ماض عربي، حاضر أمريكي: تاريخ عائلتي الخفي
لورين علوان -
ترجمة: أحمد شافعي -
في السنين التي عاشها جداي في بيتهما الكبير أسباني الطراز بجنوب كاليفورنيا، كانا يحتفظان بنسخة من القرآن وسجادة صلاة مختفيين وراء كرسي مزخرف. كان الكرسي المجلوب من دمشق يقع في ركن غرفة نومهما، فخما، لا يستعمله أحد، بوسائد مكسوة بالحرير. لم أر جديّ قط يستعملان المصحف أو سجادة الصلاة. فلم أولد إلا وقد انقطعا عن ممارسة شعائر الإسلام.
كانا من السنَّة، ولكنهما صارا بعد سنين في الولايات المتحدة مسلمين علمانيين، هويتهما قائمة في ما جاءا به معهما عند هجرتهما من لغة وثقافة وميول وعادات. فلم يبق بعد الإسلام غير لغة عربية كانا يتكلمان بها مع أبنائهما الأربعة، ووجبات كنا نأكلها، ومنزل سجاجيده عجمية وأثاثه الثقيل ينتمي إلى الطراز المغاربي الجديدMoorish Revival ، ورسائل مبعثرة في الدواليب وأدراج المناضد الجانبية في صفحات مبعوثة من دمشق ومن بيروت سطورها مكتوبة بالخط العربي، وصور فوتوغرافية لأقارب لم أقابل أحدا منهم قط، مصورة على شاطئ، أو في حديقة، أو في بيت بجانب كرسي منجد بحرير الدمسق غير مختلف عن كراسي بيت جديّ.
جاء جدي لأبي، ويدعى منير علوان، من دمشق إلى نيويورك للمرة الأولى سنة 1911، فأقام هو وإخوته الأصغر منه فارس وسعيد وفؤاد ومحمود مخبزا ناجحا في شارع أطلنطيك. وسرعان ما صار لنشاطهم اسم كمتعهد توريد حلوى فظل يحظى لعقود بتغطية صحفية منتظمة في الجرائد المحلية. فكانت في العلب الوردية المربعة المشحونة في أرجاء الولايات المتحدة والقاهرة ولندن وباريس البقلاوة وحلوى الفستق والملبن التركي. وفي الصيف كان المخبز يبيع آيس كريم استثنائيا مصنوعا من الفستق والبطيخ أو بتلات الورد.
في صيف 1921، رجع جدي إلى دمشق ليتزوج، وفي خريف ذلك العام رجع إلى نيويورك بجدتي فوزية زمبريكشي، عروسه الجديد ذات الشعر البندقي المسترسل حتى الخصر والبشرة الشركسية البيضاء والعينين الرماديتين. كانت قد جاءت مما كان يعرف آنذاك بالقسطنطينية، وعمرها خمسة عشر عاما، وفي شهر العسل في باريس، كان لا بد من الإسراع بقص شعرها على الطريقة الغربية. لم تكن تتكلم في ذلك الوقت غير التركية والفرنسية التي تعلمتها في البيت. وجدي علّمها العربية بلكنته الشامية وأدخلها مدرسة إنجليزية للكبار في بروكلن. وأنجبا أربعة أبناء أكبرهم أبي، وعاشت أسرتهما في وسط المهاجرين العرب المتقاربين في بروكلن.
كثيرا ما كان أبي وإخوته يتكلمون عن محل بروكلين وأيامه. فقد كان المخبز مركز حياة الأسرة، يذهب إليه الأولاد بعد المدرسة وفي الإجازات الأسبوعية، فتعلم كل واحد فيهم طرفا من أطراف العمل فيه ـ من خبز الأرغفة أو صنع الفطائر أو الطرق الدقيقة لصناعة الحلوى. وكانت وراء المحل في مطبخ المخزن منضدة تستعمل في فرد الفطائر بواسطة آلة خشبية يتساوى طولها مع عرض سطح المنضدة. في الضوء القادم من نافذة علوية، كان جدي يفرد الفطائر حتى تصل إلى سمك ضئيل بصورة أسطورية، ثم يبرمها حتى تتدلى عن حواف المنضدة كأنها بكرة من القماش.
في ذروة عمل المخبز كان يديره الأخوة الخمسة. جدتي لم تعمل فيه قط، لكنها كانت تمر به كلَّ يوم في طريقها للصرف في شارع فولتن. وتقول الحكاية إن جدي كان إذا تردّد في فتح درج النقود لها، فإن إخوته كانوا يقنعونه بعكس ذلك. بقبعة على رأسها، ومعطف فارسي، كانت تبدأ جولتها من نضد متجر أبراهام آند ستراوس، مستطيبة أعين الناس المعجبة بثيابها ومجوهراتها. كان الشراء متنفسها، وسبيلها إلى التغلب على حنينها للوطن، وعلى الإحساس بالخيبة، وعلى الصخب القاسي الناجم مما تعانيه والدة أربعة أبناء.
بعد سنوات في كاليفورنيا، نسيت جدتي لغتها التركية الأم، لكنها بقيت تتذكر أيام بروكلن. وإن تذكرت فما كانت تتذكر حي بايوجلو في قسطنطينية صباها، بل شارع فولتن، بمحلاته وصخبه البعيد كل البعد عن هدوء الأرصفة الخالية من الناس في الركن الذي تعيش فيه بلوس أنجلوس.
مع كل محطة في رحلة جدي ـ من دمشق إلى اسطنبول إلى نيويورك ثم لوس أنجلوس في النهاية ـ كلاة، وسط المهاجرين العرب في بروكلن. وبقيت مع ذلك عادات معينة: فلم يتعلم أي من جديّ قيادة السيارة قط، وبقيا دائما يتكلمان العربية في البيت. كان يفضلان ما يطبخانه من طعام سوري على ما يسميانه الأكل الأمريكي، ولا يستوعبان فكرة الأكل في المطاعم أو الخروج في إجازات. كان راضيين في لوس أنجلوس أن يعيشا بعيدين عن تيار الحياة الكبير، في حدود البيت، والأسرة ومجتمع الأمريكيين والمهاجرين اللبنانيين الذين ألفوا- مثلما ألف جدّي- جغرافيا كاليفورنيا ومناخها.
في الاندماج مع المجتمع الأمريكي الذي حدث في الجيلين الثاني والثالث، كانت التوترات دائمة بين القديم والجديد. عندما تقدم العمر بأبي، لم يعد يكترث بمن تعتبرهم جدتي البنات السوريات. وأشقاؤه مثله. والنتيجة أربعة زيجات عابرة للثقافات، كل منها هجين مختلف، لكنها تتحد جميعا في طغيانها على الهوية والعادات العربية. لم يتعلم العربية أحد من الأحفاد المنتمين إلى الجيل الثالث. لم ينتقل شيء من الهوية الدينية أو الثقافية. وهذا هو الذي قطعنا- أكثر من أي شيء عداه- عن تاريخنا: معرفتنا المفقودة بماضينا العرقثقافي. وبدونها، لم يكن هناك غير إحساسنا بالاختلاف، الإحساس الذي كان في آن واحد عميق التجذر، وغريبا لا ألفة لنا به.
*
صيغ مصطلح العرب الأمريكيين في ستينات القرن العشرين رفضا لفئة «البيض» العرقية، وهي الفئة الوحيدة التي كانت متاحة لأمثال أقاربي في استمارات التعداد والتجنيس. وفقا لموقع «عرب أمريكا» Arabs in America، كان التصنيف العرقي للعرب الأمريكيين غامضا دائما، بأثر من تركة ماض كان يوصف فيه المهاجرون من سوريا الكبرى والولايات العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية بالأتراك، فوضعوا مع الآسيويين ضمن فئة «المشرقيين». ولم يكن ذلك الخطأ التصنيفي- بالنسبة لموجة المهاجرين العرب المبكرة- يفتقر وحسب إلى الدقة، بل لقد ربطهم بقوانين الهجرة المناهضة للآسيويين في ذلك الوقت.
بعد الحرب العالمية الأولى، كان المهاجرون من الدول حديثة الانقسام كسوريا ولبنان والأردن ثم فلسطين في وقت لاحق يفضلون «البيض» على «الأسيويين» في أوراق الهجرة. وكانت في تعريفهم أنفسهم بالبيض مقاومة لمشاعر الانحياز ورفض الهجرة التي توسعت لتشمل كثيرا من دول الشرق الأوسط. في عام 1911، حينما هاجر جدي للمرة الأولى، وفي عام 1921 حينما وصلت جدتي إلى جزيرة إيليس، ربما كان يبدو تصنيف البيض ضرورة للنجاح في الولايات المتحدة. كان ذلك التصنيف يتيح لهم المواطنة، ويتيح أيضا القبول والاندماج. ولعله مكّنهم أيضا من شراء بيت العائلة في لوس أنجلوس.
في عام 1949، وقبل عام من تقاعده، ركب جدي قطارا إلى كاليفورنيا التي سمع من أصدقائه أن فيها لوس أنجلوس، وأنها بأشجار الفاكهة والزهور والخلفية الجلبية «مثل دمشق تماما». كان لدى صديق لبناني يعمل في العقارات بيت بحديقة خاصة، ونوافذ طولية، وغرف كافية للأسرة. في تلك الفترة كانت قوانين هيئة الإسكان الفيدرالية التمييزية لا تزال سارية، والمنزل أسباني الطراز الذي وقع جدي في غرامه من النظرة الأولى لم يكن معفى منها. والخرائط المعاصرة تحدد المنطقة بالخطوط الحمراء بما يعني وقوعه في المنطقة «أ»، أو ما كانت تعتبره هيئة الإسكان الفيدرالية منطقة إسكانية رفيعة المستوى تستوجب التأمين، ومن ثم يمتنع تملك البيوت فيها على غير البيض التزاما بالممارسات التمييزية. ولما كان جداي قد عاشا لعقود في حي مهاجرين عريق في بروكلن، فمن المحتمل أنهما لم يتعرضا لتمييز أو لقدر كبير من مشاعر المعاداة للعرب، أما في لوس أنجلوس، فربما كان جدي قد عرف- وهو رجل أعمال حافظ دائما على الالتزام بالقوانين المدنية- أن اعتباره غير أبيض قد يعوقه عن التملك.
قمعُ المهاحرين الأوائل- من أمثال جديّ- سمات وعادات معينة هو الذي مكّنهم من أن يندمجوا في المجتمع، بل وأن يحظوا بالقبول في دوائر البيض إذا ما لزم ذلك. كان جدي بقامته المهيبة، وستراته التويد، وصلعته المسفوعة، يبدي سلطة وبراعة في العمل، بينما جدتي بأناقتها ومجوهراتها الذهبية وعطورها الفرنسية، تشي بالتمدن. ولعل هذه السمات هي التي ساعدتهما حينما انتقلا إلى لوس أنجلوس، ولكنهما بقيا يفضلان مجتمع أمثالهما من المهاجرين كلما عثرا عليها هناك. وكان أولئك عائلات من المهاجرين الأوائل يعملون أيضا في التجارة، والصناعة، ويحافظون على عادات معينة. كانوا مثل أجدادي يستقبلون ضيوفهم في غرف معيشة رسمية ويقدمون الشاي والكعك، ويرتدي ضيوفهم دائما ثيابا خاصة ويحرصون على المجيء وفي أيديهم شيء من الطعام الخفيف، من قبيل الفاكهة المقطوفة في صباح يوم الزيارة.
قضت عائلتنا خمسة عقود في بيت لوس أنجلوس، في حياة إيقاعها مضبوط على الطبخ، وشغل البيت، والعمل في الحديقة. في الصباح كان جدي يرتدي مثل ما كان يرتدي في بروكلن ـ قميصا أبيض مكويا، وبنطالا من القماش الخفيف، وحذاء جلديا رفيعا، وسترة من الصوف ـ ويمضي عبر مدخل البيت المتلوي ليأتي بجريدة لوس أنجلوس تايمز فيطلع على تقارير سوق الأوراق المالية. كان الصباح مخصصا للخبز وطبخ الوجبة المسائية التي كانت تقدم دائما في وقت الغداء لقضاء فترة ما بعد الظهر في الحديقة. وكنت في طفولتي أضجر أبشع الضجر من تلك الأصائل، حيث لا يكاد يحدث شيء ما عدا التأمل، ونتفات من الأحاديث في بعض الأحيان، وتناول للفاكهة بين الحين والآخر. بعد سنين نمت في الفناء الخلفي شجرة مشمش، نتيجة لعادة جدتي أن تأكل الثمر وترمي النوى في حوض الزهور.
بدا أن جديّ ليسا بحاجة إلى شيء في الدنيا غير البيت وحديقته. وحتى بعدما غادر أبناؤهما البيت فمضت الأيام التي كان يقضي فيها أعمامي وأصدقاؤه على طعام البيت، حتى ليأكلوا أطراف الخبز وجدائل الجبن الطازج الدسم، بقي نمط الحياة في البيت الكبير مثلما كان.
*
في السنين التي عشتها مع جديّ لم يذكر أحد قط كلمة العرب. لم يكن مهما أن الأثاث مغاربي، أو أن الأرضيات مفروشة بسجاجيد عجمية، أو أن الصورة الفوتوغرافية الوحيدة المعلقة في غرفة المعيشة هي صورة لجدي (في إطار اشتغلته جدتي له بزخارف زهرية بمناسبة خطبتهما).
سواء أكنا مختلفين أم لم نكن- ولا شك أننا كنا مختلفين- كنت كلما خطوت إلى ذلك المعقل الحصين المزدحم المفروش بالسجاجيد الذي أقامه جداي، أرى لغز عالم مسكوت عنه ومكان مختلط الثقافات كأني أراه للمرة الأولى. في كل عام، كان إحساسي بالاختلاف يزداد حدة، وإن تكن حدة غير التي تزيد التفاصيل وضوحا، بل الحدة التي يجدها المرء على مرمى ذراع منه، متأصلة ولا تفسير لها.
أفكر في والدي أمي، وكانا يهوديين من أبناء نيويورك شرد الشتات أسلافهما من روسيا فمضوا غربا إلى أوربا الشرقية ثم إلى الجانب الشرقي من نيويورك. في بيت جدي لأمي، كانت كلمة اليهودي دائمة الذكر. لم يكن من شك على الإطلاق في أننا يهود، ولم يحل تراثي المختلط مطلقا دون أن يشجعني جدي اليهودي أنا وأختي على أن نصنف نفسينا يهوديتين. كان يشجعنا على دراسة اليهودية، وأن نسافر إلى إسرائيل، ونعيش في الكيبوتز، ونتزوج من يهود. ووالدتنا في نهاية المطاف كانت يهودية، ومن ثم فقد كانت اليهودية حقا لنا في ما يتعلق بالثقافة والطعام وتصورنا عن أنفسنا.
كانت تجربتي الثقافية المزدوجة بالقطع تجربة انقسامات وتوترات ثقافية، نتيجةً لزيجة والدي المختلطة التي لم يتسن لها في النهاية أن تقهر العراقيل. وأنا حينما أفكر الآن في هذه الاختلافات أجد أنني أكثر اقتناعا بأنه خير للمرء أن يسمع في صغره هويته منطوقة عالية الصوت، أما في حالتي فلم يكن لذلك نفع كبير. فبقدر إيجابية تراثي اليهودي، فإن هويتي العربية هي التي تجذبني، وكأن خفاء الحكاية التي لم تتم فصولها وتفاصيلها، أبقت القصة الكاملة المجهولة آسرة لي.
في الأسبوع التالي لانتخابات 2016 الرئاسية، أصدرت المباحث الفدرالية الأمريكية تقرير إحصاءات جريمة الكراهية في الولايات المتحدة فتبين منه أن حوادث التحرش والترويع والهجوم على المسلمين تزايدت بنسبة 67% بين 2014 و2015. وهذا الرقم- بحسب المركز الجنوبي لقانون الفقر- أعلى من مثيله في 2001 حينما أدى هجوم القاعدة على الولايات المتحدة إلى أعلى النتائج المسجلة التي بلغت 481 جريمة. حدثت هذه الزيادة في الفترة السابقة على الانتخابات الحزبية ثم ارتفعت من جديد بعد يوم الانتخابات. كما أورد المركز الجنوبي لقانون الفقر أيضا أنه اعتبارا من 11 نوفمبر، ارتكب أكثر من مائتي حادثة تخويف وتحرش تتضمن مواجهات، وأعمال تخريب، وإهانات موجهة لأفراد أغلبها تضمن إشارات إلى حملة ترامب. أغلب الحوادث اعتبر معادة للأمريكيين الأفارقة، ومعاداة للهجرة، ومعاداة للمسلمين.
لسنوات أحاط الصمت بقصة عائلتي الكبرى، وغياب المعلومات والتفاصيل التي كان يمكن أن تلقي الضوء على ما كان لدى جديّ من أفكار ومشاعر تجاه ماضيهما العربي وحاضرهما الأمريكي. وإن بقي صحيحا أنني في مراهقتي كنت أجد في عدم معرفتي شيئا من الراحة. فبوصفي غريبة على العائلة لا تتكلم العربية ولا تملك أدنى حس بالتاريخ، كان عدم المعرفة يعفيني من أن أفسر للآخرين ذلك الجزء الأجنبي المربك من تراثي. والآن إذ تتزايد النبرة القومية المعادية للمهاجرين المسلمين والعرب، أجد لدي رأيا مختلفا في الخفاء الذي نقله إلي جداي.
غداة انتخابات 2016، اكتسب تاريخ خفاء العائلة معنى جديدا حيث بات أصحاب تراثنا العرقي الديني الثقافي مستهدفين بناء على نسبهم. وحتى اليوم، يدور كثير من اللغو حول مراكز تسجيل المسلمين المهاجرين من البلدان التي توصم بعالية الخطورة. غير أن هذا الاستهداف الذي يغيب التمييز بين العدو والهوية العرقية له سوابق تاريخية في القرار التنفيذي 9066 عندما أدى الاستهداف العرقي أثناء الحرب العالمية الثانية إلى الترخيص بترحيل الأمريكيين اليابانيين إلى معسكرات الاحتجاز، فكان من أولئك أسر مؤلفة من جيل المهاجرين وجيل المهاجرين الثاني. الخفاء الآن مستحيل، فالرئيس المنتخب تعهد بمنع هجرة المسلمين ويتكلم عن إعادة تفعيل تسجيل المسلمين بعد 11/9. ومن المستحيل حينما يتعهد الرئيس بالبحث عن الناس في مجتمعاتهم لضمان أنهم سوف يكونون موثقين في أماكنهم أن لا نفهم أن هذا ليس إلا تعبيرا مخففا عن نظام التسجيل الذي سينطوي على تمييز على أساس الجنسية والدين.
إنني حينما أفكر في تركة العائلة التي احتوت الصمت سبيلا إلى الانتماء، أراها ضد أولئك الأفراد الذين يستهدفهم التسجيل برغم أحقيتهم في الحماية التي يكفلها الدستور. فاليوم لا أعرف إن كان اسم عائلتي العربي قد يعد تهديدا ولو كان جيلان يفصلانه عني.
برغم أن جديّ اختارا ألا ينقلا إلينا سمات الهوية العربية، فمع تقدم جدتي في السن، واعتلال ذاكرتها، صار الماضي أوضح وأهم بالنسبة لها فكشفت عن أحداث ومشاعر كان مسكوتا عنها من قبل. وصفت حزنها عندما تلقت وهي بنت صغيرة نبأ ترتيب زيجتها، وإحباطها في منتصف العمر عند الانتقال إلى لوس أنجلوس لتعيش في البيت الذي طالما أرادته لكن عزلته- وهو القريب من الجبال في شارع سكني هادئ- جعلها تشتاق دوما إلى بروكلن. كانت قصتها التي لملمتها قصة توتر دائم بين عالمي المعلوم والمجهول، وانفصال عمن عرفت من الناس والأشياء التي هيمنت على مسار حياتها. صراع بين القريب والبعيد، والمعلوم والمجهول، والمذكور والمنسي.
جزء من الانفصال- حسبما أرى الآن- هو رؤيتها لي كأمريكية لا عربية. كنت بالنسبة لجدتي ما تسميه بالفتاة الأمريكية، فلغتي الأولى هي الإنجليزية، وميلادي في الولايات المتحدة، وأحظى باستقلالية لم تعرفها أمهاتي. ولدي ميزة علاوة على ذلك كله: أنني ولدت في زمن جعلني أشهد حقبتين متمايزتين. كنت جسرا بين عالم جاء منه جداي وعالم منحاه لأحفادهما. أعرف شيئا عما رآه جداي، منير وفوزية علوان، وعيشهما الحياة المزدحمة الخفية عن عمد. بالنسبة لبعض المهاجرين العرب والمسلمين إلى الولايات المتحدة، باتت ميزة الخفاء تلك في ذمة ماض ربما لا يعود.
*
في 2004، ماتت جدتي عن ثمانية وتسعين عاما، وبيع بيت لوس أنجلوس. وعند إخلاء البيت أخذ أحد أعمامي المصحف وسجادة الصلاة. وأنا حصلت على أحد المقاعد المنجدة، برغم أن حريره كان قد بلي منذ زمن بعيد. لقد كان البيت جزءا من العائلة لأكثر من خمسين سنة، ولكن الحياة فيه كانت قد تلاشت قبل بيعه بوقت طويل، نتيجة لتقطع العلاقات وتقطع الروابط. ولكن الآثار باقية لدى الجيل الثالث، في أسمائنا، وفي قسمات وجوهنا، وفي بشرتنا الزيتونية، وفي تاريخ عائلتنا الذي يزداد شحوبا من عام إلى عام.
ربما يقول قائل إن تراث العائلة لو انتقل بصورة مختلفة لربما كانت الروابط الآن أقوى. ولكنني حينما أفكر في هويتي العربية، أراها عبر زجاج، عالما لا تفسير له، يبقى لمشاهده أن يستخلص النتائج لا بناء على ما يحكى له، بل بناء على ما يستطيع أن يراه وحسب. لو كان جداي وكثير غيرهما من موجة المهاجرين الأوائل قد اختاروا أن ينقلوا سمات هويتهم، فلعل ثقافتهم كانت تفهم بصورة أفضل في هذه اللحظة السايسية. وربما إشراك الآخرين في أسمائنا وتاريخنا قادر أن يساعد على تحقيق فهم أفضل لهويتنا الحقيقية، ولما يكمن فعلا وراء عرب أمريكا.