بحر ساركاسو الواسع: أذنٌ تصغي للوعيد الأخضر
أمل السعيدية -
يكتب روي بورتر في كتابه تاريخ موجز للجنون عن الجنون الذي ظنه الناس - عند بداية البشرية - تلبسا شيطانيا أو إلهاما ربانيا.
وتقول جين ريس في روايتها: «بحر ساركاسو الواسع»: «الشيطان أمير العالم.لكن هذا العالم لا يدوم طويلا لإنسان فانٍ»، هذه الرواية يحركها هذا الجنون الشيطاني الذي يربو في ظل تنشئة وحشية لفتاة صغيرة تدعى انطوانيت.
الأمر الذي يبدو مبررا جدا عندما نعرف أن لديها استعدادا لتكون مجنونة، لأن أمها المرأة المارتتينيكية الفاتنة والتي ترقص دون الحاجة الى موسيقى وتصعد في رقصها كالومض سبقتها الى ذلك بعد أن فقدت طفلها الصغير في حريق تسبب به أهالي قرية كوليبري.
الأمر الذي يدعونا للتساؤل مرة أخرى جديدة: ما هو الجنون؟ متى نستطيع أن نطلق على أحدهم بأنه مجنون؟ هذا الذي يكمله روي بورتر في كتابه وهو السؤال ذاته الذي سيدفعك لمواصلة قراءة هذه الرواية من جملتها الافتتاحية: «يقولون عند المتاعب رصوا الصفوف، وهكذا فعل البيض.لكننا لم نكن في صفوفهم، فالنساء الجامايكيات لم يعترفن بأمي أبدا، ((إنها تشبه نفسها فقط)) كما قالت كريستوفين».تقع أحداث رواية «بحر ساركاسو الواسع» عقب نهاية العبودية وبيع الرق في المدينة الإسبانية جمايكا عام ١٨٣٦.
عندها ينتهي الحال بعائلة انطوانيت الى الفقر الشديد بعد أن كان أبوها وجدها من أهم تجار العبيد القادمين من إفريقيا.
تراقب انطوانيت أمها وهي تذوي كل يوم ، فهما وعلى الرغم من أنهما تعيشان في أحلى مناطق العالم، إلا أنهما لا تستمتعان بذلك على الإطلاق، أنطوانيت ترتدي ثيابا رثة، تمتلك ثوبين فقط، وتكره تقطيبة جبين أمها خصوصا تلك التي تراها على وجهها كلما حاولت هذه الأخيرة النظر الى البحر بجانب الخيزران، حيث يزعجها السود في تلك الأثناء، لقد وصل الأمر بهم الى قتل حصانها، فلم تعد تتجول، وفنت شبابها وجمالها الآسر في محاولة البقاء على قيد الحياة.
انعزلت انطوانيت في هذه الفترة وتجنبت الجميع وكان كل ما يهمها أن تبقى آمنة، وأن تؤكد لنفسها أن حشائش الموس التي تجرح ساقها ارحم من الناس.
كانت تخبئ بجانبها على الدوام عصا ذات مواصفات خاصة، حتى تتمكن من الدفاع عن نفسها إذ اقتضى الأمر.
تحب انطوانيت الأثاث الأليف وكوليبري الفاتنة وتحب أن تكون آمنة من الغرباء، وهي تغني باستمرار عن كل شيء كما هي عادة الناس في جمايكا، وتغني عن الوداع بكلمات قد تبدو مرحة لكنها حزينة على نحو كئيب ، ومن أغانيها الآسرة : أزهار شجرة الأرز التي لا تعمر أكثر من يوم واحد.
تتزوج الأم بعدها من ثري يدعى ميسون، إلا أنها تلح عليه بالذهاب الى مكان آخر دون هذه القرية، فالناس وبعد ان عرفوا بأمر المال الذي يملكونه اصبحوا يكنون لها المكائد أو هكذا كانت تحس.
الحقد مرافق لامتلاكهم المال، في السابق لم يكن لوجودها معنى قد يشكل شرورا الى هذا الحد بالنسبة للسود في كوليبري، لكنها اليوم كذلك.
يصر ميسون بدوره على ان سكان القرية ابسط من أن يفكروا بتدبير أي مشكلات حقيقية قد تهدد وجودهم هناك.
لكن ميسون كان مخطئا بطبيعة الحال كما سيتضح من خلال القسم الأول في الرواية.
جين ريس تكتب الحياة على نحو ساحر، تتشابك فيها العديد من الثيمات، إلا أن هذا التشابك غير متكلف على الإطلاق، بل إنه ببساطة جزء من عنف القصة وطابعها الأسطوري بالغ التأثير.
