تركي الحمد والبحث عن الايديولوجيا
عبدالله العليان -
تعرف الايديولوجيا في الموسوعات والمصطلحات الفكرية، بأنها منظومة للأفكار التي يعتنقها الإنسان للكون والحياة، ويدافع عنها لاقتناعه برؤيتها،ولكن النظرة الإيديولوجية، لا تقف عند فلسفة معينة، بل هي تلتقي عند كل الفلسفات والمنطلقات الفكرية، وهذه الايديولوجيا يصورها البعض، بأنها الحق دون سواه، ولذلك يتجمد عند الفكرة الأيديولوجية، ولا يقبل معتنقوها أية مرونة في القضايا التي يراها البعض نسبية، وهذه وجدت عند الفلسفات الشمولية والنظرة الأحادية، خصوصاً في فترة الحرب البادرة، بصورة أكبر.. ويرى الكاتب د.تركي الحمد في كتابه(دراسات إيديولوجية في الحالة العربية)، أن:مثقفينا يمارسون أحلام يقظة في ظل أسر الكلمات والمفاهيم الأيديولوجية المجردة، مما يسقطهم في مزالق الاغتراب وهوة العزلة الاجتماعية واللافاعلية كنتيجة لكل ذلك. وطبقاتنا الاجتماعية ليس لديها وعي بكينونتها الطبقية في المقال الأول، فتمارس وظيفتها الاجتماعية عشوائياً. وفق نمط فردي غارق في الغيبوبة الاجتماعية، تتقاذفه شتى الاتجاهات ومختلف أنواع الوعي الزائف، وكلها لا تعبّر عن وعي يتمثل بحقيقتي الزمان والمكان، وبالتالي، تتحول إلى كم بشري هامشي لا أثر له اجتماعيا فعلياً له. والجماهير، على إطلاق الكلمة، هي بدورها عبارة عن كم بشري وجد نفسه في هذه الحياة، فيعيشها تلقائياً مما يسلب له واقعه الاجتماعي من كل فاعلية وأثر. إن مشكلتنا الأساسية في الوطن العربي، كما يقول د.تركي الحمد، هي مشكلة إيديولوجية بشكل خاص، وكل إشكالاتنا إنما تتفرع عن هذه المشكلة في المقام الأول. فإشكالية الأصالة والمعاصرة، العروبة والإسلام، التراث والثورة. الاستقلال والتبعية، الدين والدنيا، والدين والدولة، إلى غير ذلك من الإشكالات، ما هي إلا انعكاس وتجسد الفراغ أو للضياع الإيديولوجي أو الثقافي الذي نجد أنفسنا فيه كأمة، يفترض فيها وحدة الوعي كتعبير عن وحدتها ذاتها. هذا لا يعني، كما يقول د.تركي الحمد، إنكار أهمية وتأثير الإشكالات البنيوية التي ورثناها ـ أو أورثناها ـ خلال تاريخ طويل القمع والاستبداد والاستعمار والاستقلال السياسي الناقص أو المشوّه، إلا أنه وفي وطننا العربي فان هذه الإشكالات البنيوية تحولت إلى تابع أو دالة الايدولوجيا( أو الإيديولوجيات) السائدة، والتي هي بدورها مجرد تعبير عن الضياع أو الفراغ الإيديولوجي الذي نعيشه. فهذه الإيديولوجيات السائدة والتي خبرناها خلال تاريخنا المعاصر، ليست إلا تعبيراً عن الاستلاب الثقافي العام الذي يعيشه الوطن العربي، فهي إيديولوجيات بعيدة كل البعد عن نبض التاريخ العربي(والذي يشكل شخصية الأمة وذاكرتها بغض النظر عن قبولنا أو رفضنا له) ولا تعكس أو تعبّر بأي شكل من الأشكال عن طبيعة البنى الاجتماعية والثقافية السائدة، ولا كيفية تغييرها ـ في حالة ارادة ذلك ـ تعبيرا يستوعب الواقع والتاريخ، لا تغييراً ينفصل عنهما فيفقد فاعليته ويشوّه تلك البنى زيادة على ما هي فيه من تشويه ، وتكون النتيجة في خاتمة المطاف، تجذيراً فعلياً للتخلف وتوطيدا للتقدم أو التطور السطحي المرتبط بجميع مستوياته العليا أو الدنيا، الفوقية والتحتية بالغرب، والغرب الرأسمالي بخاصة ، مما يحولنا إلى أتباع وعبيد لأسياد هنا وهناك.
