«يوم قتل الزعيم» رواية سياسية من طراز رفيع
- 1 -
من بين تراث وأعمال نجيب محفوظ الرائعة؛ ثمة روايات على شهرتها وترداد عناوينها لم تحظ بإضاءاتٍ نقدية كاشفة مقارنة بأعماله في المرحلتين الواقعية والرمزية الفلسفية، على سبيل المثال، وحتى رواياته الأولى المصنفة في دائرة الرواية التاريخية لربما تكون حظيت بشهرة أكثر بكثير من رواياته الأخيرة في عقد الثمانينيات.
فمثلًا؛ روايته الحداثية المذهلة «أفراح القبة» لم تحظ بالشهرة ولا القراءة التي حظيت بها منذ سنوات قليلة إلا بعد أن تحولت إلى دراما تليفزيونية ناجحة نالت مشاهدات غير مسبوقة في الموسم الرمضاني 2016. وروايته المذهلة «حديث الصباح والمساء» لم تكن أبدًا لتنال ما نالته من شهرة تخطت الحدود والحواجز إلا بعد أن صارت على يدي السيناريست العبقري الراحل محسن زايد إلى مسلسل صار هو بذاته أيقونة لا تتكرر في تاريخ الدراما المصرية والعربية؛ أقصد المسلسل الذي أنتج عام 2000، حمل عنوان الرواية ذاتها.
- 2 -
ومن بين أعمالٍ قليلة للغاية لنجيب محفوظ، ربما تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة، لم تتحول بعدُ إلى أي عمل فني درامي؛ سينمائي أو تليفزيوني أو مسرحي أو إذاعي.. إلخ، تبزغ رائعته القصيرة المكيرة «يوم قتل الزعيم» لتمثل أنموذجًا رفيعًا في الرواية السياسية التي تقدم هجائية عنيفة وغير مسبوقة لمرحلة تاريخية كاملة، كانت بدرجةٍ ما عاصفة وملتبسة وعلى صفيح ساخن ليس فقط في تاريخ مصر والعالم العربي بل في العالم كله؛ وهي حقبة السبعينيات التي كان مطلعها إيذانها بغروب شمس عبد الناصر وإسدال الستار على الحلم القومي والعربي الذي جسده طوال عقدين تألقت فيهما زعامته وكاريزمته كما لم يحدث لزعيم قبله.
وهي أيضا المرحلة التي اختتمت بفجيعة ومأساة لم تشهدها مصر ولا عالمنا العربي كله، حينما اغتالت جماعات ما تسمى بـ (الدينية الإسلاموية) الرئيس الراحل أنور السادات يوم الاحتفال بنصر أكتوبر ووسط القادة والجنود في مفارقة تاريخية ما زالت تحمل أساها وسخريتها حتى اللحظة. هذا الزعيم الذي تصفه الرواية بأنه "المنتصر المعجباني" الذي شذ عن القاعدة، فتحدانا بنصره، "وألقى في قلوبنا أحاسيس وعواطف جديدة لم نتهيأ لها، وطالبنا بتغيير النغمة التي ألفناها جيلًا بعد جيل، فاستحق منا اللعنة والحقد، ثم غالى بالنصر لنفسه تاركا لنا بانفتاحه الفقر والفساد، هذه هي العقدة"!
في هذا السياق تأتي رواية «يوم قتل الزعيم»؛ واحدة من روايات نجيب محفوظ التي كلما أعاد المرء قراءتها وجد فيها جديدًا رغم أن عدد صفحاتها لم يتجاوز المائة! صدرت الرواية عام 1985 أي بعد مقتل السادات بأربع سنوات فقط؛ كانت سخريته مرة وعميقة من الزعيم الذي كان "زيه زي هتلر وفعله فعل شبلن"!
قدمت الرواية واحدة من أعنف الرؤى الهجائية الانتقادية لعصر السادات وسوءات سياسات الانفتاح الاقتصادي التي أفقرت مصر والمصريين لعقودٍ دفع ثمنها غاليا! كانت عملًا مكثفًا للغاية، ومعبرًا عن أزمة جيل بأكمله، وما فعله زمن الانفتاح بالأخلاق وبالبشر والنفوس، وهو يسرد قصته التي تنتهي بقتل السادات من خلال ثلاثة أجيال؛ جيل الجد، وجيل حفيده وخطيبته، وجيل آبائهما.
تشخص الرواية الأزمة بكل عوارضها في هذه الأسطر المذهلة "انفجر أخيرًا الغلاء. أرى النيل والأشجار. النيل نفسه تغير وكأنه مثلي يكابد وحدة وشيخوخة. لبسته حال واحدة، فقد مجده وأطواره، لم يعد في مقدوره الغضب. ما أكثر السيارات! ما أكثر الثروات! ما أشد الفقر! ما أكثر الأحباب الراحلين! أي سرعة جنونية في هذا الزحام الذي لم تعرف له الأشجار مثيلًا منذ غرست في عصر إسماعيل!".
