عن العرب و«اتحادهم» مرة أخرى
أول كلمة ترددت في الولايات المتحدة الأمريكية بعد حادث محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي السابق ترامب كانت «الاتحاد»، وهي الكلمة التي تحدث عنها ترامب نفسه بعد لحظات قليلة من نجاته حيث قال مخاطبا الأمريكيين: «من المهم أكثر من أي وقت مضى أن نقف متحدين».
وحديث الاتحاد في اللحظات الصعبة ليس استثناء أمريكيا، بل هو حديث مفتاحي ومبدئي في كل اللحظات الحاسمة والمصيرية التي تمر على الأمم والشعوب التي تريد الحفاظ على استقرارها ووحدتها الوطنية وتعزيز الثقة بين المواطنين وحفظ البلاد/ الأمة من الانقسامات الداخلية وتحفز العمل الجماعي. أمّا الاستثناء أو النشاز فيكمن في العكس، حينما يتشتت صوت الأمة وتتفرق وحدتها في اللحظات التي تطلب فيها وحدتها واجتماع كلمتها.. ومع الأسف الشديد هذا ما يحدث الآن في الأمة العربية التي تواجه لحظات صعبة في أهم قضية من قضاياها ألا وهي القضية الفلسطينية. فرغم أن الحدث جلل ومصيري وهو حدث أمة لا حدث جماعة أو فصيل سياسي إلا أن صوت الأمة زاد تباعدا وفرقة أكثر مما كان عليه في أي وقت مضى. لم تستطع الأمة العربية بكل عراقتها وتاريخها ومنتجها الحضاري عبر القرون الطويلة أن توحد صوتها تجاه ما يحدث في غزة - فلسطين، بل تعددت الأصوات والتوجهات والتحالفات ولم يبق مع صوت الحق إلا قلة قليلة استطاعت أن تتجاوز المصالح الآنية والفردية وتقف مع مصالح الأمة وقضيتها الرئيسية التي ستشكل نتائجها ومساراتها الحالية مستقبل أمتنا العربية لعقود طويلة قادمة. وهذه الفرقة صارت معروفة لدى الآخر الذي يعمل على وقعها وينسج مساراته بناء على حجم التشظي الذي تنتجه.
تدرك حماس، التي على العرب وجميع الفلسطينيين أن ينظروا لها باعتبارها حركة مقاومة وطنية أو حركة تحرر وطني، أن أصوات العرب تجاهها وتجاه مقاومتها ونضالها متفرقة ومتباينة، بل إن مواقفهم من القضية الفلسطينية تغيرت كثيرا وتحول بعضها إلى النقيض، فباتت تتخندق في السر، على أقل تقدير العار، إلى جوار العدو الصهيوني وتقدم دعمها الواضح والصريح له.
هذا التشرذم وغياب الصوت العربي الواحد جعل بعض دول العالم تبني مواقفها من الحرب في غزة بناء على بعض المواقف العربية كما حدث في دول آسيوية لها ثقلها الاقتصادي إن لم يكن السياسي، الأمر الذي أفقد القضية الفلسطينية بعض داعميها التقليديين وخسرت أصواتا كان يمكن كسبها من وضوح عدالة القضية وإنسانيتها.
هذا خذلان كبير تشعر به كل فصائل المقاومة بعد أكثر من عشرة أشهر من الصمود في وجه الطغيان وفي وجه الإبادة الجماعية الممنهجة المدعومة من الآلة الغربية المتوحشة، هذا الخذلان هو الذي دفع حماس إلى التخلي عن بعض شروطها العادلة للدخول في أي مفاوضات مع العدو، وتجاوبت بروح بناءة ومسؤولة مع مبادرة وقف إطلاق النار التي طرحتها الولايات المتحدة رغم أن حركات المقاومة في العالم وعبر التاريخ لا تعترف بوقف إطلاق النار حتى تنجح في تحقيق النصر ودحر العدو وتحريك الوطن.
رغم ذلك فإن حماس وبقية حركات المقاومة ولأسباب إنسانية وافقت وتجاوبت مع المقترح الأمريكي الذي دعمته دول عربية وعالمية ودفعت نحوه كما فعلت سلطنة عمان، وهي تعرف أنه لا يخدم نضالها الوطني في هذا الوقت العصيب ولكن الأسباب الإنسانية تستدعي مثل هذا القرار الصعب في بعض الأوقات. أما دولة الاحتلال الإسرائيلي التي يفترض أنها أكثر تقبلا للمقترح الأمريكي، وبوصفها «دولة» لا حركة تحرر وطني أو حركة مقاومة، ما زالت تقف في وجه المبادرة وتعطلها كلما اقتربت من لحظتها «التاريخية» ولا هدف لها إلا مصالح سياسية فردية آنية، إضافة إلى أحقاد تاريخية مبنية على أوهام وأساطير وثقافة إجرامية وتوحش.
إن أمة مثل الأمة العربية لا يمكن أن تكون في لحظة من اللحظات في خارج التاريخ وإنْ بدت لوهلة أنها على هامشه، مطالبة في هذه اللحظة الحاسمة والمفصلية من لحظات تاريخها، أن تبلور موقفا واحدا موحدا تجاه القضية الفلسطينية، وفي الحقيقة تجاه مستقبلها ومستقبل أبنائها؛ لأن الأمة العربية والمنطقة برمتها لن تكون بخير أبدا (وهل هي بخير الآن؟!) إذا ما نجحت إسرائيل ومن ورائها الغرب في تحقيق أهدافها/هم في غزة، ولو نجحت فإن على الأمة أن تقرأ على نفسها ومستقبلها «الفاتحة» وتنظر لنفسها وهي تتدحرج بعيدا حتى عن هامش الهامش.