الشعر واللجوء
عادل محمود -
هناك أنواع عديدة من «اللجوء»
اللجوء السياسي، اللجوء المذهبي، اللجوء الإنساني، اللجوء الحربي، اللجوء الأيديولوجي، وثمة أيضًا اللجوء العاطفي. وهو، طبعاً آخر القائمة لندرته في العلن وانعدامه في القوانين الناظمة للجوءات.
عندما تعرفت على الشاعر العراقي مظفر النواب، كان يقيم لاجئاً (لا أدري ما اسمه) في ليبيا.
مظفر، منذ هروبه من السجن في الستينات وهو مطارد خارج بلاده، وقد عاش في دمشق، والقاهرة، واليمن، وليبيا.
كنت أسأل عن نوع اللقاء بين لاجئ كمظفر وقائد كمعمّر، بين الشيوعي والضابط، بين الشاعر والناثر... بمعنى تباين الخطابين. كان مظفر يعيش فقط في ليبيا، ولم يطلب إليه تقديم أية خدمات إعلامية أو شعرية، لقاء إقامته في بلد العناوين العريضة والتسميات المفخخة.
مظفر النواب كان الشاعر اللاجئ بسبب مواقفه السياسية وبسبب كونه شيوعيًا، والأهم، في الواقع، هو صوته الشعري المحرض، قائد التعبئة التحريضية، ليس على النظام العراقي وحده، وإنما على النظام العربي برمته.
حضرت لمظفر أمسية جماهيرية لأول مرة في مبنى اتحاد عمال سوريا، المبنى المشهور بتطرف القيادات العمالية، أيام البدايات الأولى لحكم البعث، والتي كانت على وشك تشكيل الكتائب العمالية المسلحة، كبديل ثوري للجيوش النظامية.
مظفر الشاعر المستضاف رسمياً كان يناسبه هذا المكان لتلاوة نيرانه، وجمرات تحريضه، وهجائياته للعواصم والأنظمة. وأتذكر أن ازدحام المكان كاد يؤدي إلى اختناق الناس في حر ذلك المساء في أحد أشهر
صيف السبعينات.
كان صراخ مظفر يصل إلى حائط مبكى اليهود، وكان هجاء مظفر يقتلع الحكام العرب من مناصبهم واحدًا تلو الآخر. وكان الجمهور يتعرق ويصدّق أن بوسع الحناجر أن تكون أقوى من الخناجر. ومن الصعب الاستماع إلى مثل هذه القصيدة دون أن تصبح فدائياً للدفاع عن القدس.
القدس...عروس عروبتكم؟
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟
ووقفتم تستمعون، وراء الباب، لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم، وصرختم فيها أن تسكتَ صونًا للعرض.
فما أشرفكم أولاد القحبة، هل تسكت مغتصبة؟
..................
أما اليوم...وها أنا أستعيد بعض لحظات الشعر في تلك الأيام، من الذاكرة، واسترجعها من اليوتيوب صوتًا وصورة وجمهورًا. على خلفية أن مظفر لم يعد بيننا، وأن صوته لن يكون إلا جزءًا من تاريخ علاقة الشعر بالقضايا الكبرى، المؤلمة بطبيعتها، وليس مكوّناً انفعالياً للأجيال اللاحقة. وبعض الأسباب هي الضعف الفني المقصود، لصالح المضمون المهم. والتحريض بدل العمق. وخلق توقعات وجدانية عند جمهور متعطش لتغيير أحوال الأمة وحياته فيها بتحررها.
مظفر النواب كان أنشودة على فم كل مناضلي العراق، خاصة، وأقطار التحريض الثوري عامة. والآن يدرك الشعر في غياب الشاعر، أن الرسائل وإن لم تصل... كان ضرورياً كتابتها.
مظفر في سهراتنا... كان يعذبنا بإحساسنا أن الحياة الناقصة هي الموت الناجز. فكنا نستعين عليه بتلاوة الشعر الغرامي.