دبليو إس ميرون بعيدا عن العالم وفي قلبه «3»
حوار: إدوارد هيرش -
ترجمة: أحمد شافعي -
ـ هل يمكن أن تكلمنا عن تجاربك في حركة السلام الناشئة وحركة مناهضة الأسلحة النووية في الولايات المتحدة وخارجها؟ إلى أي مدى كنت نشطا سياسيا؟ وكيف أثّر ذلك على عملك؟
ـ كنت أعرف دوما أن الروابط قائمة. حاولت العثور عليها بطرق مختلفة، لكنني أدركت أنني لم أكن أحسن البحث. كتبت جملة من المقالات في الأحداث السياسية في أوائل الستينات. وكنت قد بدأت انخراطي في السياسة في الخمسينات. أولى المظاهرات التي شاركت فيها كانت في أواخر الخمسينات وبداية الستينات في الولايات المتحدة. ومن أوائلها كذلك مظاهرة أمام فورت ديتريتش في ميريلاند، حيث كانت توجد قاعدة التسلح البيوكيميائي. كان يرضينا أن نجد خمسة منا أو ستة واقفين خارج البوابات في ما كنا نسميه السهرة. كانت المظاهرات في الولايات المتحدة ضئيلة في تلك الأيام. أعني أننا في بعض الأحيان كنا نعد نفسنا محظوظين إذا وجدنا أننا اثنا عشر شخصا. في المقابل، كنت سنة 1958 في إنجلترا، وكنت في مسيرة أولدرماستون الثالثة [المناهضة للأسلحة النووية]، وكانت أضخم مسيرة في إنجلترا منذ الشارتريين [في قرابة منتصف القرن التاسع عشر]، وأوشكت تماما على شق حزب العمل. كانت ضخمة، فكان وسط لندن كله يغص بالواقفين في صمت في نهاية تلك المسيرة. كانت لا تنسى. أتذكر أيضا أن [الشاعرين] تيد هيوز وسلفيا بلاث جاءا يشاهدان نهايتها. تيد وسلفيا كانا يعزفان عن المشاركة في مثل تلك الأمور، ولكنهما جاءا وشاهدا.
ـ «القمل» أشد كتبك وحشة وألما وإحساسا بنهاية العالم. وقوده غضب عارم سياسي وبيئي. أتساءل عن مشاعرك الآن تجاه ما تسميه بـ «نقمة القمل السافرة»
ـ حينما كتبت القمل كنت أحسب أن الأوضاع شديدة السواد، وأن ما فعلناه كسلالة بلغ من البشاعة أنه لا يكاد يوجد أمل، وأنه يقينا ما من جدوى للكتابة. كانت الفنون فعليا انتهت، والثقافة، ودور الفنون المشكور في حياتنا ـ كل ذلك كان انتهى. لم يكن باقيا غير الزركشة. بت أكثر اهتماما بزرع الخضراوات. ومن بعض النواحي أرى الوضع الآن أسوأ. ولكنني لا أعتقد أن بوسعك التشبث في الغضب المحض. هذه سكة مسدودة على المدى البعيد. لو أن الغضب يعني أي شيء، فينبغي أن يقودك إلى الرجوع إلى الاعتناء بما يجري تدميره. والأهم أن تنتبه لماهية ذلك الشيء الذي تعتني به. لا أريد أن أعظ في هذا الأمر، ولكنني حاولت أن أعثر على مخرج لي من المأزق، بالرجوع إلى الأشياء التي كنت مهتما بها. وهي لا تزال موجودة. أتذكر على سبيل المثال وأنا أبدأ كتاب القمل أن أزمة الصواريخ الكوبية وقعت. فكانت صدمة هائلة لي. كنت أعمل في حركة مناهضة الأسلحة النووية، وظللت أسير في الشوارع فأسمع الناس يقولون إننا يجب أن نرمي القنبلة [الذرية] على كوبا، وإن الوقت حرج، وكان يجب أن نفعل ذلك قبل زمن، وأشياء من هذا القبيل. ظللت أستيقظ في الصباح في غضب حقيقي. ثم قلت لنفسي أخيرا، إنني أعرف كل ما لا أريده، أعرف الخطأ وأعرف ما يبدو مزعجا، وما إلى ذلك. ولكن لو سألني أحد ما الطريقة التي تراها جيدة للحياة؟ لما وجدت لدي أي إجابة على ذلك. وفكرت أنني يجب فعلا أن أعرف الإجابة على ذلك. كان لدي ذلك المكان في فرنسا، تلك المزرعة الصغيرة، ففكرت أن أذهب إلى هناك. وأدركت أنني لا أعرف حتى كيف أزرع نبتة خس. لقد عشت عمري كله آكل الطعام بدون أن أقدر على إدراك كيفية زراعته. وبمرور الوقت تعلمت شيئا على هذا القدر من البساطة والوضوح. فمضيت إلى هناك وقضيت سنوات عديدة أحاول فقط أن أزرع الأشياء التي آكلها، وأن أفهم منطق مثل هذه الأشياء. كتبت الكثير من القمل في ذلك الوقت الذي كنت أحاول فيه الفهم. لا زلت لم أعثر على إجابات أبدية. ما يجري في العالم رهيب وغير قابل للإصلاح، والتاريخ في الغالب مشروع لعين. لكن في الوقت نفسه، من المهم أن نعيش في العالم بأكمل ما نستطيع. في يوميات [هنري ديفيد] ثورو يأسى على إغلاق كونكورد كومون. يقول إن الناس لن تعود قادرة على الذهاب لرعي أبقارها أو لقطف التوت البري. يقول إن هذا رهيب. ثم يقول إنني لم أنتبه له بالقدر الكافي حينما كان متاحا. كان ثورو يقول دائما ما يبدو أنني أبحث عنه.
