الرحلة إلى المكتبة البريطانية للقاء الكنوز التاريخية
جوخة الحارثي -
استغرقت رحلتي من أدنبرة إلى لندن بالقطار حوالي أربع ساعات ونصف الساعة، ولكن وجهتي كانت جديرة بهذا الوقت كله، إذ أزور المكتبة البريطانية بهدف الاطلاع على مشروع الشراكة بينها وبين مكتبة قطر الوطنية، المشروع الضخم الهادف إلى إتاحة الآلاف من الوثائق الخاصة بالخليج العربي- المحفوظة في المكتبة البريطانية – على الإنترنت. داخل المبنى الأنيق للمكتبة استقبلني فريق ممثل للمشروع لتعريفي بشكل رسمي على جميع مراحل العمل، علا زعير، اختصاصية اللغة العربية ومحتوى الوثائق، (وطالبة دكتوراه في الوقت نفسه)، كانت على رأس الفريق الرائع في الجولة التي استغرقت أكثر من ساعتين، فمن أين تبدأ الحكاية؟
عند استقلال الهند، باكستان وبورما في سنتي ١٩٤٧ و١٩٤٨ على التوالي، كان مكتب الكومنولث يدير قسم السجلات الهندية (التي عُرِفت فيما بعد بسجلات مكتب الهند) ، ومن بعده وزارة الخارجية (بدايةً من ١٩٦٨)، وفي سنة ١٩٨٢، نُقلت مكتبة مكتب الهند وسجلاته إلى المكتبة البريطانية. بدأ تنفيذ اتفاق عمل المرحلة الأولى من الشراكة بين مكتبة قطر والمكتبة البريطانية في عام 2012، برقمنة مجموعة واسعة من المحتويات من مجموعات المكتبة البريطانية. وبإعلان هذا المشروع ستكون سجلات مكتب الهند التي تغطي الفترة 1763-1951، وتضم ملفات من سجلات المقيم السياسي في بوشهر وسجلات وكالة البحرين، متاحة لجميع الناس على موقع مكتبة قطر الرقمية. وإذا ما علمنا مدى دقة الإنجليز في مراسلاتهم الرسمية الخاصة بمستعمراتهم في ذلك الوقت، لأدركنا الكنز التاريخي الذي تنطوي عليه هذه الوثائق بالنسبة لنا في عُمان، وفي الخليج عامة. بالإضافة إلى سجلات مكتب الهند يتيح المشروع أيضا العديد من المخطوطات العربية العلمية لتكون في متناول يد الباحثين عبر الانترنت.
قادتنا ابتسامة علا زعير وحماستها إلى ألف باء المشروع، حين كان في بداياته إلى أماكن العمل اليوم خطوة خطوة، وشاركت رايلي لينبو من فريق العمل في إيضاح كيفية ترقيم الملفات، ثم دخلنا إلى مشغل الفحص والترميم، حيث يتم التأكد من سلامة الوثائق والمخطوطات، وقد اطلعنا فلافيو مارزو المختص بترميم الوثائق على ملف تم تجليده بشكل سيئ أخفى بعض محتوياته، مما اضطر فلافيو وفريقه لفتح الغلاف وإعادة تجليده بالشكل الصحيح، ولما تصفحت هذا المجلد وجدته مخطوطة عربية في علم الفلك. بعد عملية الترميم يتم ترقيم كل هذه الوثائق بدقة شديدة، قبل أن تنتقل للمرحلة اللاحقة.
