بغبارة اخرى : تفريغ العالم العربي من مسيحييه
د. حسن مدن -
لا يمكن قراءة التاريخ الثقافي والسياسي العربي الحديث دون التوقف ملياً أمام الدور الريادي الذي لعبه أشقاؤنا المسيحيون في مجالات عدة في التأسيس لمشاريع ثقافية وفكرية وسياسية وحضارية مهمة.
في الربع الأخير من القرن التاسع عشر غامر أَخَوان من مسيحيي لبنان المتعلمين هما بشارة وسليم تقلا بإصدار صحيفة «الأهرام» في الإسكندرية، التي هاجرا إليها من بلدهما لبنان، لتصبح هذه الصحيفة واحدة من أهم الصحف العربية وأكثرها شهرة لا في مصر وحدها، وانما في العالم العربي كله حتى يومنا هذا.
ولا يمكن التوقف أمام تاريخ المشروع النهضوي العربي دون النظر الجاد في مساهمات شبلي شميل وفرح أنطون، ولا يمكن التوقف عند الدراسات المتصلة بالتاريخ الإسلامي والفلسفة الإسلامية دون مطالعة ما كتبه البحاثة المسيحيون العرب حولها، على نحو ما فعل الفلسطيني إميل توما مثلاً.
كيف يمكن النظر إلى الجهد الفكري والنقدي المنسوب إلى العرب دون تذكر ادوارد سعيد، والمنجز الروائي دون التوقف عند إميل حبيبي، وأخشى أن استطرد فلا يتسع المقام هنا إلا لبعض الأسماء، فيما هي من الكثرة ما يجعل من المتعذر عدها.
ولو ألقينا نظرة على تاريخنا القريب لوجدنا أن لطلائع المثقفين من المسيحيين العرب المفعمين بالاخلاص لأمتهم العربية وعلى مصالحها وبالحرص على مستقبلها يعود الفضل الكثير في شق طريق الحداثة والنهضة التي عرفتها المدن المتوسطية العربية كالاسكندرية وبيروت وغيرها من المدن في بلاد الشام.
بل إن الكثير من قادة ومناضلي الحركات والأحزاب السياسية القومية والوطنية العربية التي ناضلت ضد الاستعمار والصهيونية ومن أجل الاستقلال الوطني والوحدة العربية والنهضة هم من المسيحيين، الذين تجاوزوا الانحيازات المذهبية، وناضلوا في سبيل صوغ وبلورة الهوية القومية والمجتمعية الجامعة الموحدة.
من وجهة نظر قومية عربية، فإن المسيحيين العرب هم مكون أصيل راسخ من مكونات هذه الأمة، وهم إلى ذلك كانوا، وظلوا من حملة مشروع النهضة والحداثة والتنمية في مجتمعاتنا العربية التي تواجدوا فيها، في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق ومصر وغيرها.
وحتى في بعض اللحظات التاريخية التي سعى فيها اليمين المسيحي المتطرف لعزل المسيحيين العرب عن محيطهم وهويتهم العربية أخفق في ذلك، وفي المحصلة عاد الرشد الى غالبية الزعامات المسيحية التي سعت هذا المسعى، كما وجدنا ذلك ونجده في النموذج اللبناني، رغم حدة الاستقطابات الطائفية والفئوية في هذا البلد.
في ظروف اليوم تنطلق الغرائز المذهبية والعرقية من عقالها، وتفرض صراعات دامية شوهت بنية مجتمعاتنا، وأعملت سكاكينها في النسيج الوطني لهذه المجتمعات، لتردها الى جاهليتها الأولى: مذاهب وقبائل وملل تتنازع فيما بينها.
ويبدو المسيحيون العرب هدفاً للقوى المتطرفة التي تسيء للاسلام، من حيث استخدامها لاسمه فيما تقترفه من آثام بحق الأبرياء من أخوتنا المسيحيين، على نحو ما حدث مؤخراً للأقباط المحتفين بعيد الشعانين في الإسكندرية وطنطا، حيث أزهق الارهابيون أرواح العشرات، امعاناً منهم في ضرب الوحدة الوطنية المصرية، وما حدث في مصر سبق أن حدث للمسيحيين في العراق، قبل قيام «داعش»، وبعد قيامها بصورة أخص، ومصر والعراق من البلدان العربية التي أنتج انصهار مكوناتها الدينية والاثنية في نسيج واحد الديناميكية التي طبعت حياتها السياسية والثقافية والابداعية، ونمط المعيش الاجتماعي فيها.
ترمي هذه الجرائم، بالاضافة الى الاستمرار في توتير الأوضاع الأمنية، إلى تفريغ البلاد العربية من جزء مهم من مكوناتها عبر حمل المسيحيين على الهجرة القسرية خوفاً على حياتهم ومستقبلهم.
ولا تنجو من هذا الإرهاب الطائفي المعادي للحضارة بلد مثل مصر المجتمع الأكثر رسوخاً واستقراراً عبر التاريخ، التي قدمت المثل الأوضح في التعايش بين المكونات المختلفة، وهي البلد الذي امتلك قدرة مدهشة على دمج هذه المكونات في بوتقة وطنية متماسكة وخلاقة.