ـ ابتداء من «الهدف المتحرك» واستمرارا في الكتب القليلة التالية، يظهر في قصائدك استياء راديكالي من اللغة، وعدم ثقة فيها، فذلك إحساس بعجز الكلام أو عدم كفايته. هل لا زلت ترى أن إيمانك بالكلمات «أكثر مما ينبغي» كما تقول في إحدى القصائد؟
ـ نعم. لدي هذا الإيمان باللغة. هي المنتج الأكبر الذي طورنا كسلالة حتى الآن. (ولا أعني بذلك أنني أعتقد أننا السلالة الوحيدة ذات اللغة). هي التجلي الأكثر مرونة لتجربتنا، برغم أن تجربتنا في نهاية المطاف غير قابلة فعليا للإيضاح. بوسعنا أن ننظر إلى الخارج فنرى نور الشمس في الشجر، ولكننا لا نستطيع نقل كامل ما في هذه التجربة من حميمية فريدة. هذا هو الجانب الآخر، أحد الأشياء التي تجعل الشعر مبهجا ومؤلما طول الوقت. فهو ينقل كلا من الممكن العظيم والمستحيل الذي لا نقدر عليه.
ـ كتبت مرة أن «اليأس التام يخلو من الفن». أتخيل أن كتابة القصائد، مهما يكن قالبها، لا يزال يمثل خيانة لوجود الأمل. يبدو هذا جزءا من نقلة أكثر تفاؤلا واحتفلا بعد «القمل».
ـ بينما كنت أتحدث عن ذينك البعدين في اللغة، أدركت أنني أعتقد أيضا أن هذا يصدق على الوجود والحياة كذلك. فنحن نعرف تماما ـ منذ اللحظة التي نعرف فيها أي شيء ـ بأمر الوجود الفاني، بأنه فانٍ، وأنه لا أمل، فكلٌّ سيموت. ومع ذلك، نستمر، ويرتبط أملنا بما يحدث كل يوم إذ نصحو ونتحرك ونقابل الأصدقاء ونتكلم ونقرأ القصائد ونرى النور ينتشر وينحسر. أملنا ليس شيئا في المستقبل، بل وسيلة لرؤية الحاضر.
ـ أستشعر بعض حمية الإحساس بنهاية العالم الشائعة في «القمل» في بعض أعمالك الحديثة. في قصيدة «يوم التنصيب [الرئاسي]، 1985» تقول «انتخبنا النهاية، لما نظرنا إلى كل شيء حيٍّ نظرةً قتلته، فرأيناه ميتا بالفعل». هل يوجز هذا مشاعرك السياسية الراهنة؟
ـ بدرجة كبيرة. أكتب قصائد من هذا النوع بقدر غير قليل من الشك. تبدو لي منطوية على مخاطرة الوعظ أو الإملاء أو الجعجعة. لكن علينا أن نحاول كتابة ما نشعر به، إن استطعنا. لو أن لدينا أي قدر من الموهبة، والقدرة على استعمال اللغة خارج المعتاد ولو قليلا، فعلينا أن نحاول استعمالها. وعلينا أن نستعملها في الأوقات التي تبدو ضرورية فيه إلى أقصى حد. لا أعتقد أن قصيدة سوف تغير مسار التاريخ، ولكنني لا أملك التوقف عن التساؤل، والتكهن بما كان يمكن أن تحدثه من آثار قبل فعل تلك الأشياء. عاودني ذلك السؤال مرارا وتكرارا أثناء حرب فيتنام حينما كان كثير منا يحاولون كتابة قصائد عنها. هل كان للقصائد أي نفع؟ لن نعرف هذا مطلقا. يقينا كلنا كتبنا، بلا استثناء، قصائد رديئة، وكنا نعلم أنها رديئة. ولكن البديل كان ألا نكتب على الإطلاق، وقد بدا ذلك أمرا لا يمكن التفكير فيه، ولا يزال يبدو كذلك. والقصيدة الرديئة في نهاية المطاف لا أذى فيها على الإطلاق، فهي سرعان ما تختفي.