فهنالك العلاقة بالمكان والابتعاد الى ما وراء الحدود والتوق الى ما هو بعيد كما هو الحال عند التوق لإنجلترا.
وصف المدن بالأحلام.
كيف تكون المدينة حلما ؟
الصراع العرقي والعدالة، التربية العنيفة لطفلة كبرت في أوقات بائسة، وجنون الأم من ثم جنون أنطوانيت والحنين الدائم الى الطبيعة، والعلاقة بها ، وتدخلها في كل شيء بداية برائحة الأزهار التي تزعج زوج انطوانيت ونهاية بالغابات الكثيفة التي ستحاصر المصحة النفسية التي ستقضي فيها انطوانيت وقتا طويلا، لكنها بلا شك وبالنسبة لي على أقل تقدير رواية عن الحب.
اختيار الحبيب والرغبة الشديدة به، من ثم محاكمة هذا الحب على نحو قاسٍ كما حصل عند الزوج الذي بدأ يحس بأنه لا يحب انطوانيت على نحو تلقائي كما يكون الحب عادة بل انه مدفوع لهذا الحب بإرادة شخصية، أي أنه يحتاج ليبذل جهدا كي يكون مستعدا لكل ما سيفعله من أجل هذه العلاقة.
وها هي ذي تسأله بعد ان انهارت وشربت كثيرا من الخمر: هل تحبني؟ فيجيب: لا.
ليس في هذه اللحظة.
كريستوفين الشخصية الآسرة الأخرى في هذه القصة، المرأة السوداء التي ساعدت هذه العائلة في كثير من الأوقات، والتي تحمل سرا كبيرا إذا يترافق ذكرها مع ذكر السحر والأوبيا (الزومبي) والقدرات الهائلة لهذه العجوز على صنع ماهو خارق حتى أنها سجنت ذات مرة لذلك.
إن هذا السحر وهذه الخرافات سرعان ما تصبح جزءا أصيلا من نسيج القصة التي تدور في هذه الضيعة.
كانت انطواينت ورغم عزلتها وكراهيتها للناس الذين آذوا أمها منذ الصغر تندفع باتجاههم بنفس القوة التي تبتعد بها عنهم.
فهي عندما لا تبالي بضيوف أمها في البيت، تثق بتيا الفتاة التي سبحت معها ذات يوم في النهر، تنظر إليها قبل أن تغادر القرية بعد الحريق الذي تسبب في مقتل أخيها بنظرة ملؤها التفاؤل بأن هذه العلاقة هي المستقبل كله، وبأنها ستعيدها الى بيتها الآن آمنة كالعادة، إلا ان تيا توجه حجرا صوب رأس انطوانيت، هذا الذي سينزف دما في مقابل الدموع التي تبكيها تيا ، حتى ان انطوانيت ظنت في هذه اللحظة بأنها ترى نفسها في المرآة بلا شك.
هكذا يحدث الآن مع زوجها، على الرغم من خيانتها مع خادمتها إلا أنها تعود إليه راغبة فيه وتفقد السيطرة على نفسها.
إنها هشة وعنيفة في آن واحد. في بداية علاقتهما وفي يوم زواجهما تحديدا قررت أن تنسحب، خافت منه، لكنه طمأنها ووعدها أن يحميها وان يسعدها.
وها هو ذا يسلب منها آخر شيء تحبه، حبها لهذا المكان ،الذي ظنت انه ملاذها الأخير من كل شيء آخر.
لقد فقدته كما فقدت الأب والأم والأخ وخالتها وكوليبري.
إن هذه العوالم المختلفة والمتداخلة جميعها تقدم في عمل أشبه بالملحمة، عمل روائي من الطراز الرفيع أشبه بتحفة فنية مليئة بالألوان إلا أنها عن شيء اسود بالغ السواد، مليئة بالرقة إلا أنها قاسية على نحو مطلق.
إنها صامتة وصاخبة جدا في أعماقها «أستطيع أن اسمع الخيزران يرتعش ويصر رغم سكون الريح». هنالك في هذه الرواية أذنٌ تسمع الوعيد الأخضر للطبيعة وتهابه، وعين تراقب شجرة ياسمين حمراء يتهيب كبير، وجسد سيرتدي فستانا أحمر سيسقط مدويا كرمز على الموت في حلم فتاة يدّعون أنها مجنونة.
هذه المجنونة التي ستنتظر زوجها لكي يكون لها مصير آخر غير تركة أمها من الجنون لكنها ستحترق قبل أن يصل.
الرواية التي كتبت بلغة رفيعة، أعادت طباعتها دار أثر السعودية وهي بترجمة فلاح رحيم.
أوصي بها بشدة.