وبصفه عامة كما يرى د. تركي الحمد في هذه الرؤية في مسألة الايديولوجيا فإن فجوة الانفصال بين المجتمع والدولة في الوطن العربي هي أشد ما تكون عليه من حدة؛ هذا الانفصال بقي ثابتاً رغم الزمن ودخول متغيرات جديدة في تاريخ الوطن العربي المعاصر،مما أدى إلى ثبات واستاتيكية القيم والقناعات التي يحملها الفرد العربي البسيط تجاه نفسه ومجتمعه والعالم من حوله.فتعبير «نحن» و «هم» بقي ثابتاً منذ نشوء الدولة العربية الأولى وبخاصة في الفترة الأموية، للإشارة إلى «الجماهير» و«السلطة». بمعنى أن انفصال المجتمع عن الدولة في الوطن العربي انعكس في الأذهان على شكل مفهومي هو نحن وهم، ومن خلال هذين المفهومين يتحدد السلوك السياسي للفرد العربي, ومدى تفاعله وتداخله مع «الآخرين» الذين تشكل السلطة السياسية الجزء الأهم منهم. فإذا ما كانت إيديولوجيا المثقفين، كما يشير د/ الحمد، تتميز بالغربة والاستلاب، وأيديولوجيا السلطة بكونها مصدراً للشرعية ليس إلا، ولا علاقة لها بالسلوك الفعلي القائم على نمط معين منه أنماط البراجماتية قصيرة المدى، فان أيديولوجيا الجماهير تتميز بالاستاتيكية والثبات النسبي عبر الزمان. رغم المتغيرات التي غيرّت، بشكل أو بآخر، من الظروف والبنى الاجتماعية والاقتصادية العربية. ولكن التغيرات الجديدة ،كما يرى الحمد، لم تمس في الحقيقة جوهر البنى الاجتماعية والاقتصادية الموروثة، مما أبقى إيديولوجيا الجماهير حبيسة الموروث، وزاد في الفجوة بينها وبين فئات المجتمع العربي الأخرى وأيديولوجيا تلك الفئات، وبينها وبين السلطة كأيديولوجيا (في كثير من الأحيان) وكممارسة (في كل الأحيان). هذه الفجوة أو الفجوات، هي أساس ضياع الرؤية ( أو عدم وضوحها على الأقل).
سأل أحد المثقفين العرب منذ عقد ونصف العقد: « لماذا يأخذ قلب العرب الذين ولجوا عتبة الثلث الأخير من القرن العشرين بالخفقان حالما يتناهى إلى وعيهم وقع حوافر فرس تخب في البعيد فوق كثيب من الرمل ؟» .