ـ كتبت كثيرا من الأعمال السيرية في السنوات القليلة الماضية. أهذه علامة على الوصول إلى سن معينة؟
ـ طرحت هذا السؤال على نفسي. أفترض أن السبب هو أنه فجأة صار ممكنا لي ـ في ما بدا لي ـ أن أكتب عن أشياء معينة قد تصلح كطريقة لوصف العصر. لكن الخطط العَمْدية للكتابة كما تعرف، وكما أفكر في الأمر بأثر رجعي، تبدو هي والكتابة نفسها أشبه بشخصين يسيران في طريقين بينهما سياج فبوسع أحدهما أن يلوّح للآخر، لكن الأمر لا يتجاوز ذلك. في بعض الأحيان قد أقضي ثلاث سنوات أو أربعا في محاولة كتابة شيء، ثم فجأة أبدأ في كتابة شيء مختلف تماما ويفلح الأمر، أو يبدو أنه كذلك، في حين لم أفلح في ما حاولت الكتابة عنه في الأصل. لقد حاولت لخمس سنوات كما تعرف أن أكتب مسرحيات حينما كنت في إنجلترا، وكتبت خمس مسرحيات، فلم تعجبني أي منها. ولكن هذا في تصوري ألحق تغييرات في الطريقة التي أكتب بها القصائد، وأعتقد أيضا أن القصائد في نهاية «سكران الفرن» وبعض القصائد التالية لها في مرحلة متأخرة هي التي أفرزت نثر «أصول بلا أطر». من الواضح أن المرء لا بد أن يكتب شيئا ليتسنى له أن يكتب الشيء التالي عليه. ولا يمكن أن يكتب المرء ما يكتب بترتيب مختلف. وأعتقد أيضا أن الأمر يجب أن يكون كذلك.
ـ متى أتيت إلى هاواي للمرة الأولى؟
ـ أتيت إلى هنا للمرة الأولى في أواخر الستينات للمشاركة في ندوة شعرية فبدت لي جميلة، ولكن لم يبد أن لها علاقة كبيرة بالحياة التي كنت أعيشها في ذلك الوقت. ثم رجعت في منتصف السبعينات، وبدت العلاقة قائمة، فبقيت.
ـ وتعتقد أنك ستستمر في البقاء؟
ـ أوه طبعا.
ـ بدأت أخيرا في ترجمة أناشيد وأغنيات من هاواي. ما الذي يجذبك إلى هذه القصائد؟
ـ الأمر أنني أسير وفق مشاعري. كل ما توهمت أنني تعلمته عن الترجمة معطل وأنا أحاول أن أعمل على هذه القصائد. الإنجليزية تخلو من الأناشيد. لم تكن الإنجليزية يوما لغة إنشاد، لذلك لا وجود لتراث يمكنك الاعتماد عليه أو توسيعه. طالما كانت لدي تلك الرغبة القديمة التي تكلمنا عنها في أن أعمل منطلقا من تراث شفاهي، علاوة على إحساسك بالحالة الطارئة الناجمة عن كون هذا التراث جزءا من ثقافة تضيع. ولكنني غريب. ووضع هذه القصائد في اللغة الإنجليزية لن ينجيها، وإن أنجى رابطا ما بها، كما تعرف، وهو أمر يبدو لي أنه لا يخلو من وجاهة. أعتقد أنها ترتبط بأنواع أخرى من انقراض أشياء أخرى أيضا. سلالات عديدة تنقرض الآن، في وتيرة متسارعة. وذلك كله من أعمال البشر، ومن أعمال البشر فقط. أمر طبيعي بالتأكيد أن تنقرض سلالات، ولكن ليس بالوتيرة التي نتسبب فيها. اللغات والثقافات، وحتى لغتنا نحن، تعاني المصير نفسه. هذه ليست عمليات مختلفة. ليست كتبا مختلفة على رف واحد، هي جميعها كتاب واحد. وكل محاولة لتغيير مسار العملية محاولة مفيدة. محبة كل ما هو موجود، ومحاولة تبيّنه، والسعي إلى إقامة رابط معه، والسعي إلى وضعه في قالب جليل وكامل داخل لغتنا، داخل كلمات فيها شيء من بهجة الشعر الأصلي، هي وسيلة لإبداء الاحترام ـ الاحترام الحي الحماسي ـ وللحفاظ على حياته لنزر قليل من الزمن، أو لعلها مجرد محاولة مني لإبقاء نفسي حيا لنزر قليل من الزمن. في الوقت نفسه، كنت أعمل مع لغة هاواي كما مع لغة الكراو، وقادني شعر السكان الأصليين إلى بعض الشكوك في حاضر لغتنا الإمبريالي، فهي تخون افتقارنا إلى أي إحساس بالمكان. وهذا بلا شك يمثل ميزة للبعض.
