قصة قصيرة - هربت يدي
شريفة التوبي -
أحب يداي جدا، لي يدان جميلتان، يداي هما سر الفتنة التي أنا عليها، لذلك أعتني بهما جدا كاعتنائي بطفل صغير، أخشى عليهما من أشعة الشمس فأخبئهما في قفّاز سميك كي يحميهما من الأشعة الحارقة، كثير ما أضع عليهما قطرات من المعقّم الجديد بنكهة اللافندر حتى لا تصابا بالتلوث، أدهنهما بكريم خاص للعناية باليد، فحقيبتي لا تخلو أبدا من علب مصغّرة من الكريم والمعقّم لاستخدمهما حينما أكون خارج البيت، أحب يداي أكثر من أي شيء آخر، بالأمس أهديت أصبعي الخنصر خاتما جديدا، ترتدي أصبعي الخاتم فتبدو جميلة جدا، أصابعي بيضاء وطويلة ونحيلة، علاقتي بالجمال تأتي من خلال يداي وليس وجهي، ولم ينل وجهي من العناية ما نالته يداي، بالأمس ذهبت إلى صالون التجميل لعمل (بادكير ومناكير) طليت أظافري التي أصبحت على شكل قوس بطلاء مشمشي، هذا اللون الذي أحبه والذي يتناسب مع كافة الألوان، أزين يداي كما تزين الغجريات أيديهن، أعشق أيدي النساء الغجريات المليئة بالأساور والخواتم الملونة، أعشق صوت الأساور المتزاحمة في معاصمهن، أعشق صوت الخلاخل والمعاضد في سواعدهن، أحب يدي وأصابعي وأظافري، لا أحب شيئا من أعضاء جسدي كما أحب يدي، ألتقط ليدي صور عديدة، يدي الممسكة بكوب الشاي أو فنجان القهوة أو القابضة على كتاب، أو يدي المحتضنة وردة حمراء، أو العارية من أي شيء، لم يكن يعنيني من الصور شيء أكثر من صور يدي التي أسارع لنشرها عبر حسابي الانستجرامي لأظهر تلك الفتنة الباهرة والتي تعوضني عن أي شيء آخر.
وفجأة اختفت إحدى يدي، اختفت كل الصور التي كانت تظهر فيها يدي، اختفت كل زجاجات الألوان التي أستخدمها لتلوين أظافري، اختفت علب المعقم وعلب الكريم، اختفى زيت اللبان الذي أهدتني إياه أمي والتي أوصتني أن أدهن به أصابعي وأظافري كل مساء، تلاشى كل شيء، لم يعد هناك شيء في مكانه الصحيح حتى يدي لم تعد موجودة في مكانها.
اختفت يدي منذ ذلك اليوم الذي كان هو واقفا فيه بطابور المراجعين منتظرًا أن يصل إليه الدور، يناولني الورقة المسجّل عليها الرقم الذي يتوافق مع الرقم الظاهر على شاشة العرض، أمد له يدي لاستلم أوراقه وبطاقته البنكية القديمة كي أسلمه بطاقته الجديدة، أخبره أن يضع إبهامه اليسار على الجهاز الصغير باللوح الخشبي أمامه خلف الحاجز الزجاجي بيننا، أشعر بتردده، أرى ارتباكه، أعيد عليه ما قلته قبل قليل، ليضع إبهامه اليسار، يضع إبهامه اليمين، أعيد عليه مرة أخرى أن يضع إبهامه اليسار وليس اليمين، أرفع له يدي البيضاء الجميلة والتي طُليت أظافر أصابعها بالأمس، والتي زينت كل مفصل من مفاصل أصابعها (الإبهام والسبابة والخنصر والبنصر) بخاتم أنيق، المكان مزدحم والجميع يبدو عليهم الانزعاج من أي تأخير، أعيد عليه ما قلت، فلعله لم يسمعني جيدًا
- اليسار وليس اليمين
- ما عندي
- يا أخي ما أريد منك شيء، فقط مطلوب منك أن تبصم بوضع إبهامك اليسار على ذلك الجهاز الذي هو أمامك
- ما عندي
أظهر تأففي من عدم فهمه فالمكان مزدحم بالمراجعين والظرف لا يتحمل شيء من هذه السخافات أو البلاهة، ألقي نظرة على طابور المراجعين فأراه ما زال طويلاً ومزدحمًا والنهار على وشك أن ينقضي، أكاد اسمع قرقعة أمعائي وصوت معدتي التي بدأت تصرخ من شدة الجوع فأنا لم أتذوق لقمة واحدة منذ الصباح، فحتى كوب الشاي الذي وضعه العامل على مكتبي قد برد دون أن أشرب منه شيئًا، المكان مكتظ بالمراجعين ومكتظ بضجيج أصواتهم ونفاد صبرهم، تختلط الروائح إلى درجة أن تصيبني بالغثيان، أراقب طلاء أظافري، أتأمل تلك النجمة الفضية الملصقة بعناية على ظفر إبهامي، لكن طاقة الصبر داخلي على وشك النفاذ، أنظر إليه، لبسه وطريقة كلامه لا يبدو عليه البلاهة أو الغباء، ربما لا يسمع، أعيد عليه للمرة العاشرة، أشير إليه بمد يدي اليسار والإشارة على الإبهام
- يا أخي خلصنا، الناس وراك طابور وأنت معطلنا، والدوام أيخلص..
ينظر لي دون أن يقول شيئا، ينظر إلى يدي التي أشير بها إليه ولا يقول شيء
يلكزه الرجل الواقف أمامه
- يا أخي خلي صبعك في الجهاز، أخرّتنا، قالوا لك اليد اليسار ما اليمين.
- ما عندي، والله ما عندي
الموقف لا يحتمل الفرجة، لا يحتمل التأخير.. كان لا بد أن أكون حازمة
- يا أخي لآخر مرة أقول لك، إذا ما تتبع الإجراءات وتوضع إبهامك اليسار، لن أسلمك المعاملة، وعليك أن تترك غيرك لينهي معاملته.
صرخ بألم كبير، ماسكا على كم دشداشته اليسار، نافضا له
- قلت لكم ما عندي .. ما عندي يد
كان ينفض كم دشداشته اليسار الفارغ من وجود يد ، لم يكن سوى ثوب أبيض يغطي فراغ ليد ليس لها وجود.
وضع إبهامه اليمين على الجهاز بصمت، ناولته بطاقته المتأخرة بصمت، لا شيء من الممكن أن يقال، تخنقني الكلمات المتراكمة والمرتبكة في قلبي، أفقد صوتي، تهرب يدي، تهرب أياديهم جميعا، يأخذ بطاقته ويمضى، تترك الأيادي أجسادها وتمضي معه، تتبعه، تسير خلفه، أرى يدي تنفصل عني، تركض خلفه، يختفي ولا يعود، ومنذ ذلك اليوم لم تعد يدي، أخذها الرجل ومضى.