رواية «أنت منذ اليوم».. العربي المهزوم كما صوره تيسير سبول
«ساءت الأمور منذ زمان.
وما يدريني، فعلّها لم تكن حسنة في يوم».
كانت رواية «أنت منذ اليوم» هي آخر ما أصدره تيسير سبول الروائي والشاعر والإعلامي الأردني قبيل انتحاره بطلقة، احتجاجًا على الوضع العربي وبداية السلام مع الكيان الصهيوني المحتل عقب نكبة حزيران، تلك الطلقة التي فصلته عن كل انكساراته وجراحاته التي تجسدت في شخصية «عربي» بطل الرواية، عربي الذي يشبه سبول في حزنه وسوداويته وعقله المشغول بالوطن والقومية والسياسة، والقضية الفلسطينية وحال الأمة العربية على وجه الخصوص.
لذلك كانت هذه الرواية القصيرة «النوفيلا»، وهي الرواية الوحيدة لسبول، سيرة ذاتية وسيرة للأمّة العربية في تلك الفترة. ومن هنا نستشف رمزية اسم البطل «عربي» الذي أراد منه سبول أن يختزل حال الفرد العربي الذي تكالبت عليه صروف المهانات إزاء الانحطاط العربي في شتّى الجوانب الداخلية منها والخارجية.
وأخال أن سبول يريد أن يقول لنا أن العربي مهزوم، والهزيمة تلفّه وتطوّقه من كل حدب وصوب، منذ التتار حتى بعد نكبة 67، ولا يمنع أن أقول إلى وقتنا الحاضر. هذه الهزيمة التي تلاحق عربي حتى في منامه وكوابيسه، تلاحقه من أبيه المتسلط، الأحزاب، الأصدقاء، المجتمع، الحكومة، الجنرال، الإعلام والدكتاتور.
لذلك حياة «عربي» اليومية تعج بالهزيمة، فحين ننظر لبعض تفاصيلها، التي تصرخ بالواقع المنحط، كالأبوية والذكورية القاسية في مجتمعه، وعلاقته الغريبة بالصَّبِيّة عائشة، وممارسات عائلتها الفقيرة حتى من الضمير الإنساني، يجعلنا نستحضر مقدمة ابن خلدون:
«الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، وكلما طال تهميش إنسانها يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى اللقمة والغريزة». في حين نستطيع أن نستجلي ونحن نقرأ أحداث الرواية تجسيدًا لنظرية ميشيل فوكو إزاء السلطة، فنرى الرواية تتناول السلطة والسياسة من أسفل المجتمع، وليس من أعلاه، كالعلاقات الاجتماعية والممارسات اليومية لعربي التي تجلّت في المدرسة، معقل الحزب، الجامعة، مركز الشرطة، المقهى، البار وغيرها من المواقع والمؤسسات الصغيرة التي تمارس فيها السلطة، تلك السلطة التي تضاهي تأثير السلطة التقليدية العليا، كما عبّر عنها فوكو.
ولأن سبول كان إعلاميًا، فكثيرًا ما تتردد في الرواية مصطلحات مثل (إذاعة، راديو، مذيع) ومن هذا الجانب ركّز سبول على الاستخدامات السلبية للإعلام في الإطار السياسي كالدعاية والتضليل والتعتيم والتخدير الشعبي وبث الإشاعات.
وفي أشد أحداث الرواية وجعًا، حزن هستيري انفجر بغتة، لعربي الذي وصف نفسه بأنه لا يبكي، مجسدا حالة اليأس الكبيرة للفرد العربي المهزوم والمقيد من كل جانب:
«دفن نفسه في الفراش وبدأ ينتحب. سمع صوته المتقطع الأكثر جراحًا من أية قطة، فهاله الأمر، واجتاحته عاصفة فعلا نحيبه. قبض فراشه وهو خائف من أن لا شيء هناك يُقبض.. فقبض أشد وبكى أكثر. وزالت من ذهنه كل صورة إلا وجوده هناك في فراشه. وكان الوقت ليلا، وكان قد جمع جسده كل مذلات تاريخه فانتحب أكثر وسمع نفسه فازداد انتحابًا».
وفي سياق مشابه يقول:
«طاف رجل معظم بلاد العالم ورأى كثيرًا من الكوارث إلا أنه لم ير شعبا بأكمله يغرق في الحزن مثل شعبي».
هو الحزن العميق على الوطن، حزن البطل عربي، وحزن الكاتب «تيسير سبول» الذي كلّفه كل هذا الألم أن ينتحر برصاصة قتلت جسده ومعاناته، لكنها لم تقتل روح مبدع كبير، حفر اسمه في صدر التاريخ، وسيخلد أبدًا في قلوب قرائه.