No Image
رأي عُمان

حتى لا تضعف مؤسساتنا الجامعية ولا نفقد ثقتنا في المستقبل

26 أكتوبر 2024
26 أكتوبر 2024

تشكل الجامعات والكليات والمراكز البحثية والأكاديمية منارات إشعاع حضاري ومحركات بناء فكري وثقافـي تدفع بمسارات التنمية الإنسانية نحو المستقبل، وتسهم فـي جعل حياتنا أكثر سهولة ويسرا أمام تحديات المعرفة وتعقيداتها.

والجامعات والمؤسسات الأكاديمية هي بيوت بناء التنمية والتقدم العلمي، ويقوم على عاتقها تشكيل الوعي وتكريسه ووضع قواعد التفكير النقدي وبناء المعايير الأخلاقية والنزاهة الأكاديمية، وهذه القيم مجتمعة تشكل أركان المصداقية والسمعة لأي مؤسسة تعليمية وواجبها أن تدافع عن هذه القيم بكل ما تملك من أدوات حتى تبقى صورتها ناصعة ومصداقيتها صلبة بعيدا عن التضعضع والتسطيح.

وبهذا المعنى، فإن الدول- فـي أي مكان- مطالبة بتنمية هذه المؤسسات وتطويرها ودعمها فـي طريق تحقيق أهدافها والقيام بأدوارها الحضارية، وحمايتها من أي تراجع أو ضعف أيا كان شكله أو مصدره. وهذا ما تقوم به الدول فـي العالم لإيمانها بدور الجامعة ومكانتها الكبيرة.

وتبدو هذه المهمة فـي العالم العربي أكثر إلحاحا فـي ظل التحولات التي يشهدها العالم العربي والتحديات التي تحيط به؛ حتى تبقى هذه المؤسسات الحصن الأخير الصامد أمام سلسلة التحولات العربية إذا كنا، حقا، نتمسك بحلم تطوير الواقع عبر معالجة جميع الإشكالات ونعمل من أجل غد أفضل من الواقع الذي نعيشه اليوم، فضعف المؤسسات الجامعية يعني ضعف وهشاشة المستقبل الذي ما زلنا نعول عليه الكثير فـي إحداث تغيير جوهري فـي الواقع العربي.

والمؤسسات الجامعية والبحثية ليست جدرانا ومكاتبَ، إنها تتجسد فـي العقول التي تعمل بها، وبشكل خاص فـي أعضاء الهيئة التدريسية والبحثية، وهم أركان المؤسسة وعمادها وسمعتهم وسلوكهم يشكل فـي مجمله سمعة وسلوك المؤسسة الجامعية/ البحثية، ولذلك من الأهمية بمكان الحفاظ على سمعتهم ونزاهتهم الأكاديمية والحفاظ على أخلاقهم المهنية لأن كل ذلك فـي مجمله يشكل جوهر المؤسسة نفسها ويعكس مستواها العلمي وسمعتها الأكاديمية وبالتالي دورها الحضاري.

والنزاهة الأخلاقية والمهنية التي نبحث عنها فـي المؤسسات الجامعية تتمثل فـي الالتزام بقيم الصدق والثقة العلمية والتربية عليها، وهذا لا يقتصر على الطلاب وإنما أولى به الكادر الأكاديمي الذين يتوقع منهم أن يكونوا قدوة، بل هم صناع هذه القيم والمدافعون عنها وعن تكريسها بين طلابهم وفـي المجتمع بشكل عام.

إن السرقات الأدبية والعلمية والانتحالات وغيرها من أشكال سوء السلوك البحثي من بين أكثر الانتهاكات خطورة وتأثيرا على النزاهة الأكاديمية، وهي مع الأسف الشديد، آخذة فـي الانتشار فـي بعض المؤسسات الأكاديمية وبشكل خاص فـي العالم العربي، الأمر الذي ينذر بخطر كبير جدا على مسارات المستقبل وعلى بناء الوعي المجتمعي.

وتتسبب حالات الانتحال بين أعضاء هيئة التدريس فـي أي مؤسسة أكاديمية، وخاصة ما يكتشف منها على الملأ، فـي تداعي الثقة بين الطلاب ووسط المجتمع الأكاديمي بشكل عام وفـي مكانة المؤسسة الجامعية فـي المجتمع العام، الأمر الذي يعقِّد سعي المؤسسة الأكاديمية لضبط الجودة فـيها ورفع تقييمها الأكاديمي بين الجامعات العالمية. وهذا الأمر يحتم على كل مؤسسة جامعية تطبيق تدابير صارمة، وفق الأسس الأكاديمية المتعارف عليها فـي هذا المجال، لمنع ومعالجة انتشار مثل هذا السلوك المرفوض بين الأكاديميين والباحثين.

ولا نريد فـي سلطنة عُمان، حيث تعمل رؤية عمان 2040 على رفع مستوى تقييم الجامعات والكليات إلى مستوى التنافسية العالمية، أن نقع فـي الفخ الذي وقعت فـيه بعض المؤسسات الجامعية فـي بعض الدول العربية إلى الدرجة التي فقدت مكانتها الأكاديمية وأثرت بالتبعية إلى تقييم غيرها من المؤسسات الأكاديمية فـي الدولة نفسها.

وإذا كانت الانتحالات وضعف المناهج البحثية فـي مقدمة التحديات التي تواجهها بعض الجامعات فـي العالم العربي فإنها ليست التحديات الوحيدة، حيث انتشرت فـي بعض الجامعات خطابات شعبوية تتنافى مع أبسط القيم التي تتطلبها الخطابات الأكاديمية المشروطة بالمهنية والتدقيق العلمي والمعرفـي إلى درجة تماهي تلك الخطابات مع فوضى وسائل التواصل الاجتماعي إلى درجة تشابهت فـي طرحها فما كاد ممكنا التفريق بينهما.

إن أهمية الخطاب الصادر من أساتذة الجامعات، سواء كانت شفوية أم على وسائل التواصل الاجتماعي، في قدرتها على التأثير فـي الرأي العام بالنظر إلى مصدرها ولها القدرة على تشكيل السياسات، والتأثير على النسيج الثقافـي للمجتمع، وعندما يتم استغلال هذه الصفة الأكاديمية بشكل خاطئ عبر دغدغة مشاعر الناس الدينية والاجتماعية والاقتصادية دون سند معرفـي أو علمي فإن هذا من شأنه أن يشوه سمعة صاحب الخطاب وكذلك يقوض سمعة المؤسسة الأكاديمية التي ينتمي لها فـي حال لم تخضعه للقواعد والمبادئ الأكاديمية الصارمة.

تحتاج جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية إلى تدقيق صارم على القيم والمبادئ الأكاديمية والمهنية لتبقى مراكز إشعاع حضاري وقيادة أخلاقية وساحات بناء الوعي العربي المتآكل فـي لحظة مصيرية بالنسبة للأمة العربية، وهذا لا يمكن أن يتحقق دون وجود مدونات سلوك مهني، بحثي وخطابي يجب الجميع على تطبيقها وعدم الخروج عنها.