منهج الطالبين.. القول مكان الباب
مطلع القرن الحادي عشر الهجري ظهر من مدينة الرستاق عالِمٌ وقائدٌ قُدِّر له أن يربي في بيته الإمام الأول للدولة اليعربية، ذلكم هو الفقيه خميس بن سعيد بن علي الشقصي الرستاقي. ويقترن ذكر الشقصي دائمًا بالإمام ناصر بن مرشد اليعربي (1034-1059هـ) فالإمام تلميذه وربيبه، والشقصي قاضي الإمام وأحد قادة جيشه وأركان دولته. ولئن كان مشروع الدولة الذي وحد البلاد العمانية وشرع في طرد المستعمر البرتغالي كان أبرز ما حققه العلامة الشقصي فإن مشروعه الآخر كان تأليف كتاب في علوم الشريعة بمنهج مختلف عما كان عليه أسلافه، وهو كتابه الذي سماه (منهج الطالبين وبلاغ الراغبين).
وتحتفظ خزائن المخطوطات العمانية اليوم بِنُسَخ خطية كثيرة لأجزاء الكتاب منها نسخة نادرة في خزانة خاصة في إحدى القرى التابعة لمدينة الرستاق خطها المؤلف بيده، ومنها نسخة بدار المخطوطات لجزء منه أعان في تصحيحها بالعرض والمقابلة الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، وجاء في آخرها: «عُرِض وقُوبِل على نسخته التي نُسِخ منها، والمعين على ذلك إمام المسلمين ناصر بن مرشد -أعزه الله ونصره- والأخ في الله محمد بن علي الوالي، والأخ في الله علي بن ناصر بن ربيع، رحمهم الله. وكان الفراغ من تصحيحه بمسجد المليفة من قرية الرستاق، وذلك في يوم الخميس تسع عشرة ليلة إن بقين من شهر الحج من شهور ثلاث سنين وأربعين سنة وألف سنة، وكتبه العبد الأقل مالك قرطاسه حمد بن عبدالله بن كامل بيده».
وقد حظي الكتاب بعناية الراحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد، فطُبِع على نفقته الخاصة في نشرة صدرت عن وزارة التراث القومي والثقافة، وكان صدور جزئه الأول سنة 1399هـ/1979م بتحقيق الشيخ سالم بن حمد الحارثي. ومن يتأمل في مقدمة (منهج الطالبين) يجد أن المؤلف يَبْسُط منهجه ويُعَرِّف به بطريقة تكاد تكون غير مألوفة لدى من سبقه من الفقهاء العمانيين إذ يقول: «...استعملت خاطري في تصنيف مختصر أجمع فيه معالم الشريعة، وأنظم فيه شتات الفقه، وأُبيّن أصله وفروعه، وأجعل مسائله مشروحة مجموعة، متجاورة متتابعة مشروعة، فجمعت فيه بغاية الإيجاز الذي لا يكون معه ملال، واختصار لا يزرى به إقلال ولا إخلال»، ثم قال: «وجعلته مُجَزَّءًا عشرين جزءًا، يحتوي على ضروب من علوم الشريعة، وفنون من العلم مجموعة، وجعلته معلمًا بالأقوال ومفصلًا بالفصول لمطالعة المسائل، تقريبًا عن الإطالة والملالة»، ثم سرد في المقدمة ذاتها موضوعات أجزاء الكتاب العشرين وكأنها فهرس شامل للكتاب.
ونرى أن المؤلف قد نص صراحة بأنه سعى في كتابه مسعى التجديد مُعترفًا بالفضل لمن سبقه: «ولا مزيد على ما صنفه السلف الماضون، ولا يدرك غايتهم المتأخرون، ولكن لا بد في كل زمان من تجديد ما طال به العهد، ودرس منه البعض، تنبيهًا للغافل، وتعليمًا للجاهل، وتقريبًا للمطالعة، وتخفيفًا لمن أراد جمع أصول الشريعة؛ لأن كتب أهل عُمان السالفة منها المختصرات التي هي دون الوصول إلى المراد، ومنها المطولات التي يشق جمعها على أهل الطلب والارتياد».
ومن طريف ما جاء به المؤلف في منهجه أن جعل في تبويبه «القول» مكان «الباب» وعلل ذلك بقوله: «لئلا يشتبه بغيره من الكتب، لأني وجدتُ كثيرًا من الكتب قد ذهب أولها وآخرها ولم تُعرَف أنها أي كتاب هي، ولا من أي تصنيف؛ فجعلت علامة لا يشبهها شيء من تصانيف أهل عُمان»، ولم يكن التجديد عند المؤلف في هيكل الكتاب فحسب، وإنما سعى جاهدًا إلى بسط مادته بطريقة غير التي سار عليها كثير ممن سبقوه، فهو ينقل عمن سبقه بالمعنى ولا يلتزم بالنقل الحرفي دائمًا، كما أنه يلخص المسائل ويعلق برأيه أو استحسانه أحيانًا.
من النصوص التي تستوقفنا في الكتاب أن المؤلف من قلائل من ألمعوا إلى أهمية العلوم على اختلافها، فقد نقل أن العلم أصناف كثيرة وضروب مختلفة، وأن كلها شريفة، ثم ذكر أن العلم الدنياوي «كذا» «ينقسم إلى قسمين: علم روحاني وعلم جسماني، فالعلم الروحاني مثل: علم النجوم والحساب والطب وما أشبه ذلك، والعلم الجسماني فهو علم الصناعات كالبنّاء والنجار والحداد والجزّار والصايغ وأمثالهم، ومثل: عمل البحر، وغير ذلك من الصناعات». ويضم الكتاب رسالة تربوية تعليمية فيما ينبغي أن يتعلمه الإنسان إذا صار بحد من يعقل، ومن بين ما جاء فيها مهارات الكتابة، والحساب، ومعرفة الأيام والشهور القمرية، وتعلم القرآن، والعبادات والاعتقاد، والنحو، وشعر العرب، وعلم الحلال والحرام، والطب، وتعبير الأحلام.
وقد خصص المؤلف قولًا في ذكر العلماء وأسمائهم وشيئًا من أخبارهم، لخّص فيه أهم أحداث التاريخ العماني، وحكى في آخره طرفًا من أحداث عصره. كما خصص قولًا في الأموال المنسوبة إلى أولاد نبهان من عُمان، ونقل فيه جملة من الأحكام منها وثيقة إقامة القاضي محمد بن سليمان بن أحمد بن مفرج لمحمد بن عمر بن أحمد بن مفرج وكيلا لمن ظلمهم السادة الملوك من آل نبهان سنة 887هـ، ووثائق أخرى في الموضوع.
ومع أن الكتاب موضوعه علوم الشريعة لكننا نرى فيه نصوصًا متعددة بين لغة وأدب وفلك وطب وتاريخ، ومن أمثلة النصوص الفلكية نص في معرفة حد الليل وحد اليوم وسقوط الشمس وغيبوبة الشفق وأسماء البروج، ومعرفة الفجر، ومعرفة زوال الشمس. وللمؤلف تعليقات على بعض المسائل لا تخلو من الشوارد مثل تعليقه على معنى المواسم من فصول السنة التي جاء ذكرها في مسألة عن محمد بن محبوب، وهنا شرح المؤلف معنى «القيظ»، و«أول القيظ»، و«آخر القيظ»، و«انقضاء القيظ»، و«الصيف»، و«أول الذرة»، و«آخر الذرة»، و«الربع»، و«الشتاء». ولا شك أن الكتاب بأجزائه العشرين موسوعة فقهية أرادها المؤلف تجديدًا لآثار السابقين بنهج جديد، ومع ذلك يجد المطالع فيها على شاكلة ما أوردناه هنا من نصوص في موضوعات أخرى، وهي جديرة بالتنقيب عنها والإفادة منها.