عهود ورسائل في كتاب فواكه العلوم
برزت كتب الجوابات عند فقهاء القرن الحادي عشر الهجري سيرًا على النهج الذي بدأه أسلافهم منذ آخر القرن التاسع، وكان من بينها كتاب (فواكه العلوم في طاعة الحي القيوم) للفقيه عبدالله بن محمد بن عامر الخراسيني النزوي (ق11هـ)، نسبة إلى محلة خراسين بالعقر من مدينة نزوى. وقد صدر الكتاب مطبوعًا عن مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي سنة 1416هـ/1995م بتحقيق د.محمد بن صالح ناصر، ومهنى بن عمر التيواجني.
والمتأمل في منهج المؤلف في تقسيم وترتيب مادة كتابه يرى أنه قسمه إلى ما سماه «منثورات» واشتمل على أربع وعشرين منثورة في أصول الدين والفقه، وقد صدّر كل منثورة بمقدمة مستقلة، وتشتمل كل منثورة على جملة فصول، وهو نهج مختلف عن السائد عند الفقهاء، يُذكِّرنا بطريقة مؤلف كتاب (منهج الطالبين) الذي حوَّل (الباب) إلى (القول) خروجًا عن المألوف.
لكن الذي يشد الانتباه أن كتاب (فواكه العلوم) مشحون بمسائل في فنون مختلفة، فنرى مثلا في إحدى المنثورات سؤالا موجهًا إلى الطبيب علي بن عامر العقري النزوي (ق11هـ) عن النطفة في الرحم وسبب خلقها وتركيب جوارحها وتدبير نفوسها، وقد ردّ الطبيب بشرح طويل ربط فيه بين مراحل النشأة الإنسانية وتدبير الكواكب، ثم أجاب عما قاله العلماء الأقدمون عن مراحل تكون الجنين، ثم فصول أخرى عن الروح ومراحل الحياة الإنسانية.
والذي نود التعرض له هنا ما جاء في المنثورة الرابعة من نقل لجملة من الرسائل التي سماها أهل عمان (السِّيَر) وجل ما نقله يرجع إلى القرن الحادي عشر الهجري أي الزمن الذي عاش فيه. وقد تعددت موضوعات تلك الرسائل، فمنها رسائل متبادلة بين أهل المغرب وعمان، ومنها رسالة وجهها أهل عمان إلى بلاد أخرى، ومنها مجموعة رسائل للأئمة اليعاربة إلى ولاتهم وعمالهم.
وقد تصدرت تلك الرسائل سيرة عن أهل نفوسة من بلاد المغرب قال مترجمها في أولها: «فإني وجدت هذه النكتة منسوخة بالبربرية في توحيد خالق البرية، فسألني من لا أرد قوله ولا أجهل فضله أن أنقله من لسان البربرية إلى لسان العربية ليبين فضلها ويسهل على القارئ حفظها»، ثم جاءت الرسائل المتبادلة بين بلاد ميزاب وعمان، تتصدرها «سيرة القاضي سليمان بن أبي القاسم النفوسي إلى المشايخ من أهل المشرق»، وقد وجهها إلى عدد من الفقهاء العمانيين مسلمًا عليهم، وذكر منهم محمد بن عمر النزوي، ومسعود بن هاشم البهلوي، وبعث سلامه إلى أهل عمان مسميًا بعض البلدان مثل الجو وضنك وبهلا ونزوى والرستاق وسمائل وإزكي، ثم نقل بعض أخبار بلاد ميزاب التي سماها: «الديار المصعبية، والمَحالّ الميزابية» وذكر طرفًا من الأحداث والاضطرابات في بلاده، وأثنى على أهل عمان وأورد في آخر سيرته رواية «الصخرة لأهل عمان»، ومعناها فيما يبدو مكان وقوف الحجاج العمانيين في عرفات.
ثم أورد المؤلف جواب أهل عمان إلى أهل المغرب صادرًا عن الفقيه محمد بن أحمد الخراسيني النزوي بأمر من الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، وقد جاء الرد بشيء من الإسهاب فيه تفصيل في الاعتقاد والسياسة الشرعية ثم دعوة لأهل المغرب أن يتحدوا وأن ينتظم سلكهم، وذكر في آخره طرفًا من مناقب الإمام والعلماء الذين من حوله، وذكر منهم أبا عبدالله محمد بن عمر بن أحمد بن مدّاد، ومسعود بن رمضان، ومحمد بن علي المنحي، ومسعود بن هاشم البهلوي، وخميس بن سعيد الرستاقي، وأحمد بن خلف وخلف بن محمد الإزكويين.
وعقب ذلك جاء جواب آخر موجه إلى أهل المغرب كتبه الفقيه العالم خميس بن سعيد الشقصي الرستاقي متضمنًا نصيحة من الإمام ناصر بن مرشد ومن معه إلى أهل المغرب أعرب فيه الإمام عن أسفه على الافتراق الحاصل بين أهل تلك الديار واختلافهم، ثم دعاهم إلى الألفة واتحاد الكلمة واجتماع الشمل.
وفي سياق التعريف بالمذهب والاعتقاد وجه الفقيه سعيد بن أحمد بن محمد الخراسيني رسالة إلى من سماهم المؤلف «مشايخ قومنا من أهل القبلة»، وهي نبذة مختصرة في التوحيد والاعتقاد، ومسألة التقليد، وفي آخرها سرد لأسماء العلماء العمانيين منذ القرن الأول الهجري حتى زمان المؤلف. كما وجه الخراسيني رسالة إلى أحد الإمامين ناصر بن مرشد أو خَلَفِه سلطان بن سيف بن مالك نقلها المؤلف بعد السيرة الأولى، وفيها شيء من النصيحة، ثم فصل في «ذكر فضائل الإمامين المكرمين ناصر بن مرشد بن مالك، وسلطان بن سيف بن مالك»، ونقل فيها شيئًا من الروايات مما يُعرَف بالكرامات عن الإمام ناصر بن مرشد.
ومن رسائل الإمام ناصر بن مرشد اليعربي إلى ولاته نقل المؤلف: عهد الإمام إلى الوالي أبي الحسن علي بن أحمد بن عثمان، جاء في أوله: «إني قد وليتك على قرية لوى من الباطنة وما حولها وما اشتمل عليها من بلدان الباطنة، وحتى، وديار الحدان، والجو، ...، ودما»، وعهد الإمام إلى الوالي صالح بن سعيد المعمري السعالي واليه على صور وإبرا، وعهده إلى الوالي سليمان بن راشد الكندي السمدي واليه على بلد الصير وما حولها. كما نقل كتاب الإمام ناصر بن مرشد إلى ابن عمه الإمام سلطان بن سيف حين نُصِب واليًا وأراد العذر، وقد خاطبه فيه بقوله:«إلى حضرة شيخنا الوالي الولد سلطان بن سيف بن مالك». ثم نقل المؤلف مقتطفات من جملة كتب وجهها الإمام إلى ولاته وعماله، متضمنة نصائح وتوجيهات ومواعظ وتنبيهات. وانتهت المنثورة بنقل شيء من عهود خَلَفه الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي إلى ولاته وعماله.
وغاية ما يمكن التعليق به في هذا المقام أن هذه الرسائل اشتملت على شيء من الأخبار التاريخية وفقه السياسة الشرعية، ويُحسب للمؤلف حفظها وجمع شتاتها، إذ غدا كتابه بعد ذلك مصدرًا لها، والأرجح أن ما نقله نور الدين السالمي في كتاب (تحفة الأعيان) إنما نقله عن هذا الكتاب، والشأن ذاته في القيمة التاريخية لسيرة الخراسيني التي جاء فيها سرد أسماء الكثير من الأعلام.