الإرث الوقفي.. زاوية مُتْحَفيَّة، وفهرسة وثائقية
سلطنة عمان بلد غني بإرثه الحضاري المتنوع بين إرث مادي ثابت مثل المباني، ومنشآت الري كالأفلاج وشبكات سواقيها، وإرث مادي منقول كالأدوات، والنقود، والمخطوطات وغيرها، وإرث غير مادي منقول عبر الأجيال متمثل في معرفةٍ منقولةٍ شفهيا أو فنون وأمثال شعبية أو ممارسات متنوعة، وقد سعت سلطنة عمان للعناية بذلك الإرث حفظا، وترميما، وإحياء، وتعريفا به على المستوى المحلي والدولي، عبر المتاحف، والمعارض، والبرامج المتنوعة، وصولا إلى إدراجه في قوائم التراث العالمي، إضافة إلى توظيفه اقتصاديا التوظيف المناسب كجزء مهم ورئيسي فيما بات يعرف اليوم بالاقتصاد البنفسجي.
يُعَدُّ قطاع المتاحف أحد القطاعات الاقتصادية/الثقافية الواعدة في سلطنة عمان، إذ تشير بيانات متحف عمان عبر الزمان إلى أحد عشر ألفا وثمانمائة زائر في أول أيام إجازة العيد الوطني الثالث والخمسين المجيد في شهر نوفمبر الماضي*، وهو رقم مهم له دلالته المؤكِّدة على أهمية هذا القطاع في الجذب السياحي، ومؤشر لقدرة التراث الحضاري العماني على الدخول بقوة في الاقتصاد البنفسجي إذا ما أحسن توظيفه بطرائق العرض المناسبة، وفي البيئة الملائمة له، فالداخل إلى أركان المتاحف العمانية يمكنه أن يشاهد جمال التراث العماني من مختلف البيئات الداخلية والساحلية، وبيئة المدينة، والجبل، والبادية، ونتاجاتها المتنوعة الثقافية والحرفية، كما يشاهد مخططات ومجسمات ومشاهد لمنشآتها المبنية فوق الأرض، أو المحفورة تحتها، وهي أعمال جليلة، وأفكار عرض أكثر من رائعة أثبتت نجاحها، والأفكار الإبداعية- كما نأمل- مستمرة ولا تتوقف عند حد، لاسيما مع الطيف الواسع من الإرث الحضاري العماني.
من جوانب الإرث الحضاري العماني التي ينبغي مراعاتها عند التطوير في القطاع المتحفي، الإرث الوقفي، سواء أكان ذلك في التجديد والإضافة في أركان المتاحف، أم من خلال إنشاء متاحف جديدة؛ فالوقف في عمان يمثل تاريخا عريقا، وإرثا حضاريا كان له إسهاماته الفاعلة، وله جوانبه المادية وغير المادية التي يمكن أن تكون جزءا من العرض المتحفي كقطع متحفية تراثية، أو رسوما توضيحية ومخططات، أو صورا، أو مقاطع مرئية، وفق ما يراه المختصون في هذا المجال.
تمثل بعض الوثائق الوقفية نمطا عمانيا فريدا، قد لا يوجد له مثيل في غير عمان، وهي ما يعرف بـ (نسخ الوقف) التي توجد بيد وكلاء الأوقاف في عدد من المدن العمانية، وهي وثائق نفيسة جدا في مجالها، يعود عمر بعضها إلى أكثر ثلاثمائة سنة، وهي عبارة عن مخطوطات تمثل دفاتر أو سجلات تحصر فيها الأصول الموقوفة لمسجد أو حارة أو فلج أو غيره، وتسجل فيها كل ما يستجد من أعمال إضافة أو بيع أو تبادل لتلك الأموال، فلذلك يعد وجودها في المتاحف إضافة مهمة في القطاع المتحفي. إضافة إلى ذلك تُعد بعض الأوقاف العمانية أحد أقدم عناصر التراث الثقافي العماني التي يزيد عمرها عن ألف ومائتي سنة وهي تجمع بين التراث المادي وغير المادي، إذ تتضمن إلى جانب وثائقها وأصولها، ممارسات خاصة بها نصَّ عليها الواقف في وصيته، ولا تزال تمارس إلى يومنا هذا، فهي موضوعات يسهل تحويلها إلى مقاطع مرئية مناسبة للعرض المتحفي.
تعد الأفكار التي يبدع الشباب العماني في ابتكارها بالحارات القديمة في عدد الولايات العمانية، وتحويلها إلى فرص اقتصادية ومشروعات نامية قائمة على التراث العماني، تعدُّ نموذجا مهما يمكن أن يُبنى عليه في تأسيس متحف مصغر للأوقاف العمانية، فالأسوار التي أصبحت مزارات مهمة، ومدارس القرآن الكريم القديمة، وبيوت الكتب، ومناديس الكتب، وبعض الكتب والمخطوطات الموقوفة، والأدوات الموقوفة الأخرى كمرافع المصاحف وأسرجة المساجد، كلها مفردات تراثية يمكن أن تجمع في متحف وقفي يمول نفسه بنفسه.
إن الحفاظ على الإرث الوقفي العماني، لا يقتصر على التعريف به من خلال أفكار العرض المتحفي -على أهمية ذلك-، بل يستدعي أيضا حصر الوثائق الوقفية العمانية، ومعالجتها، وفهرستها وأرشفتها بطريقة علمية، والاحتفاظ بنسخ إلكترونية منها، وإتاحتها للدارسين، إلى جانب وضع مسرد للمصطلحات والمفردات الوقفية العمانية لتكون رصيدا يضاف إلى أرصدة مفردات الحضارة العمانية.
* الرقم من حساب متحف عمان عبر الزمان على منصة أكس(X)، نُشر بتاريخ 22/11/2023م
د. خالد بن محمد الرحبي/ باحث في التاريخ الحضاري العُماني عموما، والوقف على وجه الخصوص