كتاب : صلاة على أرواح التشرنوبليين
ليلى البلوشي -
Ghima333@hotmail.com -
حين وقعت كارثة فوكوشيما اليابانية نتيجة لتداعيات زلزال تسونامي الهائل الذي هزّ الجرز اليابانية عن بكرة أبيها، في اليوم نفسه، ما قبل الشعور بوقوع كارثة المفاعل، صدر أمر بإخلاء أولي 3 كم من محيط المفاعل وشمل ذلك 5800 مواطن يعيشون ضمن هذا النطاق، كما نصح السكان الذين يعيشون في ضمن نطاق 10 كم من المصنع أن يبقوا في منازلهم، وفي وقت لاحق شمل أمر الإخلاء جميع السكان ضمن نطاق الـــ 10 كم .
لكن بالعودة إلى الوراء، تحديدا في السادس والعشرين من إبريل عام 1986م تصاعد حريق هائل اندفع على هيئة قذيفة إلى آماد السماء تسّرب منها غيمة إشعاعية أودت بحياة أكثر من 90 ألف إنسان في تلك البلاد، وخلّفت عاهات لكل من بقي منهم على قيد الحياة، تلك الإشعاعات التي قتلت الأجنّة وشوهّتها أودت بحياة الكائنات الحيّة أيضا الحيوانات والطيور والنباتات، المحاصيل الزراعية والتربة التي كانت مصدر حياة وليست قوتا لأولئك الفلاحين البسطاء فحسب، الذين كانوا بالقرب من منطقة مفاعل تشرنوبل والذين لم يعرفوا ما الذي يجري بينما غيمة إشعاعية فتاكة، مدمرة، تحمل بليارات الأوبئة الضارة بالقرب من مدينة بيربات - شمال أوكرانيا حاليا - قبعت بكامل جبروتها سماءهم؛ لأن السلطة تحت قيادة جورباتشوف في ذلك الوقت تكتمت على الحدث الرهيب لأسباب سياسية بحتة على حساب حيوات البشر، على حساب كائنات حيّة، على حساب جيل بأكمله وأجيال ممتدة ..!
استطاعت الروائية الصحفية البيلاروسية «سفيتلانا ألكسيفيتش» في روايتها «صلاة تشرنوبل»، ترجمة ثائر زين الدين وفريد حاتم الشحف، 2015م، عبر سنوات مديدة في البحث والتنقيب منذ اندلاع حريق تشرنوبل الإشعاعي على استقصاء الحقيقة، لا الحقيقة فحسب بل إعادة كتابتها، لا من كتب التاريخ ولا من على منصّات السياسة بل من وجوه الناس وكلماتهم ومشاعرهم، من الذين كانوا في الكارثة وداخل المنطقة المشعّة، من الذين قضوا يومين وهم يتنفسون الإشعاعات السامة، ويأكلون من محاصيل الأرض المشعّة، ويشربون من أنهار الملطخّة ببقع خضراء، دون أن يفكروا ولو لوهلة أن ثمة شيئا خطيرا قد وقع لبلادهم، للبقعة التي تحيط بهم، وحدها غياب العصافير والطيور أدهشهم وهم في فصل الربيع، لأنهم كانوا يؤمنون بالسلطة، يؤمنون بأن نظامهم السياسي متين، لقد كان إيمانهم أقوى من أن ينهار بسهولة، لذا الكثير منهم حتى اللحظة الأخيرة دخلوا في حالة من التيه لا الخوف، التيه تبدّى بصورة أكثر وضوحا حين أُمروا بعد عدة أيام من انفجار مفاعل تشرنوبل على مغادرة قراهم، وترك كل شيء، كل ما يخصهم ما بعد 26 من إبريل، حتى ملابسهم كان عليهم التخلص منها على الرغم من أن رئاتهم كانت قد تشبعت من هواء المفاعل قبلها بأيام معدودة، فقد كانوا خارج الصورة وخارج الحسابات ومصالح الساسة، صورة الوقائع الحقيقية لكارثة تاريخية، كارثة غابت عن هؤلاء الفلاحين البسطاء، ولم يعبأوا بها حتى حين عرفوا أنهم أصبحوا تشرنوبليين، أي مشعيّن، كان إيمانهم أقوى من أن يتداعى بأرضهم، حتى وهي ملوثة كما يقول العلماء، كما أثبت العلم، كثيرون منهم اختاروا الإشعاع على الرحيل وترك جلّ ما يخصّ ماضيهم وراءهم.
«صلاة تشرنوبل» ما يميزها كرواية وهي أقرب لوثيقة تاريخية هي الصرخة الجماعية، الصرخة المهولة لضحاياها، لم يدرك هؤلاء الذين استرسلوا وأدلوا بأصواتهم في ترتيل جماعي أنهم فريسة في قبضة كارثة مهولة، فالسلطة سعت بكل جبروتها وما تملك من مصادر وأساليب لكتم الحقيقة وتعتيم الوضع الكارثي بحجة أنهم معادون من قبل دول أخرى، وحتى حين أعلنوا بعد فوات الأوان حالة الطوارئ أوحوا للشعب بأنها مؤامرة خارجية، السلطة نفسها التي كانت همّها مصلحتها الكبرى لم تكلّف نفسها توفير الأقنعة والملابس للعاملين- مطهرو المفاعل- كما أطلق عليهم حين أُمروا بالتوجه إلى تلك المفاعل لتبريدها، العاملون الشباب المتطوعون لتطهير آثار تدمير مفاعل نووي دون أن يبالوا بيفاعتهم ولا بمخاطر وجودهم هناك، فكل من بقي بالقرب من المنطقة الإشعاعية، منطقة الموت كما سمي بعد ذلك تاريخيًّا، عملوا على كشط التربة كما توثق شهادة أحد العاملين على درء آثار الكارثة في ذلك الوقت: «كنا نرفع الأرض ونلفّها لفافات كبيرة، مثل سجادة، طبقة خضراء مع العشب، والجذور، والعناكب والديدان، عمل للمجانين، كان يجب كشط الأرض، وأخذ كل ما هو حيّ منها «دون توفير أدنى حماية لهم، العاملون، الأبطال، خدعوهم بشهادات تقديرية، ماتوا حتى قبل أن يحتفلوا بحصولهم عليها، لقد تقشّرت جلودهم، ونزفت كل بقعة من أجسادهم، تلوّثت رئاتهم وأعضاؤهم الحيوية تبلدت، كل ذلك وأبشع، ناهيك عن نفسيات زوجاتهم اللواتي اخترن البقاء بالقرب من أزواجهم حتى لو كانوا مشعًّين، حتى لو كانت اشعاعاتهم تهدد خطرا عليهم، لقد أدى الجميع واجبه، أدّوا ما آمنوا به، الكبار، الصغار، المسنون والمسنات، الأزواج والزوجات، الأطفال أيضا، وأصبحوا يُعرفون في التاريخ بتشرنوبليين، وحدهم أدركوا أن حياتهم انشطرت إلى ما قبل تشرنوبل وما بعد تشرنوبل، أما الذين نزحوا إلى قرى ومدن أكثر أمانا طوردوا بلعنة الإشعاع، بلعنة تشرنوبل، صاروا يهابونهم، صاروا نذيرا يفتك بسلامة الآخرين، صاروا مشعّين، ودفع الصغار منهم الثمن الباهظ لا بتشويه أجسادهم فحسب بل التشويه الحقيقي، الصادم الذي علق بأرواحهم من قبل مجتمعهم، وفارق كثير منهم حياتهم بأمراض غامضة، ومن بقي على قيد الحياة، صار منبوذا..!
لقد سُئل كثير من العمال، الذين سعوا متطوعين لدرء آثار الاشعاع وهم على فراش المرض الناجم عن هذه الاشعاعات: هل هم نادمون..؟ وكان جواب كثير منهم بأنهم ليسوا كذلك، بأنهم أدّوا واجبهم كمواطنين صالحين، كأبطال سيذكّرهم التاريخ.
وبالعودة للوقوف على منصّات التاريخ، سنجد الأمر نفسه عند معظم الصينيين الذين خضعوا للتطهير الثقافي في عهد الزعيم الشيوعي «ماو»، كثير منهم أولئك الذين وثقّوا حكاياتهم في سير ذاتية وفي روايات وقصص سئلوا عن شعورهم بالندم وكان جوابهم نافيا أيضا، على الرغم من أنهم دفعوا أثمانا باهظة إلا أن الشعور بالندم حتى بعد انكشاف زيف الحقيقة كان خافيا عن مشاعرهم، لأنهم كانوا خاضعين تماما، للسلطة بكامل جمالها وبشاعتها، لقد آمنوا بها وهذا الإيمان كان كفيلا بإسقاط مشاعر الندم والقهر والخذلان أيضا، إنه إنكار الذات الذي جعلهم يتقبّلون الواقع بعاهاته، كقدر، كحادثة وقعت وانتهت .. لكن لعل الكثيرين منهم بعد مرور ردح من الزمن، حين ظهرت عليهم آثار جريمة الإشعاع، الذي قاوموه بلا أدوات حماية، حلموا بأمر واحد كما جاء على لسان أحد العاملين المتطهرين وهو على فراش المرض ينتظر كأي تشرنوبلي لحظة موته: «اسألني بماذا أحلم ..؟ .. «بماذا» .. «بموت طبيعي».
رواية «صلاة تشرنوبل» هو انتصار للحقيقة ولأدب الواقع، هي شهادات في وجه تاريخ لا يكتبه سوى المنتصرين كما كشف لنا زيف التاريخ نفسه، لكن سفيتلانا بعملها الروائي لم تنبش في التاريخ بل في ذاكرة الضحايا، في قلوب الثكالى، في أرواح المهزومين الحقيقيين الذين خسروا كل شيء عدا ذاكرة متقيّحة، أرادت أن تنقل الحقيقة هذه المرة من أفواه الضحايا الذين شهدوا حقا لا من تحدثوا عنها واخترعوا لها مؤامرات ومبررات عبر شاشات الخوف والهلع والطمس والتدليس والتشويه، الرواية التي تقودك إلى الحقيقة حين تكون أكثر صدقا من التاريخ الذي يتعرض للبتر لغايات شتى، سياسية، دينية، اجتماعية، إلى لا آخره . الرواية التي لا توّثق سوى الإنسانية المحضة، المشاعر، الأحاسيس والكلمات، تسعى لكتابة الحقيقة بأكثر من صوت، صوت الضمير، صوت المعاناة المتفاقمة، وصوت من درأوا الكارثة وشهدوها بكامل حواسهم، صوت من شوّتهم الكارثة وصوت من غيّبوا عن حجم مأساتها، صوت العامل، الإطفائي، الفلاح، ربة المنزل، المعلم، المحامي، الناشط، الحقوقي، مديرو معاهد الطاقة، علماء الفيزياء، الأطفال والرجال والنساء، ولو كان للحيوانات والنباتات صوت لهتكت بالسلطة التي تسببت في قتل الحياة فيهم ..
الرواية التي تضعنا أمام حقيقة صاعقة أن في الكوارث الكبرى لا تعني السلطات سوى نفسها وليغرق الشعب في الجحيم ..!
*ويكيبيديا