وأذكر أني كتبت عندما انفصل جنوب السودان عن شماله قائلاً إنه لا يمكن مقاربة انفصال جنوب السودان عن شماله من أكثر من وجه، فالتبسيط هنا سيكون آفة الآفات.
وليس بوسع أحد أن يرحب بمنطق الانفصال، فالكيانات الكبرى تظل هي الأكثر مهابة، خاصة في عالم اليوم الذي توحده آليات العولمة، وتجعله أكثر تداخلاً وتشابكاً، والكيان الصغير مغرياً بالاستهداف أكثر من الكبير.
في الحال العربي الراهن ثمة اعتبارات أخرى أكثر جدية، فالفوضى الخلاقة التي بشرت بها سيئة الذكر كوندليزا رايس لم تعد نهجاً أمريكياً فحسب، وإنما هي نهج تسيرعلى خطاه قوى أخرى، لا يمكن أن تكون بريئة من الشبهات المثارة حولها، ترمي للدفع بالمنطقة في أتون نزاعات طائفية وعرقية تهدد الموزاييك البشري متعدد الانتماءات في منطقتنا، والذي إليه يعود الفضل في الكثير من أوجه الحيوية التي ميزت مجتمعاتنا العربية، فالتعدد والتنوع مبعث الديناميكية، والأحادية قرينة الجمود.
ولا يمكن النظر لاستهداف المسيحيين في العراق ومصر وحتى سوريا بعيداً عن هذا السياق، فالمطلوب إفراغ الشرق العربي من أحد أهم مكوناته، عبر حمل المسيحيين على الهجرة من بلدانهم، ويمكن لنا أن نفترض سيناريوهاً مفزعاً لا يقل خطورة، هو حملهم على المطالبة بكيانات خاصة بهم تضمن لهم الحماية.
فليست المصادفة وحدها التي جعلت من الجنوب السوداني الذي اختار الانفصال عن شماله ليكون كياناً مستقلاً، هو كيان مسيحي، ونقول ذلك لا للانسياق وراء غواية نظرية المؤامرة، وهو الأمر الأسهل هاهنا لمن يريد ألا يرى الأوجه المتعددة لهذه المسألة، وإنما للتوقف جدياً أمام مسؤولية الثقافة السياسية السائدة عربياً في التعاطي مع ملفات بهذه الخطورة.
لم يذهب جنوبيو السودان لخيار الانفصال، حباً في الانفصال، رغم معرفتنا بأن بعض قياداتهم يروق لها ذلك، ولكنهم ذهبوا إلى هذا الخيار تحت ضغط حروب فُرضت عليهم ممن يقررون الأمور في العاصمة السودانية، وتحت ضغط سياسة معلنة بتطبيق الشريعة الإسلامية في بلد لا يقطنه المسلمون وحدهم، دون التبصر في خطورة نهج كهذا لا يرضاه الإسلام نفسه.
وليس هذا ببعيد عن ثقافة تتغذى من خطب الجوامع وكتابات بعض من يصفون أنفسهم بالدعاة في التحريض على «النصارى» والدعاء عليهم بالهلاك وخراب بيوتهم، مستخفين بحقيقة أن هذا التحريض يشمل المسيحيين الموجودين بين ظهرانينا: في العراق وسوريا ومصر ولبنان والسودان وفلسطين وغيرها من بلاد العرب، مع ما ينطوي عليه ذلك من تجاهل حقيقة أن هؤلاء المسيحيين لا يقلون عروبة وانتماء لبلدانهم وتاريخها وثقافتها عن أكثر دعاة العروبة تعصباً، بل أنهمن على نحو ما ذكرناه أعلاه، كانوا لا يقلون، إن لم يزيدوا، حماساً للنهضة الفكرية والسياسية العربية وفي قيادة التيارات السياسية المناضلة من أجل الاستقلال الوطني والوحدة العربية.
مسؤولية كبرى تقع على أعناقنا جميعاً في التصدي لهذه الموجة الدموية المسعورة التي تستهدف أخوتنا المسيحيين العرب، لتفريغ بلداننا منهم، وإفقادها أحد أهم مكوناتها الحضارية والثقافية، وضرب الصورة التعددية لمجتمعاتنا، ومثل هذا التصدي لا يجب أن يقف عند حدود التدابير والاحترازات الأمنية، على أهميتها، وإنما يجب أن ينطلق، أساساً وقبل كل شيء، من مواجهة وفضح وعزل خطابات الكراهية والتحريض ضدهم التي تطلق من على المنابر وعبروسائل التعبئة المختلفة، والنضال في سبيل بناء الدولة المدنية وترسيخ القيم العلمانية التي تضمن حرية المعتقد والعبادة للجميع، من جهة، وتفصل الدين عن الدولة، كي تكون هذه الدولة لجميع مواطنيها بصرف النظر عن دينهم ومذهبهم وعرقهم.