ـ انخرطت في الفترة الأخيرة أكثر وأكثر في كتابة أعمال غير أدبية. هل يمكن أن تتكلم عن الدافع وراء كتابك عن هاواي؟
ـ أكتب ـ أحاول أن أكتب ـ عما جرى بالفعل وما لا يزال يجري في هذه الجزر. حاولت أن أكتب مقالات في السياسة قبل خمسة وعشرين عاما. وتوقفت لأن آخرين كانوا يكتبون في هذه المواضيع بصورة أفضل مني. لا أعتقد أن لدي موهبة استثنائية في هذا. عقلي ليس عقل مؤرخ على الإطلاق. أريد أن أكتب عن هذه المواضيع ببساطة لأنها تبدو لي ملحة. المواضيع هنا تتناول الأشياء التي تمرق بسرعة من هذه الجزر، وأنا أريد أن أتأمل كيف يحدث هذا وسبب حدوثه، وأريد أن أكتب عن هذه الأشياء قبل أن تغيب. أريد أن أكتب عنها لأنها لا تزال من نواح كثيرة أسئلة منغصة، وبالكتابة عنها بالقطع قد يتنسى لي أن أفحص مسار سريانها. ولأن لي اهتماما بالمكان وثقافة المكان ولغته، بينما لا تزال موجودة. وأيضا، لأنه مع كل حالة، يبدو كل من هذه المواضيع بمثابة تركيز أو رمز لأشياء تحدث في كل مكان في العالم. ومرة أخرى، هناك دائما خطر الاقتراب من الكتابة الدعائية، وأنا لا أريد أن أفعل ذلك. ولكن حينما يتكلم المرء على سبيل المثال عن جزيرة كاولاو Kaho’olawe، وهي جزيرة الثقافة المقدسة التي عوملت بما يشبه الازدراء طوال مائتي سنة ـ وتعرضت لسوء الاستغلال الممنهج على أيدي عرق مختلف له نظرة مختلفة للحياة ـ عندما تبدأ الكتابة عن هذه الجزيرة، تكون لها دلالة عملية ورمزية في الآن نفسه. عندما تبدأ في رواية قصة السكان الأصليين في أي مكان من المحيط الهادي، فإن هؤلاء السكان يعرفون على الفور ما تتكلم عنه ويتعرفون على كل تفصيلة فيه. إذا بدأت تكلم سكان أمريكا الأصليين عنه، يعرفون القصة كلها وكل ما فيها. هناك ناس في شتى أرجاء العالم يعرفون القصة وكل ما فيها. هي قصة الغطرسة والاستغلال والتدمير الدائم. لو أن جزيرة ديلوس كانت تستعمل كمنطقة اختبار للتفجيرات، شأن جزيرة كاولاو، فستجد عددا هائلا من ذوي الخلفية الأوروبية يعرفون القصة وكل ما فيها، وسيملؤهم الغضب. حقيقة أن ذلك يحدث لعرق آخر يجعل الأمر يبدو غير واقعي بعض الشيء، وفي نظر أشخاص ذوي خلفية أوروبية أيضا. تلك البلادة الثقافية تصيبني بالذهول وتملؤني بالرغبة في البحث عنها داخل نفسي وفي العالم من حولي ومحاولة الكتابة عنها. إننا نحاول النجاة بالعابر، ولو بمجرد وصفه، وحكيه، مدركين طول الوقت أننا غير قادرين على عمل أي شيء له. الدافع إلى حكي الحكاية، واليقين بالاستحالة. أليس هذا سببا للكتابة؟
انتهى
نشر الحوار في مجلة ذي باريس ريفيو، عدد 102، ربيع 1987، وهو الحوار الثامن والثلاثون في سلسلة فن الشعر.