ابن دريد
ولد في البصرة عام 223هـ/837م، في عائلة تشتغل بالتجارة المتنقلة بين عُمان وجنوب العراق ثم رحل إلى وطنه عُمان سنة 257هـ، وقضى فيها اثني عشر عاما مؤثرا ومتأثرا، قال الإمام ابن دريد: « كنت بعُمان مع الصلت بن مالك الشاري وكانت الشراة تدعوه أمير المؤمنين، وكانت السنة كثيرة الأمطار ودامت على الناس فكادت المنازل تتهدم، فاجتمع الناس وصاروا إلى الصلت وسألوه أن يدعو لهم، فأجّل بهم أن يركب من الغد إلى الصحراء، ويدعو فقال لي (صاحبي) بكرة لتخرج معي في غد فبت مفكرا كيف يدعو، فلما أصبحت خرجت معه فصلى بهم وخطب فقال: «اللهم إنك أنعمت فأوفيت، وسقيت فأرويت، فعلى القيعان ومنابت الشجر، وحيث النفع لا الضرر» فاستحسنت ذلك منه. بل عاش الفتنة التي وقعت بعد اعتزال الإمام الصلت وعاصر وقعة الروضة، وفي هذه الوقعة يقول يعير قبائل قومه من ولد مالك بن فهم ويحرضهم على أخذ الثأر بمن قتل منهم في الروضة من تنوف. يقول:
نبه نابه وخطبٌ جليلُ
بل رزيا لهن عبءٌ ثقيلُ
ثم عاد إلى البصرة، ومنها ارتحل إلى فارس سنة 295هـ بدعوة من ابن ميكال ليكون معلما لولده، وقد اعتنى في هذه المرحلة بتأديب أبي العباس الميكالي ابن الشاه وتفقيهه في اللغة، حيث أملى عليه الجمهرة، ونظم فيه وفي والده المقصورة (مقصورة ابن دريد الشهيرة)، ويمثّل أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي العُماني البصري ظاهرة ثقافية فريدة كونتها معرفة علمية وأدبية فاعلة، ومؤثرة في حركة الزمان والمكان؛ تميزت بجغرافية الانتماء والعطاء. وكان يقال عنه: «ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء»، لفرادته بين العلماء بالشاعرية وتميزه بين الشعراء بالعلمية... فقد اختار ابن دريد لتصريف علميته اللغوية في أسلوبية شعره، وتصريف شعره في قدرته اللغوية. وتمكنه لسعة دائرته العلمية والتعليمية من أن يوجد آصرة إبداعية بين -معجمه اللغوي- وإلهامه الشعري؛ فطّوع المعجم إلى صوغ فني تتماهى فيه حرفيّة اللغوي وفنيّة الشعر، ومن المحدثين وصفه عبد السلام هارون بالقول: كان عالما وطبيعة العلم في معظم الأمر تعارض طبيعة الشعر... لذلك كان من النادر أن يجتمع العلم والشعر في صدر واحد، لكن الأقدمين شهدوا لابن دريد بالشعر وحفظ التاريخ لنا أقوالا كثيرة من العلماء في ذلك. لذلك توزع اختيار ابن دريد اللغوي بين التعليم الذي اقتضى الحكمة وأغراض الشعر الأخرى التي قيدت إبداعه أحيانا كالمديح، حيث يقتضي توخي الفهم والإفهام ومراعاة مقتضى الحال في استقبال النص واستجابة المتلقي. وأول خاصية لابن دريد الشعرية هي (اختيار المركب الصعب) في بناء القصيدة، وتلك خاصية كان الشاعر ابن دريد يستعين عليها بالعالم ابن دريد فيمدّه بمخزون ثقافي ثرّي وحصيلة لغوية كبيرة مكنته من مركب القوافي الصعبة مثل قافية الثاء، والصاد، والضاد، والطاء، والظاء، كقوله على قافية الثاء:
أماطت لثاما عن أقاح الدمائث
بمثل أساريع الحقوف العثاعث
ولاثت تثني مرطها دعص رملة
سقاها مجاج الطل عب الدثائث
فإن لا تكن بتت نياط فؤاده
فقد غادرته في مخاليب حنابث
وتتوالى قوافيه على هذا المنوال بغرابة لا يجلّيها للفهم إلا معاجم اللغة وأهلها:
وهل يحفل البحر اللُّغام إذا غمى
فطاح على تيارها المتلاطث
والمتلاطث لا يعرفها إلا ابن دريد وأهل اللغة وتعني: المتلاطم.. واللغام: الزبد.. وغمى: غمر.
وحسبك بعد هذا قوله: متماكث/ عثائث/ الدلائث/ المغائث/ الطرائث... وهكذا يجري سيل الثاء في قصيدة من اثنين وتسعين بيتا لم يُبق في -جمهرة اللغة- ثاء إلا جاء به في أعقد صوغ فني وأمتن أسلوب عزز قدرته التي ميزته بين شعراء عصره.
ولعل أسلوب ردّ العجز على الصدر يعد ظاهرة أسلوبية واضحة في بنية شعره، ومن سمات تلك الظاهرة الاستدراك على الصدر في العجز كقوله:
ليس السليم سليم أفعى حرّة
لكن سليم المقلة النجلاء
نظرت ولا وسن يخالط عينها
نظر المريض بسورة الإغفاء
وقد وظّف بنية ردّ العجز على الصدر توظيفا معرفيا بصيغة ما يعرف -بالجناس الاشتقاقي- والتكرار/ السليم/ سليم المقلة النجلاء؛ نظرت/ نظر المريض؛ وفيما يُقصر ويُمَدّ والمعنى مختلف وهو من نوع الجناس الناقص قال:
لا تركننّ إلى الهوى
واذكر مفارقة الهواء...
يوما تصير إلى الثرى
ويفوز غيرك بالثراء
وهكذا يتناوب المقصور والممدود في تجانس اللفظ وتباين المعنى، رجا/ الرجاء، الصفا/ الصفاء، الفتى/ الفتاء، السنا/ السناء، الخلا/ الخلاء، النسا/ النساء، العشا/ العشاء، الخوا/ الخواء، العَر/ العراء، الحفا/ الحفاء، النقا/ النقاء، الفَرا/ الفراء، الحيا/ الحياء، الورى/ الوراء، النجا/ النجاء، الدوا/ الدواء، وحى/ الوحاء، السفا/ السفاء، البرى/ البراء، الفنا/ الفناء، العمى/ العماء، الجلا/الجلاء، الفضا/ الفضاء، الذكا/ الذكاء، القفا/ القفاء، الملا/ الملاء، الجدا/الجداء، الصبا/ الصباء، الكرى/ كراء، الإبا/ الإباء.
وندخل في أسلوبية الاختيار عند ابن دريد وفنه وامتلاكه ناصية الفن الشعري، ومن ذلك تفرده في نظم -المثلثة- و-المربعة- وهما عمل فني هندسي محكم لم يشع في الشعر العربي القديم ولم يُعرف لأحد من الشعراء غير ابن دريد هذا الضرب من ضروب النظم المتسم بموسيقى خاصة، يتردد فيها حرف القافية في بداية كل بيت من أبيات المربعة، وكأن القصد منه إشاعة التناغم الصوتي لأجراس حروف المعجم على أنه في المثلثة -اختار- عالم الحكمة مصوغا في قالب موسيقي طريف، عدّه أحد الباحثين إضافة إلى التراث الشعري العربي منذ الجاهلية، يقول ابن دريد في مثلثته التي اتخذ الحكمة موضوعا لها:
ما طاب فرع لا يطيب أصله
حمى مؤاخاة اللئيم فعله
وكل مَن واخى لئيما مثله
من آمن الدهر أتى من مأمنه
لا تستثر ذا لبد من مكمنه
وكل شيء يُبتغى من معدنه
لكل ناع ذات يوم ناعي
وإنما السعي بقدر الساعي
قد يهلك المرعيَّ عتبُ الراعي
وهكذا تستمر المثلثة واحدا وثلاثين مقطعا بنيت جميعها على بحر الرجز في نفس شعري صاف يصوّر ثقافة ابن دريد وخلاصة تجربته في الحياة التي تضيف إلى اختياره الشعري (الحكمة) في قالب موسيقي أخاذ تفرد في إضافته إلى ديوان الشعر العربي.
ومن أشهر من ذاع من قصائد المعاني لابن دريد المقصورة، وهي من أقدم المقصورات الرجزية، وقد مدح بها ابني ميكال الشاه وأخاه وكانا وقتئذ على عمالة فارس وقلدا ابن دريد ديوان فارس فوصلاه عليها بعشرة آلاف درهم، واحتوت بالإضافة إلى المدح، على أغراض أخرى كالغزل ووصف الرحلة وذكر التجارب الشخصية وسرد الأحداث التاريخية، وبذلك كانت نموذجا لشعراء المقصورات الذين نظموا في هذا الفن بعد ابن دريد. وتقع في نحو مائتين وخمسين بيتا، وقد اختلف في عدد أبياتها، وسبب الاختلاف يرجع إلى النساخ أو الناحلين، كما اختلف في مطلعها، وقد أطال ابن دريد في مقصورته وتأتى له فيها إتقان ومتانة، ورأى بعض الأدباء القدامى ضرورة استظهارها حتى تكمل للأديب ثقافته. ويدل على ازدحام العلماء والأدباء عليها بالشرح، حتى جاوز عدد شراحها الثلاثين من جهابذة العلماء وترجمت إلى اللاتينية والتركية، والغاية التعليمية تظهر بوضوح في هذه المقصورة، إذ إنه ضمّنها بعض المعارف المتنوعة لغة وتاريخا وآدابا وأمثالا. وبنى قافيتها على المقصور ويقال إنه ضمَّنها ثلث المقصور في اللغة، وكل ذلك دونما إغراب لفظي بأساليب سهلة يسيرة، فجمعت إلى الأغراض الأدبية فوائد لغوية كبيرة، وقد حشد مقصورته بالأمثال والحكم حشدا. وقد حوكي ابن دريد - كما أسلفنا - في منهجه، وأثرت مقصورته في الشعراء، وقد تمثل هذا الأثر في خمسة وجوه المعارضة، والتخميس والتوشيح، والإعراب، والشرح، والترجمة.
ومطلعها
يا ظَبيَةً أَشبَه شَيءٍ بِالمَها
تَرعى الخُزامى بَينَ أَشجارِ النَقا
إِمّا تَرَي رَأسِيَ حاكي لَونُهُ
طُرَّةَ صُبحٍ تَحتَ أَذيالِ الدُجى