أبو وسيم.. شاعر الأنفة الغاضب
خميس بن سليّم بن خميس المنذري الأزكاني السمائلي. ولد في إزكي، ثم رحل منها إلى سمائل، وفيها توفي. قضى حياته في عُمان (الخليج العربي) وزنجبار (شرقي إفريقيا).
نشأ وتلقى تعليمه في المساجد والحلقات العلمية، على عادة مجتمعه، ودرس علوم الشريعة واللغة على بعض العلماء، واشتهر بالحفظ مما ساعده على تنمية ملكته الشعرية التي بدأت مبكرا وهو في سن الشباب بين الخامسة عشر والعشرين من عمره.
ثم رحل إلى زنجبار، فاتصل بالسلطان برغش، ونظرا لطبيعة شخصيته التي تمتاز بالأنفة، لم يدع اتصاله به طويلا، فاضطر للرجوع إلى عمان.
كوّن ثقافته بنفسه عن طريق الاطلاع، وعاش فقيهًا ولغويًا. وله قصائد متناثرة جمع بعضها كتاب: «شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عُمان»، ويذكر أنه كان له ديوان، فُقد أثره منذ مدة. قال صاحب الشقائق في ترجمته: «الشيخ الأريب الفصيح اللغوي أبو وسيم خميس بن سليّم بن خميس الأزكاني السمؤلي، كان ذا شاعرية رائقة راجحة، وعبقرية فائقة واضحة، تميل الأسماع إلى استماع شعره ولا تمل، وتعجب من حسن معانيه الأنيقة فتثمل»، ولا عجب فشعره يمتاز بالرقة والسهولة والوضوح والحماسة والجمال.
من أهم معالم شخصيته وشعره فن المديح، وأبو وسيم لا يمدح من أجل المال، بل يمدح الشخص لذاته، لذا نرى مدائحه مقترنة بمن يراه أهلا للمدح، ليقتفي الجيل أثره، فمثلا في قصيدته الرائعة « تفتح باب النصر» يمدح الإمام عزان والعلماء: صالح الحارثي وسعيد الخليلي والغاربي، لقيامهم ضد الظلم، وإزالة السلطان سالم بن ثويني وإقامة دولة العدل، فيقول:
تفتح باب النصر والله يفتح
وهب نسيم الفتح كالمسك ينفحُ
وأسفر ليل الجور عن صبح فتية
مع العدل والإنصاف أمسوا وأصبحوا
سعيد وعزان بن قيس وصالح
أولئك هم والغاربي الممدح
مشايخ صدق سادة عربية
أئمة حق فضلها متوضح
بدور تبدت بالكمالات والعلا
شموس تجلت في السماوات وضّح
لقد بذلوا في طاعة الله أنفسا
كراما أبت إلا إلى الله تجنح
فجاؤوا كموج البحر والبحر مزبد
إلى غاية ما خلفها قط ملمح
هنالك كل منهم باع نفسه
يحاول إحدى الحسنين فينجح
يشوقهم وقع الحديد إلى الردى
إذا قام للهيجاء يشدو ويصدح
ومن في سبيل الله يُقتلُ لم يمت
ولكنه حي برزق يفرح
دعوا ربهم أن ينصر الدين غيْرةً
على كونه يلقى وراء ويطرح
فأصبح عزان بن قيس مملكا
إمام هدى لله يغزو ويفتح
مليك به ترضى الإمامة قائما
وما كل ملك للإمامة يصلح
تقلد سيفين المهند والتقى
لأن كلا السيفين في الخطب منجح
ولما أرادت شكره الأرض أصبحت
منابرها تثني عليه وتمدح
دعوه إلى العلياء والمجد دعوة
فقام بها وجها من الشمس أوضح
وأقبل يبتزّ المعاقل غرّة
بسيف سحاب الموت حوليه يسفح
يجر خميسا كلما اشتد حادث
يخوض به بحر المنايا ويسبح
تسيل بطاح الأرض منه بأبحر
متى انحل منه أبطح سال أبطح
تجافى عن النعماء في السلم خيله
وتصبو إلى البأساء شوقا فتمرح
وتغدو إلى الهيجا ضبحا كأنها
صواعق للأعداء توري وتقدح
يمسي بها قوم فيصبح غيرهم
شجاعا كما أمسى سعيدا يصبح
إذا لم تخف لله لومة لائم
فإنك سيف الله في الخصم تجرح
تأمل تلك المعاني المقترنة بالحماسة والشجاعة، والتي تجلي لنا شخصية أبي وسيم، ثم تأمل حكمه بعد ذلك إذ يقول:
كذا فليقم بالأمر من يطلب العلا
وإلا فإن العجز عنها لأروح
إذا الليث لم ينهض إلى الصيد نهضة
فلا هو فراس ولا الصيد يسنح
لقد كذبت نفس لصاحبها ارتضت
معيشة ذل وهي داء مبرح
أرى الناس شتى في المقاصد والهوى
فذا متعب فيها وهذا مروح
وفي طي أهواء النفوس دسائس
ولكنها تبدو لمن يتصفح
ترجي من الدنيا نهايات أمرها
وذلك من قدر المعيشة أفسح
كأن على الدنيا فراش تهافتت
على قبس من ظلمة الليل يلمح
فلا تشغلنكم زهرة في حياتكم
بني الدين فالدنيا جمالٌ مقبح
وتأمل تلك التشبيهات العفوية البديعة، التي تجلي لنا صدق العاطفة، بل تظهر تلك العاطفة جلية في خاتمة القصيدة إذ يقول:
أولئك أهل الله فاسلك طريقهم
فمن سار في آثارهم فهو مفلح
أولئك أهل الفضل والعدل والندى
بأنوارهم سبل الهدى تتوضح
بهم تضحك الدنيا وتبتهج القرى
وتستبشر الأخرى سرورا وتفرح
لقد أشرقت في الأرض أنوار عدلهم
فكادت بأنوار السماوات ترجح
وإن أنا عن أخلاقهم جئت مفصحا
لما وسع القرطاس ما أنا أشرح
ولكنني صب مشوق متيم
وقد طاب لي بالصالحين التمدح
تنظم أشواقي يواقيت أدمعي
سموطا كلا خديّ منها موشح
إلى كم بِكُم قلبي يذوب صبابة
وحتى متى عنكم بي الدار تنزح
يزيد اشتياقي كلما عنّ ذكركم
وهل ساعة عن ذكركم أنا أبرح
كأني من فرط الصبابة صارم
بكف كمي منكم أترنح
ويا ليت شعري هل أفوز بقربكم
فلا أنثني عنكم ولا أتزحزح
فوالله لا زالت رياحين حبكم
غصونا بأمواه الشبيبة ترشح
ويا رب نصرا لابن قيس ورهطه
على كل من يبغي عليهم ويجمح
وملكهم شرق البلاد وغربها
فإنك وهاب لمن شئت تمنح
ولكن لم تلبث دولة الإمام طويلا، حتى سقطت، وحتى مراثيه لم يقلها إلا لمن يستحق في نظره، وهذه مرثاته للعلامة أحمد بن سعيد بن خلفان الخليلي، ومنها:
فجع البسيطة حادث لا يدرأ
ولرب خطب للخلائق يفجأ
الله أكبر أي رزء حل لا
مهج تطيق ولا عيون ترقأ
حرق توقد في الضلوع يشبها
هذا المصاب بأي شيء تطفأ
هل كان أرسا الأرض إلا شمها
دك الأشم فأصبحت تنكفأ
صبت دويهية علينا وهي من
كل الدواهي لا محالة أجرأ
عظم المصاب فلا حياة هنية
أو بعد أحمد في حياة مهنأ
صبي دماءك يا عيون مدامعا
هل عد أحمد من نفيس يخبأ
دفن المكارم دافنوك فأشرقت
عجبا لمدفون سنا يتلألأ
ومن قصائده التي تفيض بالفخر، وتصور لنا فلسفته في الحياة، وبعده عن مواطن النفاق والمديح الرخيص، واعتزازه بنفسه وفنه الشعري تلك القصيدة التي يقول فيها:
لساني مملوء من القول جوهرا
على أنّ في قلبي لذا الدر أبحرا
يغوص على ما شاء فكري فتارة
يساقط منظومًا وطورًا منثرا
ولكن دهري أصبح الصمت عنده
بكل فصيح فيه أولى وأجدرا
فلا النثر محفوفًا لديه بحرمة
ولا النظم ذا قدر لديه موقرا
فيا در دم في لج بحرك ساكنًا
وأنت له يا فكر لا تبغ معبرا
فلم أر أوفى بالوعيد لأهله
ولا مثلهم في الخلف للوعد معشرا
ولست بذي حرص على الرفد منهم
وما أنا ممن يرتضي الشعر متجرا
أحب لهم فخر الوفاء مودة
ومن لي بأن يرضوا بذلك مفخرا
ورب صغير دون قدري قدره
يرى نفسه من طور سيناء أكبرا
قصرت على دين الإله تواضعي
وأوسعت أهل الكبر مني تكبرا
وما أنا من زكى بذا القول نفسه
ولكن لساني لم ير الحق منكرا
فحتام أحسو الماء فيهم بعلقم
ويشرب حولي الناس ماء وسكرا
كأن زمان الفضل قال لأهله
سلام عليكم ثم ولى وأدبرا
وكانت بقايا الفضل في الناس شيمة
فطارت بها العنقاء شيئًا مقدرا
إذا العز عيا عن مقامك فارتحل
عن الذل إما رايحا أو مبكرا
ودونك من ذا الدر سمط فمثله
يضن به كيما يصان ويدحرا
هكذا يتجلّى لنا شعره ممزوجا بالرقة والسهولة والوضوح، وظهر فيه بعض مظاهر التجديد والتطور، فعبارته سلسة، ولغته واضحة، ومعانيه قريبة، ويمكن أن نجد ملامح الموروث الشعري ظاهرة في بعض استخداماته، في الصور والمجازات خاصة.، لذا لا غرو أن يقول:
أدباء عصري هل لنظم قريضكم
نفثات سحر مثل سحر بياني
كل الأعنة في يدي لذلكم
تكبو لي الفصحاء في الميدان
ومن أرق نماذج شعر أبي وسيم في الغزل تلك القصيدة الهامسة التي تذوب رقة وعذوبة، ولذا لا غرو أن يقول:
إن الأبارق ذكرها أبكاني
وسنا البوارق بالبكا أغراني
وإذا الرياح تهب في ذاك الحمى
بعثت فنون الشوق بالأشجان
مغنى ترى الفتيات من فتياته
يلعبن بالألعاب والأذهان
الكثب من أكفالها والقضب من
قاماتها في خجلةٍ وهوان
كادت تشف عن الدماء جسومها
من رقة البشرات والأبدان
ويكاد ينصدع الجماد بنطقها
لعذوبة النغمات والألحان
من كل فائقة المحاسن لونه
لون الغزالة باهر الألوان
...بهرت لطائف صنع ربك عندها
في ذاتها كي يشهد الثقلان
فإذا محياها رأيت وفرعها
خلت الضحى والليل يجتمعان
وإذا نظرت لوجهها ولنحرها
قل ناظريك قد التقى القمران
ولطالما قد ما ظفرت بوصلها
فهويت بين الروح والريحان
لكنني أبصرت كل محللٍ
منها وليس محرمٌ يغشاني
قد صان مدرعها العفاف ومدرعي
وكذاك سيما الدين والإيمان
...شعراء عصري ما لنظم قريضكم
نفثات سحرٍ مثل سحر بياني
كل الأعنة في يدي لذلكم
تكبو لي الفصحاء في الميدان
توفي أبو وسيم بين عامي 1320 و1329
(الموافق 1902-1911).
د. سالم البوسعيدي شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارا.