«رجل الشرفة، صياد السحب» لـعبد العزيز الفارسي.. متتالية الحواس المعلَّقة
طارق إمام -
(1)
«لقد اختلطت عليّ الأمور ولم أعد أميز بين ما حدث حقيقةً، وما لم يحدث، وربما بالغتُ في توهمه. أريد صوتاً مختلفاً غير صوت ظنوني. أريد أصواتكم أنتم». ليست هذه مجرد عبارة مجتزئة من أحد نصوص (رجل الشرفة، صيّاد السحب)، المجموعة القصصية الأحدث للقاص والروائي العماني «عبد العزيز الفارسي»، والصادرة مؤخراً ضمن سلسلة «كتاب نزوى». العبارة التي اجتزأتُها من قصة «أربع دقائق» تصلح في ظني عبارة مفتاحية لعالم هذه المجموعة (السابعة في مسيرة صاحبها)، الغامض والموحي والقائم بالكامل في تلك النقطة العمياء بين الحقيقة والتوهم، بنفس درجة إقامته في الظل الساقط بين الرغبة والتحقق بتعبير إليوت. دائماً نحن أمام السارد نفسه، سواء حلّ ذاتاً في الواجهة بالضمير الأول، أو تعقّب آخر بالضمير الثالث، أو مزج بينهما منتقلاً من «الآخر» للـ»أنا». أما المخاطبون في العبارة فهم في ظني هذه الكتلة الوهمية التي لا تصبح الكتابة وجوداً إلا بوقوعها عليها: «أنتم» هم «نحن»، القراء، القادرون على إعادة تكوين عالم هذه المجموعة، المصنوع برغبة تفاعلية كونه يتعدى مبذولية نص الاستهلاك ليصبح نصاً مهيأً لإعادة الإنتاج.
«لعنة الحواس»، ربما كان عنواني الخاص لهذه المجموعة، ففي جميع القصص، تنهض الحاسة، بطلاً مهيمناً، لتجلب لعنات العالم على محيطها الإنساني وعلى نفسها في المقام الأول، كأن الغريزة هنا تقيم «ديالكتيك» خاصاً مع النص الثقافي الذي تحياه، والذي يندر أن يدعم هذا التألب ليُردي الكائن الإنساني، مرة بعد أخرى، قتيل تجرؤه على محاولة ردم الهوة بين عالمين لا يلتقيان.
من أنف مشحوذ في «الرائحة»، لفم لا يكف عن تدوير تقززه من أفواه العالم في «حبل الخلاص»، ومن التذوق الذي يفنى أمامه صانع الطعم من أجل خلود مستهلكيه في «قهوة» لحاسة سادسة تغور في الوجود الباطن لتُجسده حتى يغدو مرئياً في «طفلة الظلام»، ومن نار اللمس في «أربع دقائق» للزوجة بقعة الدم الهائلة في «النقطة» التي تزهر وتذبل كثمرةٍ محرمة. من كل هذه الحلقات المتلاصقة تتحقق «متتالية سردية» يجمعها السؤال وإن فرقها التنوع في الشكل القصصي والبُنى المختلفة، متتالية جل أبطالها ضحايا لحواسهم، يعبرون بلا هوادة حدود عالم الفيزيقي نحو بعد ميتافيزيقي يبدأ بمنامات الغفوات (المؤثرة والمهيمنة في هذه المجموعة) وينتهي بالواقع نفسه، أو ما ظنناه الواقع، وقد تحوّل إلى حلم يقظة شاسع لا سبيل للفكاك من أسره.
