خلف بن سنان .. شاعر البديع ونديم الكتب
قاضٍ ووالٍ وعالم وفقيه وأديب وشاعر، من بلدة المعمور، من علماء القرن الحادي عشر الهجري وأوائل الثاني عشر، عاصر الأئمة ناصر بن مرشد وسلطان وبلعرب بن سلطان وسيف بن سلطان وسلطان بن سيف الثاني، وله فيهم مدائح، وكان كثير الاطلاع والقراءة، وقد ملك مكتبة ضخمة، يقول عن ولعه بالكتب والقراءة:
لنا كتبٌ في كلّ فنّ كأنّها
جنان بها من كلّ ما تشتهي النفسُ
جرى حبّها مني ومن كل عالم
ذكي الحجا والفهم حيث جرى النفس
فلا أبتغي ما عشتُ خلا مؤانسا
سواها فنعم الخلّ لي هي والأنس
ولست أرجّي أن أفوز بمثلها
على غابر الأيام جنٌ ولا أنس
ثلاث مئين ثم سبعون عدها
وتسعة آلاف لها ثمنٌ بخس
ولا عيب فيها، غير أن زمانها
لقلة من يعنى بها، زمن نحس
هي الشمس والكتب الكريمة أنجم
وكيف تكون الزهر إن طلع الشمس
بها ذلّ لي صعب العلوم وأذعنت
جوامحه وهي الممانعة الشمس
فكم مشكلات مبهات عويصة
تجلى إليها نورها فانجلى اللبس
هي الكنز لا الإنفاق منها بناقصٍ
هي الفخر لا العيش واللبس
وهيهات بعدي أن تباع وتشترى
كما يشترى من ربه العير والعنسُ
ولكنها وقفٌ على كل مسلمٍ
فلا غافر فيها يخص ولا عبس
ويتبين من النص أنها تحوي (9370) مخطوطة، وعيبها أن زمانها زمن نحس لقلة من يعنى بها. على حدّ قوله. فقد ذهبت أثرا بعد عين لولا هذه الأبيات التي خلدها الشيخ، والتي يوضّح أنه أوقفها للعامة، والشيخ مولع بالكتب ومن ذلك قوله:
كم من كتابٍ محكمٍ لو به
عوضتُ بالإبريز لم أرضه
قد أكلته وأنا غافلٌ
عنه كفاها ذو العلا أرضه
ويقول:
بلادٌ ما بها كتبُ
فلستُ أعدها بلدا
حليف الغبن من فيها
لقلة حظه بلدا
ومن النص نتبين أن كتبه متنوعة كالجنان، يحبها كل عاقل كنفسه، وهي المؤنس والجليس، ولا يعادلها شيء أبدا، ولا عيب فيها ولكن العيب في زمانها (لا يحب أهل زمانها الكتب)، وهي بين الكتب كالشمس بين النجوم (أكثرها قيمة وضياء)،وبها تعرّف على العلوم، وبها حلّ المشكلات، والإنفاق منها لا ينقصها، ولن تباع بعده وتشترى لأنه أوقفها لوجه الله لعامة الناس. ويلمس المتلقي قوة العبارة وإحكام اللغة، والنص من أجمل نصوص الشيخ؛ لأنه لم يتكلف فيها كما في أغلب نصوصه، وكانت لغة الشاعر واضحة. وقارن بين شعره السابق وشعره المولع بالمحسنات البديعية، ومن ذلك ما قاله في الإمام ناصر بن مرشد:
هيهات يذهب ملك ملك عادلٍ
كان الإله له معينا ناصرا
يكفيك في هذا دليلا مرشدا
نصر الإله سليل مرشد ناصرا
يقول الحجري: «وقد لاحظ دارسو شعره ولعه وحبه للمحسنات البديعية خاصة الجناس فقد تحدث الخصيبي بروح الإكبار عن هذا الأمر فاختار مجموعة من المقاطع الجناسية ليمثل لشعره، وأشار إلى ذلك البطاشي في «إيقاظ الوسنان»، ولاحظ أنه «مولع بالجناس كثيرا لا تكاد تخلو منه قصيدة أو مقطوعة»، كما أكد فهد السعدي ذلك أيضا في ترجمته له، وذكر أن دراسة مستقلة ألفت حول المحسنات البديعية في شعره، وحقيقة الأمر أن المتأمل في الإنتاج يجد أن الصنعة والولع بالمحسنات البديعية هي قوام تكوينه الأدبي، ومحور مهم في إنتاجه الشعري والنثري، وهي تبرز في شعره بذات القدر الذي تظهر به في نثره، بدلیل رغبته في تقليد مقامة الحريري، وكما تشهد على ذلك أيضا مراسلاته التي أثبتها البطاشي في «إيقاظ الوسنان» سواء منها ما كتبه على لسانه أو ما كتبه بأمر الأئمة اليعاربة فكلها تؤكد شغفا شديدا بالبديع والتصنع، فمنها مثلا مقطع من النثر لا تخلو الكلمة فيه من حرف الراء، ومقطع آخر لا تخلو فيه الكلمة من ميم، ومنها قوله: «... سلامة موﻻنا سلم السلامة، ودوامه مادة الكرامة، وعلمه إمام الأعمال، وكرمه متجر اﻵمال، وحلمه مغرس الأحلام، وعلمه معلم اﻷعلام، وإقدامه مخجل الضرغام، مهيب محاله، عظيمٌ مجاله، عديمٌ مثاله، مليحٌ مقاله محمودةٌ ممالكه، موموقةٌ مسالكه، أديم ملكه ما همى غمام، وهام مستهام، وهم مهمام، ومجد همام» فنلاحظ أنه كما أنه يلتزم بالسجع والفاصلة التزاما صارما ودقيقا، ويبدو أن مقدرته الأدبية على الكتابة بأسلوب معاصريه قد أهلته لأن يكون كاتبا لدى الأئمة اليعاربة.
وتأمل مقامته المعتمرية نسبة إلى قرية المعتمر، يقول فيها روى الحارث بن منهال قال: ملت في ريعان الشباب، وعنفوان العمر المستطاب، إلى ملازمة الغربة والأسفار، وجوب الفيافي والقفار،...لا يثنيني تكاثف الغمام، ولا تراكم حنادس الظلام، عن إقدام الأقدام، في نيل المرام،...، فاتفق حين ولجت مدينة المعتمر، وحللت بساحة أميرها،... إذ قدم عليه شيخ معوّج المطا، مقصور الخطا، يقتاده شويدن بالي الأطمار، رائق في الأبصار،..ثم جثا على ركبتيه، وفتق رتق شفتيه، وأنشد شعرا:
أيها الحاكم الذي
طاب فرعا ومحتدا
وأخا النائل الذي
يخجل البحر مزبدا
إرث لي من حوادثٍ
خطبها جار واعتدى
واسقني صوب راحة
تفضح السحب إن بدا
وأس لي شادني الذي
راح في الذل واغتدى
واكسنا الآن ما به
يكتسى الحمد سرمدا
عل تضحى بنا غدا
ذا نعيمٍ مخلّدا
فلما سمع الأمير الأبيات، وأتقنها بحسن الإنصات، قطب وجهه وعبس، وتكثف بصدره الحزن واعلنكس،...فلما استبان الشيخ فلول حسامه، وتبين سر طويته بظاهر نظره وكلامه، قال له: يا عسقل الفيافي، ومخيّب ظن الآمل والعافي، ما هذه السجية التي يأباها الكرام، ويستوجب بها اللوم والملام،..فلما غاله فورة سم كلماته، ولفح شغاف فؤاده سموم نفحاته، قال: إن هذا لهو البلاء اللزام، والداء العقام، ثم أبرز له درهما من كمه، وناوله إياه بعد لثمه وضمه، وقال: خذه لا قرت لك به عين، ولا منيت بمثله حتى حلول الحين، فقال له: هات يا خليفة باقل، فلا سمتْ لك في المجد أبراج ومعاقل، والشويدن عند ذلك يرمقه بعين تكاد ترمي بالشرر، وتنتظر من عارض جهامه وابل الدرر، فلما آيس من صلاته، وخاب ما أمله من رشح صفاته،...قال له:...فأين حظ الشويدن من رفدك، ومكافأة توخيه لقصدك، فاضطرب اضطراب حوتة نبذها اليم، وحثا على وجهه من ثم وثم،..وقال بلسان قد غص حلقومها بشجى الاستعبار، ولفح محياها لفح الغبار: أقسم بمن تكفل بأرزاق عباده دون الأمرا، وجعل التبذير شيئا منكرا، إن هذه لإحدى الكبر، وأم الغير،..ثم قال له: دونك وهذين الفلسين، وأنا أستغفر الله من التبذير بعد ذين،...ثم إنهما انطلقا على حالتهما المعدمة، مصرين على فعلتهما المذممة.... إلى آخر المقامة، حيث نرى عناصر المقامة مكتملة من الحديث المسند (روى الحارث بن منهال) ووجود راوية (الحارث بن منهال) ووجود بطل واحد (أبو زيد) ووجود حيلة (التعلل بتغير الزمان وإظهار الفقر، أو الشكوى من الزمان) كما نرى الملامح الأسلوبية من حيث أسلوب السجع واضح والتحدث بضمير المتكلم والمزاوجة الشعر والنثر كما نرى في المقامة ووجود السفر الترحال والحوار السريع.
تقلد الغافري مهام القضاة بمدينة نزوى، وكتب الشعر الفصيح في جميع المجالات في النصح والحكمة والرثاء والفخر والمدح. وقد قام الشيخ سيف بن حمود بن حامد البطاشي بجهد مشكور مبارك حين جمع بعض قصائد الغافري في ديوان (إيقاظ الوسنان في الشعر وترجمة الشيخ خلف بن سنان). وأختم بنص للغافري ذكر فيه فتوحات الإمام سلطان ومنها:
ثم أورى لمسقط سقط عزم
أسقط الظالمين منه ضرام
وهي دار يكاد يذهل منها
هيبة حين تذكر الأحلام
لم يكن دافعا لما أبرم البر
عليها مدافع وبرام
لا ولما ينهنه القدر الكا
ئن عنها الكيتان والآطام
أبهم العقل عنهم فأتاهم
عنوة ما اصفرت به الأبهام
همهمت فيهم رعود حتوف
من همام في ملكه مهمام
ليس يشفي من حرقة الديو إن
أحرقن منا بالأسراق خيام
وسباهم ألفى أسير كان قد
مازج الدمع منهم العلام
واقتنى منهم كنوزا غدا يبـ
هر منها قارون بل بهرام
وبممباسة أذاقهم بأسا
بئسا سيئت به الأصنام
وعزا كلوة بكل كمى
لم يثنِ منه الغرار انثلام
ولدى زنجبار زمجر فيهم
رعد زجر لم ينج منه اعتصام
وبممبي نابهم منه ناب
لم ينبه عن المضي انهتام
وكذا في مخا قد امتخ منهم
أعظما قبل ضيمه لا تضام
ولدى باب مندب كم دم طل
ل ومال آماله الصمصام
د. سالم البوسعيدي شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارًا