التاريخ صراع.. فهل يكون المستقبل تسامحا؟!
في كل عام تحتفي فيه البشرية باليوم العالمي للتسامح تتصور أن ذلك العام هو الفترة الأسوأ في تاريخ البشرية؛ نظرا لما يدور فيها من صراعات وحروب وتدهور في العلاقات الثنائية والجماعية بين الدول، وتنامي خطابات الكراهية وبروز الجماعات الإرهابية وتفاوت المستويات بين طبقات المجتمع وتوسع مساحات الطبقة الفقيرة. وهذا يعني منطقيا أن الصراع في العالم في تزايد مستمر رغم كل التقدم التكنولوجي الذي شهدته البشرية خلال العقود الماضية، وخطابات التعايش والسلام التي تتبناها النظم السياسية في الدول، والمنظمات العالمية التي تضع شعار التسامح هدفا من أهدافها السامية. وإذا كان التاريخ منذ نشأته هو تاريخ للصراع البشري، سواء كان ذلك الصراع بين القوميات في مرحلة من المراحل أو بين الأيديولوجيات في مرحلة لاحقة أو حتى صراع حضاري كما نظّر له صامويل هنتجتون في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد تجاوز العالم للحرب الباردة، إلا أن العالم في مرحلته المزدهرة الحالية بالتكنولوجيا وبالتقدم العلمي والفكري، يُفترض، أنه قد وعى تماما خطر نتائج تلك الصراعات على حياته ومعيشته اليومية وعلى التاريخ البشري.. وليس أوضح للأجيال الحالية التي أدركت النصف الأول من القرن الماضي من دروس الحربين العالميتين: الأولى والثانية، والحرب الباردة وما تلاها من حروب «تحت ذريعة الحضارة» كما أسماها الكاتب البريطاني روبرت فيسك والتي شملت أفغانستان والعراق وامتدت لاحقا لتشمل دولا عربية أخرى وإنْ بآليات جديدة نبعت من الداخل هذه المرة. واليوم يعيش العالم تداعيات الصراع بين روسيا وأوكرانيا وهو صراع وإنْ كانت تمظهراته حديثة وآنية إلا أن جذوره تاريخية وثقافية. كل هذه الدروس لا بدّ أنها صنعت وعيا في العقل العالمي يستطيع تأمل الدروس وفهمها. وإذا كان الوعي العالمي ووعي النظم السياسية فيه لم يستفق بعد من كل الصدامات والصراعات التي أخرت الكثير من التقدم البشري وراكمت الكثير من الشقاء البشري فإن كل ما فيه اليوم قابل ليكون الصدمة التي تقرع جرس الإنذار الأخير ليصحو العالم وتصحو نظمه السياسية ومنظماته ومؤسساته ويتحول التاريخ من تاريخ للصراع البشري إلى تاريخ للسلام البشري والتواصل والوئام، ويعمل الجميع من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة في العالم. صحيح أن فكرة الجرس الأخير كانت قابلة أن تقال على كل أحداث العالم منذ مائة عام تقريبا، ولكن التراكم التاريخي يبررها اليوم وكذلك تداعيات الأحداث وتطور الوعي البشري.
وهناك تجارب عالمية جديرة بالتأمل وجديرة بأن تتحول إلى نموذج تبنى عليه مسارات إقليمية في البدء ثم قارية ثم عالمية، مثل التجربة العمانية في صناعة ثقافة التسامح والتعايش وتحولها إلى رؤية من رؤى السياسة العليا في الدولة، وكذلك إلى هدف من أهداف رؤيتها التنموية التي تنص في «رؤية عمان 2040» للوصول إلى «المجتمع الرائد عالميا في التفاهم والتعايش والسلام» وقلما تضع دولة من الدول مثل هذه الأهداف في خططها التنموية. ومن حضر أمس احتفال سلطنة عمان باليوم العالمي للتسامح وما طرح فيه من رؤى وأفكار ومسارات يستطيع معرفة التجربة العمانية عن قرب.
إن الصدام الحضاري ليس صداما حتميا إذا ما أرادت النظم السياسية خيار السلام وخيار التفاهم والتسامح وعملت على ذلك وصنعت له الأرضية، وأول تلك الصناعة تبدأ في نبذ التمييز على أساس العرق والدين والقومية، ونبذ التعصب، والإرهاب وعدم تمويله بدواعي السياسة وانتقاماتها، ونشر العدل والمساواة وإنهاء احتلال الدول وقهر الشعوب. العالم في أمسّ الحاجة اليوم إلى التقارب، وإن لم يكن ذلك التقارب تحت غطاء الدين، فتحت غطاء الأخلاق والقيم الإنسانية والخوف من جحيم الحرب ومآلاتها.