هذا السيل من الرسائل (بين القنصل الإنجليزي في مسقط مثلا والمقيم السياسي في بوشهر، أو بينه وبين السلاطين، أو بينه وبين الأئمة أو ممثليهم...الخ)، والخرائط (التي توضح حدود نفوذ دول الخليج، أو أمراء بعينهم مثلا)، والاتفاقيات (مثل اتفاقية السيب الشهيرة سنة 1920 التي أدت إلى التقسيم الفعلي لإقليم الداخل تحت حكم الإمام وإقليم الساحل تحت حكم السلطان المدعوم من البريطانيين )، والمعاهدات (مثل معاهدة مسقط سنة 1891بتأجير بندر الجصة إلى الفرنسيين لإنشاء محطة تزويد بالفحم)، والصور (مثل صورة قنصلية ووكالة مسقط عام 1870)، والمخطوطات (مثل تلك التي عن علم الأبراج والنجوم)، والعرائض (مثل أسماء وبصمات الشهود في قضية جنائية)، والكتيبات (مثل كتيب بلاد الرافدين)، وقصاصات الجرائد (اطلعت على إحداها من جريدة عراقية بعنوان: أيها العرب أغيثوا إخوانكم في الخليج، موقعة باسم مستعار: فتى الخليج العربي)، كل هذا السيل يصب في وادي القراءة والوصف، يقرأ الفريق المختص بالكاتلوج هذه الملفات، سواء بالعربية أو بالإنجليزية، ثم يكتب توصيفا مختصرا لكل ملف.
قادتني علا ورايلي بعد ذلك إلى الغرفة المظلمة ألا وهي غرفة تصوير الوثائق والمخطوطات، حيث التقينا بلاري دونستن وفريقه الذي شرح لي كيفية عمل الكاميرات، فعن طريق هذه الأجهزة الدقيقة يتم تصوير كل هذه الوثائق بحرفية عالية، وبعد ذلك تذهب الملخصات التوصيفية إلى قسم الترجمة، فتترجم كلها إلى اللغة العربية، تمهيدا لرفعها على الانترنت ونشرها، وهكذا تكون المرحلة الأخيرة هي نشر الملف المصور كاملا، مع التوصيف الخاص به باللغتين العربية والإنجليزية في موقع مكتبة قطر الرقمية. حتى اليوم هناك أكثر من أربعة آلاف ملف تم رفعه في الموقع، والبقية تأتي.
انضم إلينا د. فرانسيس أوترام، وموضوع أطروحته للدكتوراه كان عن التاريخ الحديث لعُمان منذ 1920، حيث تفضل بشرح المزيد عن الوثائق، والمشروع ، وتم اطلاعي على مجموعة منتقاة من هذه الوثائق الثمينة، أغلبها خاص بعُمان، فمنها رسائل من الإمام سالم بن راشد الخروصي إلى الميجر نوكس، وقد خاطبه مرة بـ«نائب الدولة الإنكليزية»، ومرة بـ«قنصل الدولة البريطانية بمسقط»، كما اطلعت على الوثيقة الأصلية لمعاهدة السيب سنة 1920، بين حكومة السلطان تيمور بن فيصل ممثلة بالسيد محمد بن أحمد وإمامة الإمام محمد بن عبدالله الخليلي ممثلا بالشيخ عيسى بن صالح الحارثي ووساطة الإنجليز ممثلة بالمستر وينكيت قنصل الدولة البريطانية بمسقط.
انتهت جولتي الغنية بارتشاف كوب الشاي في مقهى المكتبة البريطانية، حاوية الكنوز. بالنسبة للعمانيين، ولجميع الخليجيين، ولأي باحث في تاريخ الخليج، هذا المشروع سيوفر كنوزا لا تقدر بثمن، ستغير في رأيي خارطة البحث العلمي التاريخي، إذ لم يعد الباحث مضطرا إلى السفر إلى لندن ليطلع على وثائق تخص الخليج من القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وإنما تأتي هذه الوثائق إليه حتى مكتبه أو بيته، فأي عذر لمن يتغاضى عنها؟ سواء كنت في بيتك في نزوى أو صلالة أو بدية، أو في مكتبك في مسقط أو البحرين أو القاهرة أو باريس أو برلين، تستطيع الوصول بكل سهولة إلى مجال اهتمامك سواء كان مدينة بعينها، أو شخصية ما، أو مرحلة تاريخية معينة، حتى الوثائق المكتوبة باللغة الإنجليزية ينشر معها توصيف خاص بها باللغة العربية، بحيث أن أي وثيقة يحتاجها المرء لأي سبب لا يمكن ألا يهتدي إليها.
موقع مكتبة قطر الرقمية:
http://www.qdl.qa
والموقع متاح بالعربية والإنجليزية.