«بيت العجائب» إنْ حكى أسراره
التاريخ العماني كائن ديناميكي لا ينتهي، ثري وغني بالأحداث، يولّدها في اللحظة التي يريد، يستطيع أن يفاجئ الجميع بالكثير من الحقائق عندما يفتح سجلاته أو الطرق والمسالك التي سار عبرها خلال قرون غابرة ولكنها عامرة بالأحداث والتأثير. قوة حضور هذا التاريخ تجعلك تشعر وكأن القصة قد بدأت للتو، أو أن الراوي ما زال لم ينته بعد من روايته لحدث كان قد وقع البارحة؛ ولذلك هو ممسك بكل تفاصيله، ممسك باللحظة نفسها التي وقع فيها الحدث فيحضرها بكل تفاصيلها وشخوصها.. فيما التاريخ نفسه مستمر نحو المستقبل في مسيرة سرمدية لا تتوقف أبدا.
كان هذا الشعور بقوة حضور التاريخ العماني وسطوة تأثيره وبنائه الحضاري حاضرا في أحداث الفيلم العالمي الوثائقي الذي أنتجته وزارة الإعلام الذي حمل عنوان «بيت العجائب». ورغم أن الجزء الأول من الفيلم يدور حول شخصية السيد سعيد بن سلطان فإن المخرج الألماني قد اختار «بيت العجائب» ليكون هو الراوي لتفاصيل الفيلم وقصة الإسهام الحضاري للعمانيين في زنجبار وشرق إفريقيا.
إن أهمية الفيلم تكمن في عدة نقاط، وإذا كان المتابع لا يستطيع تجاوز الإمكانيات العالية والعالمية التي أُنتج بها الفيلم من جميع النواحي وتلك جوانب فنية، فإن الأهمية الكبرى تكمن في المضمون الذي سعى جاهدا لإبراز قصة المساهمة الحضارية للعمانيين في زنجبار وفي عموم شرق إفريقيا عبر قرون طويلة في التاريخ كان ذروته خلال حكم السيد سعيد بن سلطان.
لقد قاد الازدهار الاقتصادي الذي أنتجته عبقرية العمانيين في زنجبار وشرق إفريقيا إلى نفوذ سياسي عماني واسع حول شرق إفريقيا إلى جنة من جنان الأرض، وبنى فيها ثقافة قوية ودولا شامخة بكل المعطيات قبل ظهور التدخل الاستعماري الأوروبي، الذي لا يدخل منطقة إلا فتتها ونهب خيراتها.
يعيد الكثيرُ من المؤرخين العلاقات بين عُمان وشرق إفريقيا إلى القرون الأولى للإسلام، وبالتحديد إلى القرن السابع حيث كانت البدايات الأولى للتواصل بين عُمان وشرق إفريقيا، ولكن خلال القرن التاسع عشر أصبح الوجود العماني هناك واضحا بشكل يطغى على كل شيء عداه، خاصة عندما اتخذ السيد سعيد بن سلطان زنجبار عاصمة ثانية لسلطنته المترامية الأطراف وبالتحديد في عام 1832. لم تكن تلك الخطوة الاستثنائية للسيد سعيد سياسية فقط، ولكنها كانت استراتيجية أيضا؛ حيث كانت زنجبار مركزًا لطرق التجارة التي تربط المحيط الهندي، ما جعلها منطقة لا تقدَّر بثمن لعُمان في مرحلة مجد الإمبراطورية العمانية.
وفي ذلك الزمن العماني الجميل شهدت زنجبار وساحل شرق إفريقيا أكبر ازدهار اقتصادي في تاريخها على الإطلاق، حيث كانت زراعة وتجارة القرنفل والعاج مربحة بصورة كبيرة، وأدخل العمانيون طرق ريّ جديدة ومزروعات جديدة تحولت لاحقا إلى سبب في ثراء زنجبار كلها.
ولم تكن زنجبار هي المنطقة الوحيدة التي شهدت ازدهارا اقتصاديا في ظل الحكم العماني بل سرى الأمر على البر كله وساعد النفوذ العماني في تطوير شبكات التجارة الممتدة إلى الداخل الإفريقي.
ويمكن أن يُفهم ذلك الازدهار ليس فقط من الإدارة العمانية الفعّالة وتعزيز التجارة وطرقها.. ولكن أيضا من استقرار الدولة والعدل الذي كان يسود تحت ظلها.
إن حكاية الوجود العماني في زنجبار وشرق إفريقيا تاريخ قادر على أن يكون ملهما للجميع ويملك سبل أن يبقى حيا وخالدا أبدا.. وما زال الكثير من فصوله قادرا على أن يلهم كتّاب التاريخ وصنّاع السينما وصنّاع السياحة، إنه ببساطة حضارة متكاملة صنعها العمانيون بوهج وتألق.. وإذا كان بيت العجائب قد بدأ السرد في الفصل الأول من الفيلم فإن هناك فصولا كثيرة قابلة لأنْ تكون أكثر إثارة في المرحلة القادمة، وما زال هناك الكثير من الشواهد التي يمكن أن تحكي تفاصيل أكبر من موقعها كشاهد على التاريخ.
وإذا كان الفيلم قد أبهر الحضور خلال عرضه الأول فمن الحق أن توجَّه التحية لوزارة الإعلام التي بذلت كل طاقاتها على مدى المرحلة الماضية من أجل أن توثّق جزءا مهما من التاريخ العماني وتسهم في تعظيمه وإبرازه عبر فيلم خرج من محليته ليتحوَّل إلى فيلم عالمي قادر على المنافسة في كل مكان يُعرض فيه.