(2)
تنفتح المجموعة على قصة تدور في المستقبل، تتبنى أدبيات الخيال العلمي. قصة حبلى برواية، تبدأ أحداثها في العام 2017 وتنتهي في العام 2076. نحو ستون عاماً يقطعها المحكي في الزمن السردي لهذه القصة، التي يلخصها ساردها، «عبد العزيز الفارسي» نفسه (وحيث يتحد صوت السارد الفني باسم المؤلف الواقعي في لحظة زمنية لا وجود لها كونها لم تأت بعد). الإيهام البورخيسي يهيمن هنا، وإن بطريقة عكسية، فإن كانت القصة البورخيسية تنهض على تضليل الماضي بوصفه ثبوتاً وهمياً تكفيه دفعة لكي يتهاوى متحولاً إلى تخييل خالص، فإن «الفارسي» هنا يذهب للمستقبل ليجعل منه عالماً متحققاً تحوّل بالفعل إلى سلطة ليس بمقدور الماضي (الحاضر في الحقيقة) أكثر من تأملها، ولا يكتفي بلحظة منه، بل بشريحة واسعة تغطي ستة عقود دفعةً واحدة. الاستعارة البورخيسية الكبيرة في هذه القصة تبعث في الوقت ذاته بتلويحة ما لـ»جرينوي» بطل رواية العطر، الذي يحضر هنا في صورته الجديدة «جوبال شارما سينج»، كقاتل أيضاً، والذي يقتله ولعه بالرائحة تماماً كسلفه، بينما يرغب في تثبيت الرائحة وجعلها قابلة للانتقال الأثيري، بعد أن اكتفى سلفه بصنع اختراع يعيد له ذاتاً مهدرة. لعبة ماهرة في التناص الرهيف يلعبها الفارسي في هذه القصة، قبل أن يدعمها بانتقال مفاجئ من سارد مختبئ يسرد بطله بالضمير الثالث، لسارد يطل برأسه في المقطع الأخير، كاسراً إيهام قصته نفسها في لعبة «ميتا سردية» تعيد فيها الكتابة «اللاحقة» تأمل «كتابة سابقة» داخل المتن نفسه.
اللعنة، التي ينام بطل القصة الأولى فيها مختنقاً برماده، لن تلبث أن تتمظهر في شخصية أخرى هي «عويش بنت الربشة»، أسيرة حادثة طفولية تقيأت فيها صديقة اللعب في فمها. «يعرف جميع أهل الغوابي المشكلة التي لم تفارق عويش منذ الطفولة: التقزز. هي لم تقبل أحداً بعد اللعبة الطفولية التي غيّرت حياتها. خمس بنات، قبيل المغرب، قرب الحوض. كانت اللعبة أن تملأ كل بنت فمها بالماء وترش عيني أقرب واحدة لها. الفائزة من تجبر الباقيات على الاستسلام. ابتلعت زينة كمية كبيرة من ماء الحوض الممتلئ بالطحالب، وفجأة، في محاولتها رش وجه عويش بالماء، تقيأت عليها بغزارة.. ظلت الرائحة تطاردها سنين، وعجزت المستشفيات عن إيجاد حلٍ للطفلة الممتلئة التي أضحت عوداً ناحلاً». لعنة عويش تلاحقها في منام مؤرق، ترى فيه نفسها يوم القيامة عارية وسط خلق يرتدون كامل ثيابهم. عري عويش مقابل «احتشام» الآخرين، أليس عكساً لواقعها؟ إنها في الحياة تعيش بعري منقوص كونها ترفض التقبيل، ترتدي ملابسها بشكل ما بين عراة يضعون أفواههم في أكواب الآخرين وأطباقهم فضلاً عن الوظائف الأكثر حميمية. غير أن البطلة بوهبها «سبيل لله» عبارة عن ثلاجة للعابرين يشربون منها الماء المثلج، لن تلبث أن تستعيد لعنتها مع فقير يضع فمه في الصنبور. تذهب عويش بلعنتها للنهاية، تتصالح معها لتقف في لحظة جامدة تشبه أبدية مبكرة: «ثلاجة السبيل وعويش بنت الربشة أمام المنزل على الدوام، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منهما».
السارد في قصة «نعمة» يقيم بالمقابل حلماً كاملاً، يبتلع الواقع موزعاً على سبعة أشلاء كولاجية، «الذاكرة» هي البطل في هذه القصة، بخفوتها لصالح حسية مقموعة على شرف نساء كالأشباح. ساردٌ مبتل بأحلامه، لا يعود للواقع إلا لكي يشير إلى تجسده الفادح في المنام، بينما تتدخل عبارات الحوار في تلك الحافة المرهفة والقاتلة كنصل، بين اليقظة والسبات. يلتقط ساردٌ آخر ناصية السرد في «مطر صباحي»، وأيضاً بضمير المتكلم، حتى تشعر أنك أمام نص مكمل لمناخ سابقه، في اتجاه استعادة طفولية، تعارض شيخوخة السارد السابق، وكأن الطفولة والشيخوخة تتقابلان في نصين مرآويين. «مطر صباحي» نصٌ تنهض فيه الاستعادة الحسية للعالم عبر أحد تمثلاته الطبيعية متمثلةً في المطر. الحكاية تُستدعى عبر الذاكرة ويستحضر الوجود الإنساني كله، كما في الشعر، عبر ارتباطات شعورية لا سببية في جوهرها . وتكتمل هذه الحلقة/ المتتالية بنص ثالث، أيضاً بضمير المتكلم، سارده «كاتب» (في تضييق جديد للمسافة بين السارد الفني والمؤلف الواقعي، مع كسر ذكي للإيهام بحيث تصبح القصة المتحققة _ التي نقرأها_ هي القصة الناقصة ذاتها التي لم تتحقق ولا يزال السارد يفكر في كيفية كتابتها). «القصة والنادلة» هذا هو عنوان القصة لكنه أيضاً عالمها: العالم كنص مكتوب يدعمه الكذب وهو يواجه نظيره أو نده: العالم كتجسد حسي تمثله المرأة. الكتابة (يفترض) أحد أشكال البقاء، والتدوين يمنح حتى الكذب سلطة الحقيقة، بينما النادلة (وعلينا ألا نغفل التوصيف الوظيفي الذي يحيل دون ثرثرة لوضعية طبقية وثقافية)، عابرة، فانية، وفوق ذلك شفهية باعتبارها حضور لم يُدوَّن. السارد/ الكاتب هنا يقف بوضوح بين الجحيمين: الذهاب للسلطة أو الاستسلام للذة العابرة، (الكاتب الذي ينهي القصة الأولى في المجموعة موظفاً مرموقاً في وزارة، أليس تمثيلاً ما للسلطة؟) أما المكان فهو التمثيل الأكمل للعابر، المنتقل: «المطار» مثلما كان المكان في القصة الأولى «مترو دبي الفضائي». كلا القصة والنادلة سيضيع في الحقيقة، فلن تُكتب القصة ولن تنشأ العلاقة مع المرأة: «رغم كل محاولاتي المستميتة، أنا عاجز عن تذكر تلك الفكرة الألمعية البسيطة العميقة لقصة لم أكتبها، وقادتني للتعلق بأنثى جميلة في مطار بعيد».
«صالح علي عبد الله»، السارد في نص «أربع دقائق» يقدم نصاً اعترافياً يليق بتعرية كاملة تقدم نصاً حسياً، «اللمس» هو البطل هنا، فعل اللمس يغدو قراءة كاملة للعالم تُرجِّع من بعيد صدى «بيت من لحم» ليوسف إدريس، مثلما تشترك مع القصة نفسها في سؤالها الأخطر: «التواطؤ». ثمة «خديجة» وثمة «روز»، والمسافة الواضحة بين الاسمين ليست بأبعد من المسافة بين الذاتين القابعتين خلفهما. اليد هي بطل هذه القصة وأفقها، ومصدر غرابتها أيضاً. وهي فوق ذلك مصدر شعريتها، ذلك أنها تجعل من القصة كلها «مجاز مرسل» إذا طبقنا عليها المنطق البلاغي. يكتب صالح قصته بعد تحققها، متلافياً فخ «الكاتب» الذي فكر في قصته أولاً فلم تُكتب. غير أنه، ومثله مثل الكاتب، ينتهي معلقاً بين الإقامة (القصة/ خديجة) والعابر (النادلة/ روز).
تحفل المجموعة بتنويعات سردية في الشكل القصصي، فهناك القصص «الومضات» مثل «قهوة»، «رثاء»، و«حواء». وهي قصص تنهض على المفارقة وتتمتع بنزوع شعري تجريدي عالٍ، دون أن ينفصم عالمها عن الموضوع الكبير للمجموعة، لكنها تقدم المحكي في أقصى درجات تجريده وذهابه للأفق الشعري. هناك كذلك النصوص التي تتصل بموروث الحكاية الشفهية تكوينياً ورؤيوياً كـ «الملاك الحارس»، حيث تتولى الجماعة السرد بالضمير الجمعي «نحن»، وحيث الطارئ الذي يقلب سكينة المجموع، ليقدم العلاقة بين الفرد/ الحاسة، والمجموع/ الحسية المقموعة.
ومثلما تبدأ المتتالية بنص خاص تكوينياً يستبق الزمن، تنتهي بقصة تتبنى منطق التقرير الصحفي المبني على «الاسترجاع»، وتبدو، مع بنطها الطباعي الخاص، كما لو كانت مجتزأة من صحيفة. القصة الأخيرة اسمها «النقطة»، وهي بالفعل النقطة في نهاية سطر طويل ممتع تكونه هذه المتتالية التي ينهض في حلقاتها الفرد، على جثة نصه الثقافي ومجمل سياقاته المكبلة، عارياً إلا من ورقة توت أخيرة، تكشف مجمل عريه بأكثر مما تستر حدود عورته.