فلسفة القيادة الحضارية
من السهل فهم فلسفة الدولة العمانية في مسيرة بنائها وفي خططها التنموية، أن تقوم على فلسفة المواءمة بين الاحتياجات المادية والمعنوية، ولا تكاد تعلي جانبًا على آخر، وإن كان لا بد من تركيز على جانب فإنها تفضل الجانب المعنوي. وكان بيان مجلس الوزراء اليوم الذي صدر في أعقاب تفضل حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم وترؤسه اجتماع مجلس الوزراء في قصر المعمورة العامر اليوم مثالًا دقيقًا لفهم تلك الفلسفة. فعلى الرغم من الاهتمام الكبير بموضوع ملف التشغيل واعتباره من أهم ملفات الدولة، بل وضمن أهم أولوياتها إلا أن البيان استغرق مطولًا في موضوع القيم والمبادئ والبناء المعنوي حينما ركز على أولوية تحصين المجتمع من أفكار التشدد والتعصب والتحزب. وهذه الفلسفة هي فلسفة البناء الحضاري الحقيقي الذي يأخذ الشخصية الإنسانية في اتجاه تكاملي بين الجانب المادي والجانب المعنوي المتمثل في المقام الأول في الجانب القيمي، ورغم أن القيم سمات إنسانية إلا أن كل الأديان السماوية قد حثت عليها ولذلك نستطيع بكل اطمئنان أن نعتبر هذا النوع من البناء هو بناء ديني أيضا، لكنه بناء يفهم الدين على وجهه الحقيقي المتزن دون شطط ودون غلو.
وهذه الفلسفة البنائية التي عهدناها في كل كلمات جلالة السلطان، وفي كل خطبه وكذلك في كل أحاديثه سواء للمواطنين بشكل مباشر أو عبر اجتماعات مجلس الوزراء تؤكد أن الدولة تسير في مسار آمن، مسار حضاري حريص على البناء الإنساني الحقيقي الذي سيبقى يؤتي ثماره لعمان وأهلها الأوفياء.
كان تأكيد اجتماع المجلس اليوم على أولوية ملف الباحثين عن عمل وملف التشغيل بشكل عام من شأنه أن يبعث الكثير من الاطمئنان في النفوس، خاصة وأن هذا الملف أحد أكبر الملفات التي تفرز تحديات كبيرة في سياق العمل الوطني في سلطنة عمان. لم يكن التأكيد لأمر مفهوم مسبقا فالدولة مهتمة بهذا الملف رغم تعقيداته ولكنه كان تأكيدًا مقرونًا بأدوات عملية، حيث إن المجلس بعد أن أكد أن المبادرات التي أقرها من شأنها أن تسهم في إيجاد فرص عمل، أقر تخصيص مبلغ 50 مليون ريال لدعم برامج ومسارات تشغيل الباحثين عن عمل في القطاع الخاص مضافًا إليها ما نسبته 1.2% من قيمة مشتريات كل من قطاع النفط والغاز والوحدات الحكومية والشركات التابعة لجهاز الاستثمار العماني. وهذه النسبة جيدة بالنظر إلى حجم المشتريات السنوية. على أن تقوم الجهات المعنية بوضع اشتراطات واضحة لضمان استدامة الفرص التشغيلية التي سيتم توفيرها. إن نتائج العمل في هذا الملف من شأنها أن تعالج أهم قضية مطروحة اليوم في المشهد العماني، وفي الحقيقة هذا الملف هو أحد أهم الملفات العالمية؛ لأنه مرتبط بطموحات الناس وبآمالهم وينعكس في كثير من جوانبه على البناء النفسي للأفراد وتشكيل قيمهم. ولأن فلسفة بناء الدولة في عمان فلسفة تكاملية كما سبق الحديث أقر المجلس اليوم تخصيص مبلغ 72 مليون ريال عماني لدعم برنامج منفعة دعم الأسرة الذي بدأ صرفه هذا الشهر.
لقد كان تركيز اجتماع مجلس الوزراء اليوم على البناء القيمي والأخلاقي والبناء الديني وفق الفهم الصحيح للدين الإسلامي تأكيدا لفلسفة التوازن في الفهم العماني للبناء الحضاري فلا مجال ولا مكان في هذا البناء وفي هذه المسيرة للتعصب والتشدد والتحزب، فهي كما كانت صفات مرفوضة في عُمان عبر تاريخها. وأكد المجلس على دور الأسرة ومسؤوليتها التاريخية في هذا البناء وفي وضع أسس هذه الفلسفة العمانية المتوازنة. ونتصور أن عنوان المرحلة القادمة هي المزيد من ترسيخ هذه القيم والمبادئ والوقف صفًا واحدًا أمام الأفكار الضالة الغريبة على الفلسفة العمانية ومساراتها في التاريخ.
إن عمان تفخر بحكمة قائدها عاهل البلاد المفدى الذي يثبت للعالم أجمع أنه قائد حكيم مهتم بالبناء الحضاري في المقام الأول، ومتمثل لمكانة عُمان عبر تاريخها الطويل، ويعمل من أجل تكريس ذلك الدور الحضاري الذي لعبته عبر القرون الماضية وواعٍ للمتغيرات التي يشهدها العالم والتي وضعته -أي العالم- في أحد أكبر المآزق الأخلاقية عبر التاريخ .