No Image
روضة الصائم

أبو نبهان.. الشيخ الرئيس

19 مارس 2024
19 مارس 2024

يقول عبدالله الحراصي: «مع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ظهر في عُمان -مثل غيرها من كثير من البلاد العربية- ما أطلق عليه بعض الباحثين الأوروبيين اسم النهضة العُمانية. وكان أبو تلك النهضة أبي نبهان الشيخ جاعد بن خميس الخروصي، حيث امتدت أثرها إلى شرق أفريقيا وتبناها هناك السلطان برغش بن سعيد بن سلطان (1870 -1888) الذي أسس مطبعة في زنجبار قامت بطبع ونشر عدد كبير من الكتب العُمانية وتلك المتعلقة بالفكر الإباضي». فمن هو أبو تلك النهضة؟

ولد أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي عام 1147 هـ/ 1734م في بلدة العليا من بلدان وادي بني خروص. وترعرع في هذه البلدة، وكان محبا للصيد والرمي. وكان والده -الشيخ خميس بن مبارك - زعيما لقبيلة بني خروص آنذاك. تعلم القرآن الكريم، وعلوم الحديث والفقه واللغة والنحو والأدب على مشايخ وأعلام بلده، وهكذا نشأ أبو نبهان في العليا، في بيت رئاسة ومعرفة وعلم، وقد توفي الأب 1156هـ/ 1743م وكان جاعد صبيًا ابن تسعة أعوام، ولكن الابن النجيب اشتغل بالعلم منذ صغره.

كان أبو نبهان عصاميًا في تكوينه العلمي كما يؤكد على ذلك في إحدى قصائده، واهتم مبكرًا بالعلم حتى أنه كان يطلب أن تنسخ له أمهات الكتب وهو لا يزال في العشرين من عمره، لكنه كما يبدو خالط العلماء وأهل العلم فظن البعض تتلمذه على يديهم، كما ذكر ابن رزيق في الفتح المبين تتلمذه على يد أحمد الكندي في بداية تعلمه، وسافر ليتعلم من الشيخ حبيب بن سالم أمبوسعيدي، وكان عمره ١٧ عامًا حين نُصب الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي على يد الشيخ حبيب أمبوسعيدي. وتُروى قصة ظريفة بينه وبين الشيخ سعيد الكندي في بعض المراجع، وبين الشيخ حبيب بن سالم أمبوسعيدي في مراجع أخرى منها ابن رزيق في الصحيفة القحطانية، وذلك أن الشيخ كان مولعا بالصيد والبنادق فقال له شيخه عندي لك بندقية لا تخطئ، فقال له الشيخ لعلك تقصد الكتاب، فقال شيخه نعم هو ذاك.

وكما ذكرنا كان أبوه رئيسًا في قومه ومرجعًا في الوادي ومعتمدًا لدى أئمة اليعاربة، وللأب عدة آراء ومراسلات مذكورة تدلل على فقهه وعلمه، ونظم في مدحه ومراسلته الشاعر المعروف سعيد بن محمد الغشري الخروصي عدة قصائد ورد في إحداها ذكر هذا الابن النجيب، وقامت صداقة قوية بين الغشري والشيخ جاعد على فارقِ السن بينهما، فالأول أكبر والشيخ أصغر، حتى أن الشيخ اشترك معه في نظم قصيدة في أئمة بني خروص، إضافة إلى أن الشيخ لم ينظم غير قصيدة رثاء وحيدةٍ في وفاة صديقه الغشري ولم نجد له رثاء في غيره.

كان والده في مقام الزعامة القبلية لجماعته، وقد تداخل ذلك في حياة أبي نبهان فتداخلت الزعامة القبلية مع الزعامة الدينية التي تسنمها أبو نبهان بعلمه ومعرفته، لذلك كان ولا بد أن تتداخل حياة الشيخ مع الأوضاع السياسية في عصره، وقد عاصر الشيخ عهد أربعة من الأئمة والسلاطين وهم على التوالي: الإمام أحمد بن سعيد وابنه سعيد بن أحمد، وسلطان بن أحمد، وسعيد بن سلطان، وتوفي في عهد السلطان سعيد بن سلطان. وبينه وبين السلاطين وقائع وحوادث مسجلة في كتب التاريخ، وجرت المكاتبة بينه وبين سلطان بن سعيد، فقد كاتبه الأخيرُ قبل توليه الحكم في خلع أخيه سعيد بن أحمد، وتنصيب من يراه المسلمون من أبناء الإمام، وبالفعل سعى أبو نبهان إلى ذلك، وكانت فتنة نزوى، التي انتهت دون تحقيق المراد، غير أن الأمور لم تستقر بيد الإمام سعيد خاصة بعد وفاة ابنه السيد حمد، وحين تولى سلطان الحكم كان عصره مسالمًا وهادئا للشيخ، لكن في عهدِ ابنه سعيد جرت بين طالب بن أحمد وبين الشيخ وأبنائه حوادث ينقلها السالمي في تحفة الأعيان عن ابنه ناصر. ومن بعدِ سلطان تولى ابنه السلطان سعيد الذي امتدت مملكته ودام حكمه عقودًا طويلة، وقد تحسنت العلاقة بين سعيد بن سلطان وبين ابنه ناصر بن جاعد حتى كان يأخذُهُ مَعَه في أسفاره، وتوفي الشيخ ناصر في زنجبار وقبره معروف بها.

كان أبو نبهان من أجل علماء زمانه، واشتهر بعلم الأسرار، يقول عنه نور الدين السالمي: “إن أبا نبهان كان المقدم على أهل زمانه بالعلم والفضل والشرف، واتخذه الناس قدوة في مراشد دينهم، وقلده الأفاضل أمرهم لما علموا من علمه وورعه”.

له مؤلفات كثيرة منها: مقاليد التنزيل وتفسير لبعض الآيات المتشابهة، وكتاب دقاق أعناق أهل النفاق، وكتاب إيضاح البيان فيما يحل ويحرم من الحيوان، وكتاب البيوع، وكتاب الطهارات، وشرح كتاب الجهالات، وأجوبة فقهية في سبعة مجلدات.

وله قصائد في كتاب: «شقائق النعمان» و«الزمرد الفائق» و«إتحاف الأعيان» و«ديوان التنوفي». وشعره وفير، أكثره في التقرب إلى الله، والتدليل على قدرته وعظمته، والتوسل إليه، وبعضه في السلوكيات الإنسانية والدعوة إلى الأخلاقيات والقيم المثلى. جمع ابنه خميس قصائده في ديوان بعنوان «نفائس العقيان، ديوان أبي نبهان» وصدر محققا في طبعات متعددة. ومن أجملها ما صدر بتحقيق الشاعر إبراهيم سعيد ومنه أخذنا صدر هذه الترجمة. كما أنه صدر بتحقيق حفيد العلامة أبي نبهان العلامة مهنا بن خلفان الخروصي.

وقصائده تقترب من النهج الصوفي، يكشف فيها حياة المهج الإنسانية، ويميل فيها إلى النصح والإرشاد والحكمة والموعظة الحسنة، وتتميز بلغتها الصوفية العميقة وألفاظ السكر والنشوة والقرب، وله قصائد في التعبير عن نفسه وأحواله، وانتقاد الممارسات الإنسانية في بعدها عن طريق الحق، وأخرى في طلب الرزق. منها: قصيدته النونية، وقصيدته المسماة “حياة المهج”، وقد شرحها شرحا وافيا.

مدحه كثير من شعراء عصره كالستالي، والشاعر الغشري، وغيرهما ومجموع قصائد هؤلاء المادحين تسمى: «قلائد المرجان في مدح أبي نبهان». ورثاه كثير من شعراء عصره وعلمائه في عمان.

ومن رائع شعره في السلوك:

أرى العدلَ عن لومِ العذولِ هو العدلُ

وقصدَ الفتى وصلَ الحبيبِ هو الدَّخْلُ

وحقِّ الهوى ما صادقٌ في الهوى فتى

يخل به عن خلِّه اللَّومُ والعذْل

ويصغي إلى قول الوشاةِ فينثني

صَدودًا على هجرٍ وفي صدرهِ ثقْل

ولا كلُّ من قد رام في الحبِّ شركةً

ويهنا بشربٍ أو يلذُّ له أكل

ولو أن نورَ الحبِّ أورى بقلبه

أوارَ الهوى أمسى وفي جسمه نحل

وخمرُ الهوى لو خامر القلبَ بالجوى

لما ردّه بذلٌ ولا صدَّه عَكل

ولو أنّه صبٌّ شجيٌّ من الهوى

لما رام غيرًا لا ولا مسَّه كَل

هو الحب سهلٌ في اللسان ادعاؤُه

على أنَّه حزْنٌ وليس به سهل

منيعُ الحِمى لا بالهوينى ولا المنى

بلوغُ المنى أنَّى ومن حوله سُبل

ويقول واصفا الواصلين:

فغاروا ولا عار، وضلوا ولا عمى

وغابوا فلا فقد، وحاروا فلا جهلُ

وشرب لكاسات تدار على خفا

دهاقا، على حال هي الحال والبل

وسكر ولا خمر، وشوق ولا شقا

وصحو لا محو، وشجو ولا ثكل

ويقول:

شموسُ قلوبِ العارفين بوازغُ

ومن حبِّ غير اللهِ هُنَّ فوارغُ

لها في خفيَّاتِ الخفيِّ مطالعٌ

وفي غربِ أعيانِ العيانِ مبازغ

وفي سرِّ إشراق النُّفوسِ مشارقٌ

لآفاقِ أوفاقِ النِّفاق دوامغ

وأنوارُ أبصارِ البصائرِ كونُها

لأسرارِ إبحارِ العلوم منابغ

وبرهانُ ميدان الغرائز نورُه

له في جليَّاتِ الجليِّ مرادغ

سرى في سُرى السبع السمواتِ سرُّها

إلى العرش والكرسيِّ هنّ بوالغ

د. سالم البوسعيدي شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارًا