شرح الرائية.. أنموذج التواصل الحضاري بين عُمان وبلاد المغرب
في نص نادرٍ ضمته إحدى المخطوطات، سرد الفقيه العالم عبدالله بن عمر بن زياد الشقصي البهلوي قائمة الكتب التي في خزانته، وذكر منها جملة من كتب أهل المغرب التي يحتمل أن تكون بعض نُسَخها وفدت إلى عُمان في عهده أو قريبا منه، ومن تلك الكتب: كتاب «الموجز» لأبي عمار عبدالكافي (ق6هـ)، وكتاب «الطبقات» لأبي العباس الدرجيني (ت:نحو670هـ)، وكتاب «سير الأئمة الرستميين» لابن الصغير المالكي (ق3هـ)، و«كتاب الترتيب» لأبي يعقوب الوارجلاني (ت:570هـ)، ومن جملة ما جاء في قائمة ابن زياد ما نصه: « كتاب العدل والإنصاف في الأصول، تأليف أهل المغرب، وهو ثلاثة أجزاء، ومضاف إليه كتاب الأدلة والبيان من تأليفهم، ومضاف إليه كتاب الجهالات من تأليفهم، ومضاف إليه كتاب تفسير قصيدة الصلاة التي لأهل المغرب التي فسرتُها، فهذه كلها في مجلد واحد أحمر جديد، كل هذه بخطي».
تكشف لنا تلك القائمة عن وجه من التبادل المعرفي والتواصل الحضاري بين عُمان وبلاد المغرب، إذ إن ابن زياد أَولى كتب أهل المغرب جلّ عنايته وجعل لها مكانًا في خزانته، ثم ظهرت ثمار ذلك في اشتغالاته العلمية من جوابات وشرح وآثار أخرى. ويعنينا من تلك القائمة على وجه الخصوص قوله: «كتاب تفسير قصيدة الصلاة التي لأهل المغرب التي فسرتُها» وهو هنا يُخبِر بأن خزانته تضم النسخة الأصلية من هذا الكتاب الذي أَلَّفه، وهو شرح الرائية في الصلاة وأحكامها، والرائية هذه منظومة لأبي نوح فتح بن نوح الملوشائي من أهل القرن السابع الهجري من جبل نفوسة. وقد احتفى العمانيون بهذه المنظومة واستنسخوها وكانت من بين مطالعاتهم ومحفوظاتهم، لا سيما وأنها في العصر المتأخر طُبِعت ملحقة ملحقة بكتاب الدعائم لأحمد بن النضر، ولطالما سمعنا بعض الآباء يستشهدون بأبيات منها، وهي قوله:
أُحِبُّ فتى ماضي العزائم حازمًا ** لدنيا وأخرى عاملًا بالتشمُّرِ
وأما أخو النومات لا مرحبًا به ** ولا بالجثوم الراكد المتدثِّرِ
وقد نصَّتْ بعض مخطوطات شرح الرائية أن ابن زياد ألفها سنة 953هـ، وذكر هو في مقدمته أن التأليف كان استجابة لطلب الإمام بركات بن محمد، ووصفه بـ«الشيخ العالم العلامة الأجل، القدوة الفاضل المبجل، رفيع القدر والمحل، صاحب العقد والحل، ذو الأيادي الزكية، والنفس الأبية، والهمم العلوية، والمكارم الحاتمية، شيخ الجماعة وترجمان لسانها، وصاحب معروفها وإحسانها، الإمام العدل المؤيد، السامي الأفضل الممجد، الفقيه القدوة بركات بن محمد». ومعلوم تاريخا أن الإمام بركات بن محمد بن إسماعيل (942-965هـ) خلف أباه في الحكم، وتشير جملة من النصوص والآثار أن له اشتغالات علمية، منها تعليقه على رسالة عثمان بن أبي عبدالله الأصم (ت:631هـ) في الرد على كتاب الفردوس لشيرويه الديلمي (ت:509هـ)، وفي شاهد آخر نقل أحد النُّساخ في خاتمة نسخة من (القاموس المحيط) للفيروز آبادي منسوخة سنة 1089هـ بأن «الكتاب أصله قطعة واحدة، فجزأه الإمام بركات بن محمد بن إسماعيل بن عبدالله ثلاثة أجزاء»، وفي خاتمة إحدى المخطوطات جاءت الإشارة إلى: «الخزانة السلطانية الإمامية المباركة، خزانة الإمام العادل بركات بن محمد بن إسماعيل».
صدر الكتاب في نشرة حديثة عن مركز ذاكرة عُمان سنة 1439هـ/2018م بتحقيق د. صالح بن سعيد القنوبي، ونرى إذ نُقلِّبه أن الشارح قد اعتمد على مصادر كثيرة أجمَلَ وصفها في خاتمة كتابه إذ يقول: « لقد أودعت في تفسير هذه القصيدة من لغة العرب وأشعارها وأحاديثها وأمثالها وأخبارها فيما قد وجدته في تأليف العلماء وآثارها ومما حفظته من الأثر عن أهل العلم والبصر»، فنراه قد جمع بين اللغة والفقه، على نهج محمد بن وصاف النزوي (ق6هـ) شارح كتاب دعائم ابن النضر، وقد نقل عن جملة من أهل اللغة مثل الفرّاء وابن الأنباري والكسائي والزجّاج، وجاءت شواهده الشعرية عن جملة من الشعراء الجاهليين والإسلاميين مثل عمرو بن كلثوم وذي الرمة وأمية بن أبي الصلت والعجاج والفرزدق ومحمود الوراق، كما نقل شواهد من أشعار العمانيين مثل أحمد بن النضر وأبي بكر الستالي ومحمد بن مدّاد وأحمد بن مانع بن سليمان، ونقل عن أبي إسحاق الحضرمي. أما مصادره الفقهية فأغلبها من آثار العمانيين، لكنه نقل كذلك عن غيرهم في بعض المواضع.
ومما نقرأه في الشرح من نصوص مهمة تعريفه بابن النضر: «هو أحمد بن النضر السموألي العماني، صاحب الدعائم، الساكن قرية سمائل من قرى عمان، وقد نظم في الأديان والأحكام ألفي بيت وثمانمائة بيت وستة وعشرين بيتا، وفي الولاية والبراءة ثلاثمائة بيت وثمانية عشر بيتا، التي عني بشرحها وتفسيرها الشيخ العالم محمد بن وصاف النزوي العماني البزاز بسوق نزوى من بيضة عمان، وسماه بكتاب الحل والإصابة؛ لأنه حلل النظم إلى النثر وأصاب المعنى في ذلك»، ثم لم يُخفِ ابن زياد تساؤله عن سبب إغفال ابن النضر النظم في الصلاة في كتاب الدعائم إذ يقول: «وقد ترك الشيخ أبوبكر أحمد بن النضر النظم في الصلاة ولم يعبأ بها، لعله ظن أن الصلاة لا تحتاج إلى عبارة ولا دلالة ليمعن فيها النظم؛ لأنه ينشأ عليها الصغير، ويدرسها الكبير، ولعله ظن أن ليس أحد يجهل منها شيئا، فالله أعلم».
والشرح إلى جانب ذلك مكنز لغوي وجامع فقهي، جمع فيه الشارح أشتاتا من المسائل والمباحث، وأبان عن آرائه في مواضع عديدة، وله في اللغة تعليقات في ثنايا الشرح من بينها مثلا نظمه للحروف المعجمات المتزاوجة في الصورة التي تكون النقط فوقها، وتعريفه بكثير من المفردات بالنقل النصي تارة وبالمعنى تارة أخرى.