على المفكرين والفلاسفة انتشال العالم من الضياع!
كان العالم أكثر تفاؤلا بعد أن صمتت مدافع الحرب العالمية الثانية، ومستبشرا بأن عهدًا جديدًا من السلام والاستقرار سيشرق على العالم.. كان ذلك التفاؤل مستندًا إلى عدة عوامل وأحداث بارزة ظهرت في تلك المرحلة؛ وفي مقدمتها إنشاء هيئة الأمم المتحدة بهدف تعزيز السلام والأمن الدوليين، ومنع حدوث صراعات مستقبلية. كانت الأمم المتحدة في تلك المرحلة رمزا للأمل في نظام عالمي جديد يتم فيه حلّ النزاعات بطرق سلمية من خلال الحوار والتعاون الدولي. ووسط ذلك الأمل والتفاؤل وقع العالم على الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات تهدف إلى ضمان عدم تكرار الفظائع التي حدثت خلال الحرب. ومن أبرز تلك المعاهدات اتفاقيات جنيف وميثاق الأمم المتحدة. كانت هذه المعاهدات تهدف إلى وضع قواعد للسلوك الأخلاقي أثناء النزاعات المسلحة وحماية المدنيين.
كان المشهد مشجعا لبدء مرحلة إعمار وبناء عالمي، فأعلن العالم المنتشي بالفرحة عن خطة «مارشال»، وسعى إلى تعزيز الديمقراطية وقيمها والبحث عن اقتصادات عالمية مستدامة.. وتحركت في الكثير من دول العالم المستعمَر حركات التحرر الوطني. وصاحب كل ذلك نهضةٌ علمية وتكنولوجية لا مثيل لها.
ورغم أن التفاؤل لم يدم طويلا، إلا أن العالم أنجز في العقود التالية الكثير من الإنجازات التي تحسب للبشرية، لكن الأمر لم يستمر طويلا، فعادت الفظائع التي تنتهك كرامة الإنسان خلال الحروب، وكسرّ العالم القيم التي اعتقد أنها وصلت إلى مرحلة من الكمال. ودخل العالم دوامة جديدة غابت فيها قيم العدالة والمساواة وجيرت الأمم المتحدة ومنظماتها، بما في ذلك مجلس الأمن، لخدمة الدول العظمى ومصالحها الضيقة. أما المعاهدات والاتفاقيات فلم يعد يحفل بها إلا الضعفاء. ولذلك ليس مستغربا أن تبقي أمريكا دعمها السياسي والعسكري لإسرائيل رغم جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها في قطاع غزة للشهر التاسع على التوالي، وسط عجز تام من منظمات الأمم المتحدة.
وأمام كل هذا يُطرح في العالم اليوم سؤال مهمّ جدا: ألم يحن الوقت لمراجعة القوانين والمعاهدات التي وقعتها دول العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتكون أكثر ملاءمة مع المشهد العالمي المعاصر؟ وهل تكفي إعادة صياغة هذه المعاهدات أم أن الأمر يحتاج إلى آلية ملزمة تجعل الدول، بما في ذلك الدول العظمى، تلتزم بها؟
كانت الاتفاقيات التي وقعت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية منشغلة جدا بوضع قواعد واضحة للسلوك الأخلاقي أثناء النزاعات المسلحة، وحماية المدنيين، ومنع استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا.. كل هذا لم يعد له وجود اليوم، حتى المبادئ الإنسانية التي لا جدال فيها لم تعد حاضرة في أي سلوك دولي يصاحب الحروب، اللهم إلا إن كان في سياق توظيف تلك المعاهدات لإدانة الدول الضعيفة.
إن التقدم الهائل في التكنولوجيا العسكرية الذي أفرز الحروب الإلكترونية، والهجمات بالطائرات المسيرة، والنزاعات مع الجهات غير الحكومية يطرح تحديات كبيرة للاتفاقيات التي أبرمت بعد الحرب العالمية الثانية، فيما لو سلمنا أنها ما زالت صالحة للمرحلة.. فاتفاقية جنيف، على سبيل المثال، لا تتناول بشكل كاف التهديدات الناشئة عن الحرب الإلكترونية، ولا توفر حماية واضحة من الهجمات بالطائرات المسيرة أو الحروب السيبرانية التي أصبحت، جميعها، أدوات رئيسة في الحروب الحديثة. وكلّ هذا يتطلب إعادة النظر في كيفية تعريف الأطراف المتحاربة وكيفية معاملتها، وفقًا للقانون الدولي.
ولكن إعادة صياغة المعاهدات ليست كافية بحد ذاتها لتحقيق الأهداف المرجوة. إن العالم اليوم في أمس حاجة إلى وجود آليات ملزمة تضمن التزام الدول، بما في ذلك الدول العظمى، بالقوانين والمعاهدات؛ فالتحدي الرئيسي يكمن في تطبيق المعاهدات وضمان الامتثال لها. والتاريخ مليء بالأمثلة التي تُظهر كيف أن الدول القوية تتجاوز أو تنتهك القوانين الدولية دون عواقب تُذكر.
يبدو العالم اليوم في أمسّ الحاجة إلى تجديد قوانينه وتجديد مؤسساته فورا، وليس عليه أن ينتظر مرحلة دمار كتلك التي شهدها خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، والتي يمكن أن نقرب صورتها بمشهد قطاع غزة في الوقت الحالي.
لكن العالم الذي بدا متفائلا بعد الحرب العالمية الثانية، هو أبعد ما يكون عن التفاؤل في هذه اللحظة، ليس في العالم العربي وحده الذي قد يبدو مع الوقت أفضل حالا، ولكن في الكثير من بقاع العالم، حتى تلك التي تعتقد حكوماتها أنها في مأمن من التداعيات التي يشهدها العالم.. واليمين المتطرف والحكومات الشعبوية قادمة للسيطرة على الحكم في العالم، وهي في طريقها لتهديد الديمقراطية، وتقويض مؤسساتها، وتبني خطابات العنف وتعزيز الانقسامات الاجتماعية، وضرب الحريات، وحقوق الإنسان الحقيقية.
إن المسؤولية الأساسية اليوم ملقاة على عاتق النخب الثقافية، وبشكل خاص المفكرين والفلاسفة والأكاديميين لصياغة خطاب نقدي حقيقي للمرحلة التي يمر بها العالم.. وطرح خيارات بديلة والدفع بها للتبني من قبل المجتمعات في مختلف أنحاء العالم.