أشواقي تتقدمني
صالح العامري -
1-
قبل موتي بقليل جداً، أومأتُ للمناشير أن تعمل دون هوادة في ساقيّ، وللطواحين أن تهرس حبوب عينيّ، وللمدافع الهستيرية أن تلتقط صراخي، وللفنارات أن تستل ابتساماتي التي كنتُ أوزعها على الأطفال والمجانين، وللعروش أن تستعير كآبتي الغليظة، وللمصابيح أن تحفظ رذاذ أناشيدي القديمة.
قبل موتي بقليل جدا، علقت ذكورتي في السقف، تميمة مازحة ترطن بالطلع والحب، ونزعت رأسي العاق من جسدي الحزين، واضعاً إيّاه على رف الضحك الخالد.
2-
أيتها الجبال: عندما سأغلق فمي تماماً، أيتها الأعاصير: عندما ستستسلم عينيَّ لحجر الأبدية، سأبدأ بالغناء في الوديان المغبرة، سأنزه قطعان دببتي ونموري في الغيوم، سأكتب قصيدة الرماد الذي يسخر من كل صحو ولغو، ومثل أيّ لص مصاب بالريبة والشحوب: سأنتهز الفرصة؛ لتعطيل محرك الشمس وسيورها الرهيبة. عندها تماماً سيسمع العالم برمته، وهو غارق في الذهول، آخر نخرة لدورتها الدموية، سيصغي البشر، السادرون في اللهفات والصلوات، إلى فحيح الأشباح وهي تصطبغ بوردة الشفق أو لعنة الفجر، وسيرون رأي العين ذلك اللون الأخرق المستقطر من تزاوج الكستناء بالعدم، الكهرمان بالديدان، اللوتسة المرفّهة بالزيت اللزج، الأحصنة الخشبية بالغيلان الأسطورية.
3-
لقد متّ الآن، ولن تتحرك شعرة واحدة في هذا العالم، ولن تأسى بُصيلة، ولن تتأثر نملة، ولن تسقط دمعة على رصيف الاكتراث. لقد متّ الآن، وقطارات «مسقط» تمضي دون هوادة، ومحطات المترو في «أمستردام» تحيّي المسافرين، والحشود في «العتبة» و«بكين» آيبة ذاهبة، والطائرات ذوات الطابقين تمخر الأجواء، والقهوة مُرة كعادتها في «حيّ تقسيم» و«مراكش» و«جزيرة الفيل»، والقطط التي بأعين لمّاعة تبرق في الظلام، والكلاب تعدو نابحة خلف تلك العربة التي يقتعد فيها امرأة وثلاثة أطفال في إحدى القارات التي فشلت فشلاً ذريعاً في استعادة أمجادها الهزلية، وصرارات الليل في إحدى القرى القديمة تمشط الحنين وتذرف الطرقات.
لقد متّ الآن، وأنا أحتشد بما يشبه الرضى الكونيّ والغبطة الطفيفة؛ لأنني لن ألحق الضرر بأقواس قزح الأبدية، ولن أدفع الجبل إلى أي أمام أو خلف، ولن أزحزح الأرصفة، ولن أحبس المطر، ولن أطفو جثة غريقة في أي بحر أو على أي فنار، ولن تنتأ لي طفولة بعد الآن في أيّ سُرّة أو شارع رمليّ.
كل شيء يمضي إلى الأمام الطليعيّ أو الوراء المرتعش، ما عدا قلبي الذي سيمكث قابعاً في ظل شجرة مستحيلة، ما عدا صوتي الذي سيكون مبقّعاً وساكناً كأيّ مشرد يحلم بالرحلة التي لا تُغتصب، ما عدا وجهي المشتبك والمتشابك مع الجهات والأعاصير والزوايا وكوابيس الليل وعقارب الزمن وموعدي الجبليّ مع الحبيبة.
4-
متّ هناك، في أعلى الجبل، ولم يكن لي في الأصل حياة سوى موعد أو موعدين في مصباح عينيها الواسعتين. متّ مثل أي فراشة تتقرى النور وتسعى إلى حتفها النزق، ولهذا لم يزد موتي على قرطين معلقين كرحيق أو حريق في أذنيها اللذيذتين، ولم يتعد موتي ذلك الغرقَ الناعمَ المصلوبَ بين ناهديها الطافرين بالسر واليتم والقداسة. ولم أكن أكترث بالفوق والتحت، والجنب والبعد والقرب؛ لأن موتي صار يتكاثر في كل الجهات بقدر ما كان وجهها يتحرك وينتصب ويومئ ويتدلى ويشير ويطلع من كل الجهات. وقد متّ حقيقة واستعارة، واقعاً وتخييلا، لكنّني كنتُ أنخلع من رقدتي المقدرة عليّ، وصرتُ أعجبُ كيف أنني كنتُ وما أزال أقف مثل شجرة خضراء باسقة في طريق الروائح المسكرة والطلع القديم والأريج الخافت المنبعث من طغيان حضورها الشهويّ، حتّى صرتُ لا أفرق بين حياتي وموتي، تاركاً خلفي حطام العالم الذي كنتُ أكرهه وأحقد عليه من قبل، ومقبلاً في طيش غريب جهة عالم مرهف محبوب يولد الآن في أصابعي وأطرافي، جهة عالم يخترقني بينابيعه وسهامه الرشيقة، عالم أتذوق صباباته وأقف مثل وعلٍ ثملٍ على ذراه.
5-
بعد أن هبطتُ من موعد الجبال: لم أعد أكترث بالإقامة أو المنفى، بحبيبتي التي تنتظر أو النائمة في قلب الغدران، بالصبر المتفتت المنسحق أو قفزة النمر البريّ لاصطياد العدم، لم أعد في الفوق أو التحت، لم أعد هنا أو هنالك؛ ذلك لأن أشواقي تتقدمني، وأمواج البحر تتلاطم مثل كبرياء محطم أو سماوات صاعدة، أشواقي التي تعدني بالسكرة الأصيلة المندلعة، بالرقصة التي تكنز قلبها بالبذور والأشجار، بالقُبلة الدموية التي لا حياة بعدها ولا موت، بالطرقات النزقة التي أكرع من دنانها شهوتي العارية العارمة الساهرة في خاصرة النجوم.
وكما لو أنني كنت أهذي كنتُ أقول:
لا فرق بين أن أولد لأكتب نصي، وبين أن أموت لأكتبه؛ لأنّ الزمن الذاهل يتصبب بالألحان المجنونة. لا فرق بين أسكن أرضاً أو أقبر فيها؛ لأنّ الحلم يترضض مثل أيّ صرخة مثابرة على عافيتها وعُقباها. لا فرق بين المطر الذي يهبط من غيمة أو المطر الذي يتنزل من صنبوري الترابيّ؛ لأنّ الولع جارف، الولع منتصر، الولع يضمر الحديقة، الولع لا يقف في طريقه غول، الولع لا يُستنفد، الولع لا يُحتال عليه بالامتصاص أو السد، الولع معشوقة لا علاقة لها البتة بالوصل والفصل، باللقاءات والفراقات، بالنهايات والحتوفات، بالثعالب أو ديكة الفجر.