هل تنجح إسرائيل في محو تاريخ غزة؟
لا شك أن حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكثر من 100 يوم تشكل جريمة حرب كاملة العناصر لو كان المجتمع الدولي يريد أن يرى ما يحدث بعين الحقيقية. فقد أودت الحرب بأكثر من 24 ألف فلسطيني 70% منهم أطفال ونساء. وأصبح قطاع غزة بأكمله مجرد ركام على الأرض، ما يعني أن 2.3 مليون فلسطيني هم عمليا اليوم يعيشون في العراء مع شدة فصل الشتاء، وفي غياب كامل لكل مقومات الحياة بما في ذلك المياه الصالحة للشرب والمواد الغذائية التي تستطيع مساعدة الإنسان ليبقى على قيد الحياة. لكن هناك خسائر كبرى أخرى تسببت فيها هذه الحرب ومنها على سبيل المثال آلاف الأطفال الذين فقدوا كل عائلاتهم، وعشرات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال ممن أصبحوا مبتوري الأعضاء في ظل غياب كامل للمؤسسات الصحية التي يمكن أن تتعامل مع مثل هذه الحالات.
ورغم فداحة هذه المشاهد فإن جرائم الاحتلال أبشع من ذلك بكثير؛ فمدينة غزة شهدت محوًا كاملًا لكل تاريخها وآثارها، وإذا كانت المباني السكنية والبنية الأساسية قابلة لإعادة الإعمار، فكيف يمكن إعمار التاريخ والآثار التي هدمها حقد الاحتلال.
وكان واضحًا أن تعمل منذ اليوم الأول على محو كل شيء في غزة.. الإنسان وتاريخه وتراثه، حيث دمّرت مئات المساجد منها ما يعود إلى حقب زمنية قديمة جدًا، والمواقع الأثرية والكنائس والمتاحف.. ثم عملت على جرف كل ما بقي قائمًا. وإذا كان نتانياهو قد كرر أكثر من مرة أنه يخوض حرب «حضارة» مقابل «البربرية»، فكيف يمكن أن نفهم «حضارته» التي تستبيح كل هذا التراث الإنساني والثقافي؟! إن منطق الاحتلال وصل إلى مرحلة من التفكك التي تثير الضحك والسخرية.
ولم يقتصر التدمير «الحضاري» على آثار المسلمين فقط، ولكنه طال أيضا التراث المسيحي ما يعني أن الاحتلال هدفه تدمير كل شيء متعلق بالفلسطينيين سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين.. وهذا دليل على أن المحتل لا يفقه في الحضارة شيئًا أبدًا.
لم تكن غزة مجرد مدينة هُجّر لها الفلسطينيون في النكبة الأولى وبعد النكسة، بل هي مدينة متخمة بالتراث والآثار الإنسانية التي تشهد على عراقتها ومكانتها التاريخية، ولأن الاحتلال يريد محو كل هذا التاريخ الذي يشهد على عراقة الإنسان الفلسطيني وآثاره على أرضه.
لكن هذه الفلسفة الإحلالية التي يتبعها الاحتلال لا يمكن أن تنجح ما دام الفلسطينيون مصرّين على التمسك بأرضهم وبتاريخهم وبتراثهم، فهم اليوم يبنون تاريخًا جديدًا من تواريخ المدينة والإنسان الفلسطيني.