أبو الأحول.. الشاعر القاضي
سالم بن محمد بن سالم الدرمكي (1158- 1224هـ/ 1745- 1809م)، ولِد في إزكي، وتوفي في سداب (محافظة مسقط)، ونشأ في بيت علم وأدب فقد برزت مجموعة من الأدباء والعلماء والشعراء من آل بيته والذين عاشوا في القرن الثاني عشر والثالث عشر، علاوة على أنه عاش في كنف والده العالم الفقيه محمد بن سالم الدرمكي، وتلقّى بدايته الدراسية في قرية اليمن بولاية إزكي، ثم توثقت صلته بالعلامة جاعد بن خميس الخروصي، وكانت بينهما رسائل ومباحثات علمية.
أثَّرت تلك النشأة في شخصيته إضافة إلى أمرين آخرين أولهما ما امتاز بدرجة عالية من وفرة في الزاد المعرفي وسعة المعرفة والحفظ، فكان مطّلعا على الموروث الشعري العربي، ومما يدل على ذلك مراسلاته ومباحثاته العلمية مع العلامة جاعد بن خميس الخروصي، وكان يحب مجالسة الصالحين وأهل التقوى فحاز على مكانة عالية بين الشعراء والأدباء. تصفه المراجع أنه كان نحيل الجسم واسع المعرفة. وثانيهما أنه شغل منصب قاضي ولاية بركاء في عهد السيد حمد بن سعيد (حاكم عمان في المدة 1784- 1792) واستمر في منصبه حتى عهد السيد سلطان بن أحمد (الذي حكم عمان في المدة 1793- 1804)، كما عمل مستشارًا للسيد سالم بن سلطان.
شهد الدرمكي عصر الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي منذ بدايته، وأرَّخ بشعره كثيرا من الأحداث التاريخية في عصر هذا الإمام، ثم برز في عهد السيد حمد بن سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد الذي استدعاه من إزكي إلى بركاء وجعله قاضيا بها، وقرَّبه إليه.
أما وفاة الشاعر فتذكر المصادر أنه توفي ببلدة سداب وذلك سنة 1224هـ الموافق 1809م.
للدرمكي ديوان شعري باسم «ديوان الدرمكي» يحوي قصائده، فهو شاعر مناسبات، وبخاصة المدائح، وله افتنان في الغزل، ونونيته المادحة جمعت بين الطرفين، على أن مقدمتها الغزلية أطيب ما فيها، وتأمَّل معي مقدمته الغزلية في مدح العلامة جاعد الخروصي، حين يقول:
رجا منه وصلاً فانثى غيرَ واصلِ
وعاد رجاه فيه بنيانَ واصل
وطوَّلَ بحرُ الشوق وافرَ نأيه
فصار بسيطًا مُدَّ من غير ساحل
فما زلتُ سمحًا في هواه بمهجتي
ولا زال لي منه سجيّةُ باخل
ولي كامليٌّ كاملُ الحسن لم يزل
هلاليَ منه ناقصًا غيرَ كامل
وأُحيي له في كل يومٍ مودةً
فصار ببذلي غايةَ الحب قاتلي
غدت مهجتي تحكي شبيبًا وجسمه
غداةَ روت ألحاظُه عن «مُقاتل»
فيا لائمي في الحب لستَ ملائمي
وإنك لي يا عاذلي غيرُ عادل
أصمُ الهوى أُذْنُ الذي حمل الهوى
فليس له سمعٌ لعذل العواذل
يساعدني التوفيق دهري عن البكا
وقلبي عن السلوان والصبر خاذلي
فأنت ترى جليا اهتمامه شأن شعراء زمانه بالمحسنات البديعية، وخاصة الجناس، كما تلاحظ عبارته السلسة، وإيقاعه المتدفق، وألفاظه التي تمزج بين القديم والمبتكر. كما تلمح في هذه المقدمة الغزلية التي أنشأها عالم وقاض وشاعر لعالم وقاض وشاعر، فتعلم قيمة الغزل وجماله، وأبدع منها في غزله هذه المقطوعة التي يقول فيها:
وقائلة إن سارت العيس ليلة
بنا كيف تمسي أنت ؟ قلت أذوب
فقالت وإن جدّت بنا السير في الفلا
فماذا الذي يعروك ؟ قلت كروب
فقالت عن الأبصار إن غيبت بنا
فصبرك عنا أين؟ قلت يغيب
فقالت وإن شطت بنا غربة النوى
ففي أيّ حال أنت؟ قلت أشيب
فقالت وإن بشّرت منا بأوبةٍ
فكيف يكون الحال؟ قلت يطيب
فقالت وإن شمت المطايا مناخة
بنا كيف ذاك اليوم؟ قلت عجيب
ومن أجمل ما في نصوص الدرمكي هذه الحوارات اللطيفة الساحرة، تأمَّل قوله:
تقول سليمى إذ رأتني ببابها
من الواله الباكي فقلت غريبُ
فقالت: فماذا تشتهي، قلتُ نظرةً
إذا لم يكن لي في الوصال نصيبُ
فقالت أتآنا مخبر عنك بالذي
أذعت من الأسرار، قلت كذوبُ
فقالت بلى من جاءنا غير كاذبٍ
أمينٌ صدوقُ القول، قلت أتوب
فقالت: إذن بالله ما أنت صانعٌ
إذا نحن أبعدناك، قلت: أذوبُ
فرقّتْ لحالي، ثم قالت برحمةٍ
قبلناك ما للعاشقين ذنوبُ
إنك هنا تذوب رقةً وعذوبة وأنت تتجاوب مع اللفظة الساحرة، والخيال البديع، والموسيقى الرشيقة، والعاطفة الجيّاشة، والمضمون الحواري الساحر.
وتأمَّل معي رسالته لأحد أصدقائه، وهو يقول:
للناس أحبابٌ ولي، لكنني
قللتُ عدا في الحساب وكثّروا
والكل مقتصرٌ على محبوبه
لكنني طولتُ لما قصّروا
فاخترتُ حبك دون كل موحدٍ
فهوى سواك بخاطري لا يخطرُ
أنا أصبعٌ في كف يمنتك التي
قد أصبحتُ إحدى قواها الخنصرُ
ميزة الدرمكي هذه القدرة العجيبة على توليد المعاني، ويهمني هنا أن أختم بذكر قصيدته الأشهر، بل لعلها واحدة من أشهر القصائد العمانية على الإطلاق، وهو نونيته، -وقد وضع الشيخ مهنا بن خلفان بن عثمان الخروصي كتابا ذكر فيه النونية ومعارضاتها الشعرية- يقول ابن رزيق إن السيد حمد ابن الإمام سعيد ابن الإمام أحمد بن سعيد طلب الشيخ سالم بن محمد بن سالم الدرمكي الإزكوي الملقب بأبي الأحول، من بلده إزكي وأقره ببلد بركاء وفوّض إليه الكتابة بين المسلمين والأحكام الشرعية، وأمر أن يُبنى له بيت خارجا من السور، ولما كمل بناؤه أفعمه بالأرز والتمر والسكّر والصناديق والأواني وغير ذلك بغير علم الشيخ سالم، ولم يخبر البنائين ولا غيرهم عما أضمره بشأن هذا البيت ثم أرسل إلى أهل الشيخ أحدا من أهل الركاب ومعه كتاب يستدعيهم للوصول إلى بركاء، ونسب الكتاب من الشيخ سالم وأمر من أقرهم بالبيت بإخباره متى وصل أهل الشيخ، كما أنه أخبر حامل الكتاب أن ينزلهم فيه، وأن يخبره متى وصل، فلما وصلوا وأخبروا السيد حمد طلب الشيخ سالم ومضى به إلى البيت، كأنهم خارجون للنزهة، فقال السيد حمد للشيخ سالم: هذا البيت لك وما فيه، ورجع السيد حمد ودخل الشيخ سالم البيت فرأى أهله وما أودعه له فيه السيد حمد، فحمد الله وأثنى عليه، وشكر السيد حمد شكرا بليغا فنظم له هذه القصيدة التي شاع ذكرها عند الأدباء ولهج بها الخاص والعام، ومنها:
ما بين بابَيْ عينِ سَعْنةَ واليَمنْ
سوقٌ تُباع به القلوبُ بلا ثَمَنْ
تَجِروا بما احتكروا به وتحكَّموا
فجوابُ من يَسْتام منهم لا ولن
المسكُ من أبدانهم والعودُ من
أرْدانِهم والزعفران من الوُجن
وشذا القرنفلُ هاج من أنفاسِهم
سَحَرًا وماءُ الورد من عَرَقِ البدن
حازوا جمالاً لا يُقال له كما
لكنْ بهم شُحٌّ عليَّ به كَمَن
ومُوَرَّد الوجناتِ سنَّ ليَ الجفا
منه فحرّمَ مُقلتي طِيبَ الوَسَن
شاكي السلاحِ فكم بسيفِ لِحاظِه
ضربَ الحشا وبرمْحِ قامتِه طعن
جُنَّ الحليمُ له وقد سَفَرَتْ ذُكا
من وجْهِه والفرعُ منه الليلُ جَن؟
صنمٌ عليه الخلْقُ أثنوا كلُّهم
لولا التُّقى لعبدتُ ذلكمُ الوثن
كم رمتُ منه إرْبةً فدعوتُه
رَغَبًا فما أذِن الغَداةَ ولا أذِن
لو أنّني عانقتُه وَهْنًا فمِن
شَرَهي ومن شوقي إليه القلبُ حَن
لو أنَّه أمسى يُمنِّيني بما
أهوى لما هدأ الفؤادُ وما هَدَن
لو أنَّ روحي في الدنُوِّ بروحِه
مزجَ الودادَ له به القلبُ اطمأن
يا شقوةَ القلب الذي بالطلِّ لا
يُروى ولا بالوَبْلِ جاحِمُه سكن
لا زلتُ مقتصرًا عليه كما غدا
مولايَ مقتصرًا على الفعل الحسن
حمد الذي حُمِدَتْ جميع خِلالِهِ
فحَلَتْ به للخلق أخلاقُ الزمن
ذو منزلٍ من زاره سلاهُ عن
ذِكْر المعاهد والحنينِ إلى الوطن
يسخو ولم يفتح له راجٍ فَمًا
ويُرى إذا هو ما سخا جودًا فمَن
للناس ظاهرُه وباطنُه صفا
وأطاع في السرِّ الإلهَ وفي العلن
وإذا به لاذ امرؤٌ من حادثٍ
فمن المحال بأن يُضام ويُمْتَهن
بالجدّ قد بلغ المعالي ناشئًا
لله منه شبَّ غصنٌ فامتحن
ولكم له مِننٌ عليَّ عجزتُ عن
شكرٍ لأُعرضه على تلك المنن
أنا بلبلُ الشعراء لمّا لي حنا
عودُ الندى غرّدتُ في ذاك الفنن
فلا عجب حين توفي السيد حمد أن يرثيه، بقصيدة رائعة مطلعها:
لما قضى حمد لم يبكه البشرُ
حتى بكاه الحصى والنخل والشجرُ
د. سالم البوسعيدي شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارًا