، ولن أتمكن أبداً من أكون السارد. في بدايات الثمانينات جئت إلى أمي أودعها لأنني كنت على وشك السفر إلى الأردن في دورة عسكرية. كان يفترض أن يكون الوداع بروتوكولياً وعاديَّاً على اعتبار ان الدورة ستستغرق حوالي 3 أشهر فقط ثم أعود إليها. لكنها في لامبالاتي الوداعية المؤقتة اذا بها تحضنني وتسقط عليّ كما يهب إعصار على عشبة ضريرة وهي تصرخ منتحبة: «عبدالله ليش يوم أشوفك احس اني ما بشوفك مرة ثانية؟. يا ربي ليش»؟.
واليوم، في المطبخ، في بيت البريمي، كنت أناورها وأناورني كي لا نصل الى لحظة الحقيقة. في أية حال تعرف أمي موقفي من الدين لكنها لا تستطيع أن تتقبله، وأنا أعذرها بالطبع. العيون تفضح بعضها البعض وتدرك الانكسار الدفين في اننا لم نعد لبعضنا البعض، واني اختلف اختلافاً مؤسفاً (من وجهة نظرها الجديرة بالاحترام) عن إخوتي وأخواتي بينما أنا أكبرهم والأم تتمسك بالعمود الضائع في الزمن. سوف أتسلل بالحنان والحنين إلى السرد: «أمَّاه، تتذكري الشاة»؟. «نعم حبيبي ونور عيوني عبدالله أتذكرها». كانت الشاة قد مرضت في زمن عُماني بالكاد يتحصل فيه البشر المرضى على مسكنات رخيصة للألم بوصفها دواء لكل العلل والأوجاع. ثم ماتت الشاه ودفنَّاها على حرقات نحيب أمي التي كانت قد خسرت من الأطفال ثلاثة.
كانت أمي تسهر على تطبيب الشاة المريضة حتى الفجر، وكنت أرقب المشهد بمزيج من الاستغباء والفضول لهذه العاطفة الغريبة. وحين ماتت الشاة انتحبت أمي لأسبوع كامل، ولم تستمع الى تضرعاتي بضرورة الكف عن الفقد.
وحين كانت لطيفة حبيب موضوعة في النعش في حوش بيت الخال علي في صحار، أتذكر شبح أمي وهي تنوح بصوت ينخفض أمامه الصراخ، وقد قادته امرأتان، واحدة تتأبطها من اليمين، والأخرى من اليسار. أتذكر جيداً ان إحدى المرأتين قالت لأمي: «شوفي لطيفة قبل عن تسير»، فصرخت أمي: «لطيفة ما تسير»!. حين رأيت أمي دار في خَلَدي الطِّفل أنها من كان قد مات، وسيأخذنوها مني مع لطيفة، وسأبقى في بيت خالي علي في صحار بلا أم وأخت، ولن أعود إلى مجز الصغرى أبداً. كنت حانقاً على كل شيء، ولست مدركاً لأي شيء، فاندفعت إلى خالي علي راكضاً ونزعت عمامته البيضاء من على رأسه وعدوتُ بسرعة البرق نحو البئر لا لكي أُسقط نفسي فيه بل، فقط، كي أرمي عمامة الخال في أعماقه. تمكنتُ من رمي العمامة في الماء السحيق، وتمكنتْ اذرع مهرولة قوية من ان تقبضني وتجرني إلى الخلف وأنا على حافة البئر تماماً. لا أدري كيف تصوروا انني كنت أريد إلقاء نفسي في البئر. والله ثم والله لم أفكر أبداً في ذلك، بل فقط كنت أريد ان أرمي عمامة خالي علي في البئر، وقد نجحت.
ظهراً كان لدينا ضيوف من الأقارب من عائلة الأنصاري في صحم، وقد سعدت برؤيتهم حقاً. وكان هناك رز ولحم لذيذين مطبوخين على النهج الوليمي، وقد أتيت بما في وسع فكي للتلذذ بهما بِرُبِع فَكٍّ وقليل من الأسنان بعد «همبرجر» أمريكا البائس. ولا أدري عن جذور التخاطرات الغريبة التي أدت إلى أن تحضر لطيفة ومحفوظة حبيب في الحديث من دون مبادرة مباشرة مني؛ فبعد انصراف الضيوف كان هناك وقت حرج بين أبي وأنا الذي لا يطيق وجوده معي في نفس الحيِّز المكاني لأكثر من دقيقة كل عشر سنوات أو نحو ذلك. لا أدري كيف استرسل أبي وتذكَّر الراحلتين محفوظة ولطيفة بألم وعاطفة قلما يبدوان عليه من الخارج، فهو المسحوب إلى عواطفه وأشواقه نحو الداخل العميق الذي لا يسمح لأحد الاقتراب منه أبداً (أخبرني ناجي حبيب عن موقف نادر لم أحضره بسبب وجودي في أمريكا في ذلك الوقت، فمبجرد ان تلقى أبي خبر وفاة جدّي لأمي شرع في البكاء، واستمر فيه طوال الرحلة السياراتيَّة من البريمي إلى صحار، وقد أخفقت كل الجهود في توجيه عينيه إلى مكان آخر غير قلبه. كم كنت أتمنى لو شهدت ذلك. لا أستطيع أبداً ان أتصور أبي وهو يبكي). وأكاد أجزم بأن هذه المرة الأولى، حسب ذاكرتي، التي يتحدث فيها عن لطيفة أمامي، حيث استدعى بحزن جَمٍّ وحنجرته تغرورق بالدمع ما قالته له لطيفة في واحدة من أيامها الأخيرة: «أبَّاه، أنا مريضه واجد».
وقاد حديث الموت أبي إلى عبدالله حبيب في تفاصيل ترد إلى علمي للمرة الأولى، حيث قال إن عبدالله قد مات بسبب لاإنسانية النظام والظلم الفادح الذي أوقعه بالناس، وانه يحمِّله مسؤولية موت ولده؛ فقد وُلِدَ عبدالله في مسقط، وفي الرحلة الطويلة والشاقة إلى مجز الصغرى كان لا بد، في ليلة باردة وعاصفة، من المبيت عند «مركز حدود» في السويق بعد غروب الشمس، إذ كانت السلطات تمنع، على شاكلة بقية القوانين القراقوشية، إكمال السفر إلى بقية الباطنة إلا في أوقات محددة، وكان على الجميع ان يقضوا الليل على حصباء العراء، فأصيب الصغير عبدالله حبيب بحمى شديدة، ومات احتجاجاً على البرد الشديد.
وحين كان عمري عشرة أعوام رأيت من أبي موقفاً أتذكره بإكبار شديد؛ ففي أحد أيام سبتمبر 1974 كنا أمام امسجد الشيخ عبدالله المعيني (جدِّي، للأسف ولحسن الحظ) في مجز الصغرى على وشك أداء صلاة الجمعة، التي يؤمُّها أبي كالعادة، حين وصلت سيارة «لاندروفر، ستيشن ويجن» بيضاء جديدة تحمل رقماً حكومياً ومندوباً من والي صحم وعساكر، وتوقفت السيارة التي كان سائقها يقودها بسرعة فظَّة وبطريقة استفزازية وخُيلائيَّة نجم عنها تطاير الرمل والغبار أمام الحشد حين فَرْمَل في عيوننا تقريباً نحن الذين بالكاد نتوافر على بعض الحمير في أسفارنا المكُّوكيَّة بين «خور العشار» و«خور الظبي» و«سور الشيادي».
كان الوفد المتجهم يحمل معه عشرات النسخ من منشور أصدرته الحكومة على أوراق صقيلة، طويلة وغليظة. وكان المنشور يحمل صور وجوه مجموعة 1974 (زاهر، سعود، محمد، إلخ) ويُبَشِّر بالمكافأة المالية الوفيرة لمن يقبض على أي منهم «حياً أو ميتاً».
قال المندوب لأبي الذي هرعت إليه لأستكشف الخطب الجلل انه ما إن يلتئم شمل المصلين في المسجد فإنه سيخبرهم عن مضمون المنشور الحكومي، الذي شرحه لأبي، ويوزع نسخاً منه. غير أن أبي ردَّ على المندوب بحزم قائلاً أن المسجد «بيت عبادة» وليس «بيت سياسة» (أتذكر ذلك بالضبط الحرفي للعبارة)، وانه لن يسمح بدخوله إلى المسجد لذلك الغرض، ولكن: أهلاً وسهلاً بكم للصلاة معنا، وبعد الصلاة يمكن لكم أن تتحدثوا إلى الناس وتبلغوهم بما شئتم، خارج المسجد، ثم نتناول الغداء على الرحب والسعة في بيتي، ويمكن لكم استئناف مهمتكم في أي مكان تشاءون في القرية، لكن بعد تناول الغداء، واسمحوا لي اني لم أكن على دراية مسبقة بزيارتكم، ولذلك لا يسمح الوقت أن أذبح، وسنأكل ما يتوافر في البيت من طعام متقشف.
كان كمين الرستاق، في 29 أكتوبر 1974 العنصر الأكبر الذي توغل في أنساغي وأدى إلى إعادة توجيه حياتي حتى الآن [...].
وإلى عبدالله حبيب، هي، إذاً، مسقط التي عاثت فينا إثخاناً [...]. لماذا ينسى الناس بهذه السرعة (وما أكثر الذين نسوا بعد أن كانوا يدعون أنهم حماة الذاكرة وتأسيس للمستقبل). لماذا ينسى الناس كل شيء بعد أن يلقى في وجوههم شيء من عظام المائدة؟. لماذا ينسى الناس كل شيء لمجرد انه قد سُمِحَ لهم في نهايات القرن العشرين بوضع النظارات الشمسية على عيونهم وليس على بصيرتهم، واقتناء السيارات، وأجهزة الراديو، ودخول مسقط بعد حلول الظلام (أما رفع تحريم ارتداء البنطلونات فلا يزال ملتبساً في أحسن الأحوال).
وقال أبي أنه بعد موت عبدالله ومحفوظة ولطيفة (والأخيرتان رحلتا في ظرف أقل من سنة) أدرك بأن حظَّه في الذرية لن يختلف عن حظ أبيه الذي لم يبق من نسله سواه (وفي هذا السياق ذَكَرَ ما عرفته للمرة الأولى أيضاً، وهو أنه استدل من نص رسالة لوالده انه كان له ــ أي لأبي ــ أخوين ماتا قبل ولادته، محمد وأحمد، أما أخوه جماد فقد كنت أعرف أنه مات غرقاً. وفي الحديث أيضاً، عرج أبي على ما كنت أعرفه من غيره، وهو أن الإمام كان يتبادل رسائل مع جدي عبر شخص موثوق به يحمل الرسائل السرية على ظهر بعير يعبر الشساعة بين مجز الصغرى ونزوى بعد غروب الشمس.
كان السرد كله اقتراباً حميماً من روح غامضة تلحم المسافة المفتوقة بين أبي وأنا، وتتناغم مع رغبتي في أن أكف عن النظر إليه بصورة أحادية بسبب الشرخ الفكري الذي صدع علاقتنا في وقت مبكر. أنا أيضاً ينبغي أن أكبر، وعليه هو أن يدرك أنني كبرت، وأن لا رجعة عن الطرق التي ستأخذنا إلى نهاياتنا. لقد تعذبنا بما فيه الكفاية، ولم يَعُد الأب أباً، ولا الابن ابناً.
عصراً اجتاحتني حمى شديدة (بالأحرى بلغت ذروتها المتصاعدة بهدوء منذ بضعة أيام)، فذهبت إلى مستشفى البريمي الذي أصبح لزاماً زيارته في كل زيارة في تكرار ممل. قابلت طبيبة عربية متسربلة بثياب لا تليق بصيف، ولا بأنثى، ولا بإنسان حي ــ ثياب أشبه بالكفن، حيث لم يبد منها سوى وجهها وكفيها المرصعتين أصابعها بكثير من خواتم الذهب. وإذا كان هذا خيارها فلا بأس، غير اني، بصفتي مريضاً، كنت أجد صعوبة شديدة في سماع ما تقول، حيث كنت أقرب أذني إلى مصدر الهمس الطبي وأنا متكئ بمرفقيَّ على الطاولة، وأطلب بتهذيب شديد أن تعيد قول المقتضَب (الأدق: curt) الذي تلفظت به. لكن ربما كان عذرها هو يقينها أن صوتها عورة، ولذلك اجتهدت بأن يكون التواصل المهني «شفافاً» للغاية.
وهذا، في الحقيقة، هو ما ذكرني به مباشرة صوت الواعظ في التلفزيون حين عدت إلى البيت بعد زيارة المستشفى، إذ كان يجأر بأن كل المرأة عورة إلا وجهها وكفيها. وبالنسبة لي، ستبقى كلمة «عورة» أحد أقبح المفردات العربية ــ يا لها من كلمة بغيضة في كافة وجوه ورودها.
وعبر نفس المحطة التلفزيونية، بعد قليل من ذلك، وفي برنامج آخر، اتصلتْ بالشيخ الجليل ذاته امرأة تقول أنها ستذهب مرافقة لزوجها المبتعث دراسياً إلى كندا، وانها ستستغل وقت وجودها هناك للدعوة إلى الإسلام، غير انها، بسبب من ورعها وتقواها وخشيتها من الله، قلقة للغاية من احتمال اضطرارها لكشف وجهها هناك «في بلاد الكفار،» فكان رد الشيخ بما معناه أنه لو حدث ذلك الاضطرار بسبب الدعوة إلى سبيل الله، فمن المرجح أنه مقبول «إن شاء الله تعالى» .
اللهم إنا نسألك الرحمة.
وبُعيد الغروب كان علي أن آخذ [...] بدورها إلى مستشفى خاص في مدينة العين، فنحن مريضان دوماً؛ لم نلتق إلا ونحن مريضان، ولم نفترق إلا ونحن مريضان.. في ساعة لقائنا، وفي ساعة فراقنا (وفي أسبوع زواجنا أجرينا عمليتين جراحيتين، واحدة لكل منا). نزلت بعد ذلك أتمشى عند «الفلاح بلازا» حيث كانت هناك مشاهد سوريالية بغير امتياز. لن أنسى، مثلاً، ذلك الشاب البدين بصورة جارحة للحياء، والذي جلب سيارته اليابانية الجديدة تماماً (نيسان، ألتيما) لتركيب سمَّاعات كبيرة في داخلها غير المُشَنَّف، بحيث أنهمك ستة فنيين إيرانيين في تفكيك التنجيد الفاخر للأبواب، بينما دفن أحدهم رأسه في منطقة خفيَّة من الصندوق الخلفي، بحيث كان في وسعك أن ترى إنساناً بلا رأس تتحرك بقية جثته في اجتهاد مهنيِّ باهر، محاولاً فك براغِ وتوصيل أسلاك وأصوات هو الذي، بالتأكيد، يكاد يختنق، في ذلك القبر الحديدي.
وبعد أن انتهت العملية الميكانيكية والتكنولوجية المعقَّدة التي ينص عليها، وعلى مثيلاتها، المنطق الاستهلاكي لاستيرادنا للأشياء، انصرف صاحبنا، صاحبُ السيارة النيسان ألتيما مبتسماً بصوت يصم الآذان عبر نوافذ السيارة التي تعمد أن يفتحها كي يرى وقع الصوت على المارَّة، وأنا التقت عيناي بعينيه وابتسمتُ مشجعاً!.
لست سائحاً حط الرحال في أرض «إغزوتيكية»، فأنا ابن هذي الأرض القصيَّة (أبداً)، وأنا منتمٍ لمحتملها القائم ومصيرها القاتم معاً، ولكني أحاول، في نظرتي، أن لا آخذ كل شيء على انه مقبول على علاته ــ أعتقد أن أسوأ ما حل بنا هو أن كل شيء صار مألوفاً لدينا، وبذلك كففنا حتى عن الدهشة («الاندهاش» ربما كانت كلمة أفضل ما دام ما أرمي إليه لا يتصل بالشعر)!. ينبغي الآن أن أتخلص من شيء من آثار الحمى والجفاف الرهيب في الحلق والمنخر بشرب بعض العصير الطازج.
لكن، في المطعم الشامي المجاور الذي ذهبت إليه ظامئاً، كانت في انتظاري مشكلة لغوية هي مشكلة «يا الطيب».
بدأت مشكلة «يا الطيب» منذ أن رد الجرسون على تحيتي بـ «أهلاً يا الطيب.» بالطبع، لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذه العبارة، ولكني بالتأكيد لم اكن أعرف أنها أصبحت بمثابة الشيفرة الشائعة تقريباً، بل وما هو أسوأ من ذلك، لم أكن أدري أنها ستثير سخطي إلى هذا الحد (وهو سخط علي أن أعترف بأنه مبالغ فيه من وجهة نظر أي شخص سواي). ففي حديثنا المتعلق بما أريد أن أطلبه ظل صاحبنا يردد «يا الطيب» تلك بمباهاة شديدة، ومجانيَّة مفرطة، وفي نفس الوقت بشيء من الإيحاء الغامض، وكأنه يريد من خلال التلفظ بالقول الجليل ذاك أن يوحي إلي بأنه إنما يقول لي كلمة السر التي تجعل منا عضوين في خلية سرية تتبع تنظيماً سياسياً محظوراً (شيوعيَّاً، من باب التحبيذ الشخصي فحسب) ما، أو فكرة ما، أو شعوراً ما.
وحين جلب لي ما لم أطلبه بالخطأ اعتذر بـ «آسف يا الطيب» و«سأحضر لك فوراً ما أردت يا الطيب». كانت «يا الطيب» شيء من علامة القبول أو تأكيد الانتماء إلى شيء أجهله تماماً، وكانت تفيض بالسوقية والتفاهة.
قرفت كثيراً من «يا الطيب» تلك. لست طيباً، ولن أكون.
والآن تعبت، تعبت كثيراً؛ عيناي مغمضتان (أو مفتوحتان) على الرماد (أو على النار)، وقلبي من قبيل الرمد أو الدمار. خذوني ــ يا من لا تعرفوني، يا من لا (ولن) تسمعوني ــ إلى أماكن الدفن المجهولة.
الأربعاء 20 يونيو 2001، البريمي والباطنة، عُمان:
جاءت من أبوظبي فاطمة حبيب وابنتها «العروسة الصغيرة» أمل التي بهذه العبارة استبدلت مداعبتي «الأم- كلثوميَّة» القديمة لها: «أمل حياتي، يا حب غالي ما ينتهيش». ومن البريمي انطلقنا، ومازن وعبدالجليل، في بدء الليل إلى الباطنة (والليل وقت يليق بالسفر إلى مكان اسمه «الباطنة» أصلاً).
سيكون شارع وادي الجزي مزدوجاً خلال سنوات قريبة [...] لكن، وعلى الرغم من أن مشروع ازدواجية الطريق لا يزال في طور الدراسات والمسح الأولي، إلا أن مركز الشرطة الحدودي الجديد قد قطع بناؤه شوطاً محترماً. نعم، فحين يتعلق الأمر بـ «الأمن،» لا تأخير أبداً، ولا مزاح على الإطلاق في مثل هذه المسائل.
غير أن المفارقة كانت التفتيش الرمزي والاعتذاري تقريباً فحسب في نقطة الحدود الحالية. وفي ذلك ما لا مجال لمقارنته بِهَوَس السبعينات والثمانينات الأمني الجنوني . ما حدث مرَّةً، في أواسط الثمانينات، ان فتشونا جيداً – أحمد الزبيدي، وسماء عيسى، وانا--، وكان الباقي الاحترازي هو ان يخلعوا مقاعد السيارة ويفككوا المحرك لفرط الارتياب، ويقيسوا درجة حرارة الزيت في المحرك، وأوقفونا منفردين لوقت طويل من دون أن يقولوا لنا شيئاً. حدث ذلك بلا أدنى سبب سوى أن عقليتهم الأمنية حارت أمام وجود ثلاثة مواطنين عمانيين من مسقط وصحم وصلالة في نفس السيارة، [...]، إذ لا شك أن في الأمر مؤامرة.
اقترحت على المسافرين معي زيارة مجز الصغرى في الطريق إلى مسقط، إذ يزداد إحساسي بأن ما انتويته من زيارتها بأناة، والسباحة في بحرها، والتجول بين مزارعها، ومقابلة بعض أهلها، وتفقد مكتبتي في صناديقها لن يتاح لي أبداً.
فاطمة وأنا استرجعنا ذكريات المذاكرة على الفانوس مع الحشرات والجراد (الذي كنت آكله بعد أن أشويه على رأس الفانوس الحار). تذكرنا أيضاً سقي المزرعة، و«لقط الخلال» في الصباح الباكر ضمن مباريات تنافسية مريرة، وذهابي لـ «الضغوة» من أجل جلب سمك للغداء. غير أن أكثر ما صدم أمل الصغيرة ــ إبنة الثقافة الاستهلاكية الفاخرة اللاحقة في مجتمعات النفط الذي سينضب في غير بعيد من الزمان ــ من تلك الذكريات العجيبة لمخلوقين كشفا فجأة انتماءهما لزمن آخر هو قولي اني كنت أتابع الأبقار بما يشبه الخلسة تحيناً للحظة التي تلفظ فيها مخلفاتها التي أهرع إليها والتقطها بيدي وأضعها في القفير الذي أحمله ــ أمل صرخت: «كع!، أخيِّه عليك خاليه»!. « سماد يا أمل!. سماد عشان الزرع يا أمل»!، وبالتأكيد فإن أمل لم تفهم أي شيء. لا فائدة ترجى أبداً من الجيل الحالي إلا إذا سلَّمنا بأنه لا ينتمي إلينا ولا ننتمي إليه، وان عليه أن يشق طريقه بنفسه من دون وصاية روث البقر، أما نحن فإننا لم نناضل بما فيه الكفاية من أجل الحصول على شروط أفضل للتقاعد.
كانت مجز الصغرى تتظاهر بالتثاؤب حين وصلنا، وكانت رائحة البحر المضمخة بالرطوبة والعبق مُسْكِرة كالعادة، وكان الظلام يدَّعي أنه يلف كل شيء في الوقت الذي كان عليه أن يعترف فيه بأنه إنما يرى، ويتستر، ويبتسم: في صباي علَّمتني مجز الصغرى ان الليل هو الحقيقة.