غزة.. وسؤال الإنسانية الصعب
كانت المشاهد التي تناقلتها وكالات الأنباء والفضائيات الإخبارية أمس لقطاع غزة في أول أيام شهر رمضان المبارك مؤلمة جدا، حيث كان الجميع يعيش المأساة في لحظتها الآنية وفي سياقها التاريخي سواء منذ بدأ الاحتلال قبل أكثر من 75 عاما أم منذ أن بدأت الحرب الأخيرة التي يمعن فيها جيش الاحتلال الصهيوني لإبادة كل شيء في قطاع غزة: الإنسان، والمكان.. وحتى التاريخ الذي يحمل حكايات أصحابه وقصصهم بحلوها ومرها وتجربتهم في الحياة وفي تأسيس قيمها ومبادئها.
إذا كانت الحرب قمة المأساة الإنسانية، فإن ذروة تلك المأساة تتمثل في مشهد الأطفال والنساء، سواء من قطعتهم الحرب إلى أشلاء أم من يتمتهم ورملتهنّ فالمشهد في النهاية واحد لا يختلف كثيرا.. ولذلك فإن العالم يرى كل يوم منذ أن بدأت حرب الإبادة الهمجية على غزة ذروة المأساة الإنسانية، اللحظة التي تنفطر لها القلوب.
وإزاء هذا المشهد وكل تلك المآسي التي تُقرأ فيه، يطرح الإنسان سؤالا جوهريا في وجه هذا العالم الذي يدّعي أنه متحضر جدا وصاحب مبادئ وقيم أصيلة وأن التجارب جعلته يفهم معنى الحرب ومعنى ويلاتها: ألا ينبغي عليكم التعاطف مع هؤلاء الأبرياء بغض النظر عن قوميتهم وعن انتمائهم الديني؟ هل كان لا بدّ أن تكون عيونهم زرقاء وشعرهم أشقر حتى يتعاطف معهم العالم ويحرك ساكنا؟ أو لا بد أن تكون ديانتهم غير الإسلام حتى يستحقوا أن ننظر لهم بوصفهم بشرا؟! رغم أن فكرة الانتماء الديني لاحق على فكرة الانتماء الإنساني!
لقد خاضت الكثير من دول العالم التي يعول عليها الكثير في قدرتها على وقف ما يحدث في قطاع غزة لأسباب إنسانية قبل أي شيء آخر، لقد خاضت حروبا بشعة جدا، وما زالت تستطيع استذكار فظائعها لمجرد النظر في حال الناس في غزة، فلماذا يغيب هذا الحس الإنساني؟ وإن كان ثمة حقد تاريخي لأسباب أيديولوجية، وهو حقد غريب وعجيب أفلا تنتصر الإنسانية بكل مكوناتها على كل ذلك ويتحرك العالم/ الإنسانية لوقف المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة؟
حضر قادة أوروبا وأمريكا وسبعون آخرون من قادة العالم في عام 2018 احتفالا بمناسبة مرور قرن كامل على صمت مدافع الحرب العالمية الأولى، حدث ذلك تحت ظلال قوس النصر في مدينة باريس وتعاهدوا هناك بالقرب من قبر الجندي المجهول على ألا تتكرر تلك الحرب ولا مآسيها مرة ثانية.. وإذا كانت الإنسانية واحدة ومأساة الحرب متشابهة فإن ما يحدث في قطاع غزة لا يقل بشاعة عما حدث في الحرب العالمية الأولى أو الثانية.. وفي غزة عشرات الآلاف من قبور الأطفال المجهولة التي على العالم الصامت أن يقف إلى جوارها ذات يوم ليذرف دموع الندم على صمته على امتهان الطفولة والبراءة وحقوق الإنسان.. ولعل العالم في تلك اللحظة يستطيع أن يرى أنّ في تلك القبور المجهولة الجانب الإنساني وليس الجانب الديني/ الأيديولوجي.
إن العالم الآن الذي يستطيع فعل شيء من أجل غزة التي تباد وتحاصر وتجوّع ولا يفعل يخون جوهر إنسانيته ولن يشفع له أن يجتمع ذات يوم بعد قرن أو نصف قرن ليعلن عن ندمه أو تهاونه فعندما تسقط الإنسانية لا يمكن أن تعود وتنمو ثانية.
إن الإجابة عن سؤال الإنسانية وسؤال المبادئ والقيم في غاية الأهمية في هذه اللحظة التاريخية ولا يجب أن تتشكل استجابتنا وفقا للحدود الضيقة لهوياتنا/ أيديولوجياتنا بل من خلال تعاطفنا الإنساني المشترك، واللغة العالمية للرحمة الإنسانية هي التي يجب أن تسود في نهاية المطاف.