حتى لا نفقد البوصلة
كل المجتمعات وفي كل الأزمنة تواجه تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية ومعرفية وتجد هذه التحديات من يتصدى لمناقشتها من السياسيين والاقتصاديين والمفكرين والفلاسفة ومن النخب المختلفة في ذلك المجتمع حتى تتبلور رؤية حولها أقرب إلى الخلاص منها وتجاوزها. وكل ما وصلت إليه المجتمعات المتقدمة كان نتيجة لنقاشات وجدالات حقيقية تصدت لها نخب المجتمع وكان مجموع تلك التراكمات هو الإرث الحضاري الذي تنعم فيه البشرية ولا تستطيع الاستغناء عنه في طريق المستقبل.
ومن يرجع إلى تاريخ أي مجتمع من المجتمعات المتقدمة وتلك التي تملك رصيدا حضاريا يستطيع أن يقف على الجهد الذي بذلته نخب ذلك المجتمع للعبور بمجتمعاتها نحو المستقبل، ولم تتخلَ عن مجتمعاتها ولم تتبنَ خطابات العامة من الناس حتى لو واجهت في سبيل ذلك تحديات كبيرة.
إن ما يحدث اليوم في بعض المجتمعات هو أن النخب تخلت عن دورها الحقيقي وتركت نقاشات قضاياها وقضايا مجتمعها لوسائل التواصل الاجتماعي التي مع الأسف صوت التدبر والمنطق فيها خافت جدا إن لم يكن غائبا، بل إن الأخطر من ذلك أن تنجر بعض النخب وتمارس نفس دور العامة في هذه الوسائل تحت وهج «الشهرة» المؤقتة والزائفة وكأن هذه الشهرة هي الغاية الأسمى وليس بناء المجتمعات والأوطان وتجاوز التحديات وبناء الحضارات.
لقد أفرزت وسائل التواصل الاجتماعي مجموعة ممن يطلق عليهم «المشاهير» أو «المؤثرين» يمتلك أغلبهم خطابات سطحية تنطلق من أهواء شخصية ونفعية، وفي ظل غياب دور النخب وحضورها أصبحت هذه المجموعات تقوم بدور النخب بل إن المجتمعات بدأت تؤمن بها وهذه هي المرحلة الخطيرة التي توصل المجتمعات إلى حافة الجرف.
إن المجتمعات، وفي مقدمتها المجتمع العماني، في أمس الحاجة إلى حضور دور النخب وتفعيلها في مختلف مسارات الحياة، فلا تتقدم المجتمعات إلا بحضور مفكريها ومثقفيها الملتزمين بقضاياهم والمشتغلين عليها والمخلصين لها.
أما استمرار الغياب فمن شأنه صناعة فجوات ضخمة داخل المجتمعات وتخلخل في التماسك الداخلي وتسطيح المجتمعات وصناعة التفاهة التي يتحدث عنها الجميع اليوم.
المرحلة القادمة من عمر المجتمع العماني بحاجة ماسة لظهور دور النخب، كل في مجاله، وبشعور حقيقي بالمسؤولية في البناء الذي تتوارى فيه المصالح الشخصية أمام مصالح الوطن. ومع الوقت لن تبقى إلا هذه الأصوات الحقيقية و«أما الزبد فيذهب جفاء».