نص .. دائرة كحذوة حصان
يونس بن مرهون البوسعيدي -
كانت المقبرةُ بوابة قريته، كان حين يخرج منها أو يدخل إليها يُسلّم ( السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، أنتم السابقون ،....) ولا يُحبّ أنْ يُتْمم السلام الأسود على جبّانة وجبّانة يرقد تحتها جدَّهُ وأخته وأعمامه وكثيرٌ من أهل قريته ممن عرف وممن لا يعرف، بينما راودَتْه الطفولة حين اشترى أبوه له لعبة الطبيب، أنْ يضع سمّاعة الأطباء على أيّ قبرٍ هناك ليسمع الحياة البرزخية.
حتى بيتهم الطيني الذي سكنه في طفولته ، قالوا له إن به قبرًا ، وكون أخته التي لم يرها كانت رضيعًا كثيرة البكاء والتغوط، فقط استأذى منها صاحب القبر، ولذلك ماتت، وحين حملتْ به أمُّه مرضتْ، فتدارك أبوه الأمر ونقلهم من البيت لبيت آخر، وصاروا يعودون للبيت الطيني لفتراتٍ ما، ولا يدخلون الغرفة التي بها القبر ، وتعلّم من أمّه أنْ لا تُلقي السلام على تلك الغرفة ، ولذلك لا يلقي السلام على المقبرة، حتى توفي جدُّه مِنْ مرض الصرع، الذي أُصيب به وهو هرم، وصار يُلقي جزءا من السلام، ولا يُكَمِّله ( أنتم السابقون وَإنَّا إِنْ شاء الله بكم للاحقون).
في مسقط لم يَرَ مقبرةً إلا على حوافّ الخوض القديمة والجفنين ، وكان حين يموتُ أحد سكّانها يرجعون به لقريته ليُدفن هناك ، فقرر شراء بيتٍ في الموالح ، كي لا يُفكّر في إلقاء السلام مقطوعًا أو كاملا على مَنْ لا يرد عليه السلام.
البحر، بهارات سوق مطرح ، نساء «المولات» الكبار، وأنْ لا يعرفك أحدٌ في مسقط وأنت تذرعُ شوارعها في أدغال الليل، و زواجه من الباطنة، جعله بعيدًا بعيدًا جدًّا عن البيت القديم، وصار حين يرجع القرية في كُلّ شهر أو شهرين أو في المناسبات، يدخلها من الشارع البلَدي الجديد، وكأنّ عقدين من عمره لم يكفيانِه لينسى هل يلقي السلام كاملا أم مقطوعًا ، حتى كان البيت القديم من نصيبه في تركة أبيه، ومرتجفًا بعد حوالي عشرين عامًا وقد سقط سقف البيت وصار دكًا، كانت أظافره تحفر حيثما تقع، ليُلقي السلام كاملا عليه.