والجواب لدينا، كما يقول الحمد، وإن خالفنا فيه ابن خلدون ووضّاح شرارة، هو أن الجواد والحافر والفارس والصحراء عبارة عن رموز ، ارتبطت بالمخيلة العربية بالخلاص والأمل المنبثق من قاع اليأس، ولأجل ذلك يخفق القلب العربي لها .فالتجربة التاريخية الوحيدة الناجحة في خلق الأمة من شيء أقرب إلى العدم ، إلى أمة ذات وعي بكونها أمة والعمل وفق ذلك الوعي، كانت التجربة التاريخية الإسلامية وهي مرتبطة كل الارتباط بتلك الرموز .والتجربة الوحيدة في تاريخ هذه الأمة التي انطوت على تعددية معينة في الداخل ووحدانية الأداء في الخارج، كانت التجربة الإسلامية. هذه التجربة في اعتقادنا ، هي الخطوة الأولى في سبيل البحث عن مخرج لأزمتنا الراهنة ، وذلك ليس بإعادة التجربة وفق مقولة الإمام مالك بأنه « لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ». لأن ذلك أقرب للمستحيل ، لأنه لكل زمان ظروف ورجال تختلف عن بعضها البعض ، ولكن بدراسة هذه التجربة دراسة عميقة واعية بأهدافها مدركة لمنهاجها .في سبيل الحصول على اجابات معينة، تشكل مفاتيح أساسية لفهم أزمتنا الراهنة، التي تلخصها مقولة ورقة ابن نوفل وأصحابه قبل أكثر من أربعة عشر قرناً حين قالوا: «تعلموا والله ما قومكم على شيء». فالمطلوب،إذا دراسة الإسلام كحركة، كما يرى د/ الحمد، استطاعت خلق انقلاب حضاري، بكل معنى الكلمة، في التاريخ العربي.حركة استطاعت منح «القوم كل شيء» بعدما كانوا على « لا شيء»، وقبلها القوم على أساس ذلك رغم وجود البدائل الأخرى التي ما استطاعت فعل شيء. ان معظم ان لم أقل كل الكتابات العربية المعاصرة التي تتحدث عن الأزمة الحضارية، وتحاول الوصول إلى حل للخروج من هذا المأزق،وتلك الأزمة، إنما تدور في حلقة الاغتراب والاستلاب الثقافي والإيديولوجي، ويستوي في ذلك السلفي في طرف والمعاصر الرافض لكل ما في التراث في طرف آخر، وبينهما تتوزع الاتجاهات والإيديولوجيات.(:)،وفي دراستنا للإسلام كحركة تاريخية نمت وترعرعت في رحم التاريخ العربي في المقام الأول، سوف نجد الكثير من المفاتيح التي تساعد على فهم الأزمة الراهنة من ثم الخروج منها، وليس مهمة هذه الدراسة المتواضعة نقاش ذلك ، فهذا مشروع كبار يتطلب تظافر جهود المثقفين الملتزمين بقضايا الأمة.وبعبارة أخرى، فإن دراستنا للتجربة الإسلامية الأولى، كما يقول د.تركي الحمد، يجب أن تكون منصبة على منهج التجربة في حركتها وممارستها التاريخية، وكذلك على طبيعة التجربة وصيرورتها التاريخية، فمن ناحية منهج التجربة الإسلامية الأولى في تغيير المجتمع والاقتراب من الجماهير، نجد أن مفتاح كل ذلك إنما يتلخص في كلمة واحدة هي «التفاعل». التفاعل بين النخب والجماهير أو ثنائية بين الـ هنا والـ هناك، بين الجديد والقديم.
ومن ذلك نلتقط أول المفاتيح، كما يرى الحمد، لأزمتنا الحضارية المعاصرة في الوطن العربي. فنمط التفكير السائد بين مختلف القطاعات في الوطن العربي، وبخاصة المثقفين، هو نمط ثنائي فصلي قطعي يسير وفق منطق ((إما)) ـ ((أو)) either-or، إما التراث أو الثورة، إما القديم أو الجديد، إما كل شيء أو لا شيء. وهذا المنطق أو نمط التفكير هو بدوره نوع من الاستلاب، حيث أنه مقولة مستقاة من مفكري التحديث في الغرب الرأسمالي بصفة خاصة. إن التجربة الإسلامية الأولى لم تعرف مثل هذا النمط من التفكير (إما،أو)، بل كان منهجها ونمط تفكيرها جدلياً أو دفعياً وفق مبدأ الوسطية الذي أشرنا إليه سابقاً، وهو على اتفاق مع مقولات المنطق الجدلي المعاصر بكل أبعاده وبخاصة رفض هذا المنطق لمقولات الثنائية الانفصالية. فكل شيء مهما كان متبايناً إلا أنه يسير وفق أطر شاملة معينة في ظل كلية معينة تدمج هذه المتباينات، وفي الوقت ذاته تكفل لها استقلالية معينة، وعلى ذلك، فإن أحد المفاتيح لفهم واقعنا العربي هو في تغيير الكيفية التي ينظر بها العقل العربي إلى واقعه، ونقطة البدء في ذلك هي إلغاء نمط (إما،أو) من أرشيف العقل العربي المعاصر.