- 3 -
«في يوم قتل الزعيم» نتابع حكاية عائلة مصرية من الطبقة الوسطى التي أخذت في التآكل منذ بدايات الزمن الساداتي، كأنها أولى ضحاياه التي ستنتج قاتليه على نحو من الأنحاء. كما مثلت جريمة اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات "المركز" الذي تعكسه مرايا الأبطال من زواياه المتعددة، وبأصواتها ورؤاها المتباينة؛ لدينا ثلاثة أصوات تنتمي لثلاثة أجيالٍ مصرية؛ أقدمها وأحكمها جيل الجد (محتشمي زايد) الذي رأيتُ فيه معادلًا موضوعيا لمحفوظ نفسه وجيله؛ جيل "الحنين الحضاري" بحسب تسمية الناقد الراحل ناجي نجيب؛ وهم جيل الكتاب والمثقفين الذين اكتمل تكوينهم في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
ولطالما خايلتني هذه الشخصية التي حملت من محفوظ الكثير وهو في سن الشيخوخة والحكمة (كان نجيب محفوظ قد تجاوز السبعين وقت كتابته للرواية)؛ حبه للحياة وملذاتها، احترامه للعقل ونزواته، إيمانه بالله والرضا بقضائه، وتسليمه بانتظار الموت! "أحب الحياة وأرحب بالموت في حينه".
يقول محفوظ على لسان محتشمي زايد: "الحياة فصول ولكل فصل مذاقه، وطوبى لمن أحب الدنيا بما هي دنيا الله. شارفتُ الثمانين وما وسعني أن أعرض عن الدنيا. هي دنيا الله وهبته الخاطفة لنا فكيف أعرض عنها؟ أحبها ولكن حب الحر التقي العابد فلمَ تضن عليّ بالولاية؟".. ورأيتُ في الجد (محتشمي زايد) باسمه الغريب، امتدادًا على نحو ما لشخصية عامر وجدي، أحد الأصوات الساردة في رواية محفوظ الشهيرة «ميرامار»، ينتمي كل من عامر وجدي ومحتشمي زايد إلى جيل لديه رؤية ثاقبة، وقدرة على التحليل، ولكنه غير قادر على التغيير، وغير قادر على منع فشل جيل الأحفاد، بعد أن أصبحت المادة تحكم كل شيء، وكان أقصى ما يتمناه الجد في «يوم قتل الزعيم» هو أن يموت فتخلو شقته، من أجل أن يتزوج فيها حفيده.
وما بين جيل الجدّ والحفيد، يقع جيل آباء الأحفاد الذين لا يلعبون دوراً مؤثراً في الأحداث، بل يكتفون بدور الشاهد أو المعلق كما يتجلى ذلك في صوت الابن "فواز" (وزوجته أيضًا ومعهما سليمان المبارك وزوجته والدا رندة) وهو ممثل الجيل المسحوق الذي رقص على السلم، فلا منه توسط مكانًا في طبقةٍ اجتماعية حقيقية انتمى لها والده ذات يوم، وصار "أفنديا" مكتمل الأفندية، ولا منه نال اعترافًا كاملًا بالفقر والانسحاق والدونية التي ترفع عنه الحرج وتزيل عنه ما تبقى من حياء يمنعه من التسول أو بيع الضمير والانخراط في الفساد والتربح. ثم يأتي صوت الجيل الثالث والأخير جيل الشباب الغاضب الثائر الذي يمثله كل من الحبيبين "علوان محتشمي زايد" و"رندة سليمان المبارك" وهما الثنائي الذي سيظهر مرة أخرى بتنويعة جديدة في ثنائية في «الحب فوق هضبة الهرم».
- 4 -
ورغم صغر حجمها وقلة عدد صفحاتها فإنها مثلت أيضا نموذجا لرواية تعدد الأصوات؛ فبنية الرواية تعتمد على الأصوات المتعاقبة لكل من الجد "محتشمي زايد"، والحفيد "علوان"، والخطيبة "رندة" الذين يتحدث كل منهم أكثر من مرة، ولكن عدد المرات الأكبر للجد الذي تبدأ به الرواية وتنتهي، الأمر الذي يذكّرنا بالدور الذي أدّاه صوت عامر وجدي في «ميرامار» (1967). فكلاهما مؤمن، لا يكف عن الاستشهاد بالآيات القرآنية الكريمة التي تبدو تعقيبًا على الأحداث والمواقف، وإرهاصًا بها في الوقت نفسه. وكلاهما يؤدي دور الشاهد على الأحداث، تاركًا للأجيال الأحدث حق الاختيار وحرية الحركة، فالزمن زمنهم، وحلول مشاكلهم لا بد من أن تنبع منهم.
وكلاهما يلوذ بالماضي، خلال الذاكرة التي تبدو واحة العقل المشتهاة وجحيمه، خصوصاً عند مقارنة زمن الماضي الجميل بزمن الحاضر القبيح الذي يسارع إلى الظلمة، مذكرًا بالموت الذي سيأتي عنيفًا، ردًّا على أفعال العنف المتراكمة. وتنطق الأصوات للأبطال الثلاثة (الجد، الحفيد، الخطيبة) على نحوٍ مباشر، يرينا الحدث الرئيسي من مناظير مختلفة، أو زوايا متعددة لمجرى الأحداث ونهايتها، ابتداء من شروط البداية وانتهاء بحتمية النهاية، فنحن إزاء رواية أصوات متعددة، هي مرايا متجاورة تحيط بمركز تعكسه كل مرآة من زاويتها. وستظل «يوم قتل الزعيم»، فيما أرى، رواية سياسية مدهشة تبرع في مقاربة الواقع وتحليله وكشف طبقاته العميقة الملتبسة من الاضطراب والتضارب وتعرية الفساد ومقاومته دون أن تتخلى عن سحر الفن وجماله وعبقريته أيضًا.