هل توقفت القراءات المسرحية لنصوص أسلافنا؟
هناك شيء يدعو للحيرة واللبس ويثير الأسئلة المتناسلة لتوليد سؤال إشكالي مفاده: لماذا اليوم لا تعيد مسارحنا إنتاج (الريبيرتوار) والذخيرة العريضة من النصوص العراقية السالفة التي كتبها كتاب ومؤلفون أمثال: عادل كاظم، صباح عطوان، عبد الجبار ولي، يوسف العاني، قاسم محمد، نور الدين فارس، محي الدين زنكنة، يوسف الصائغ، فلاح شاكر وغيرهم من كتاب عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات؟
ومن العجيب اليوم، بعد كل ذلك التاريخ المجيد، أن نمتلك مسرحًا بلا نصوص درامية، فيما يمكن القول بشيء من الاحتياط والحذر إن لدينا نصوصًا بلا مسرح. إذ تتراجع، لسبب نجهله، أفضل الأعمال المسرحية العراقية والعربية إلى الظل بعد فترة وجيزة من عرضها، وتختفي مع انطفاء الأضواء في قاعة المسرح. وإذا كانت ثمة عودة أو قراءة لهذه النصوص، فيمكن الجزم أنها تتم فقط إما من قبل مسرحي مختص أو باحث معني بتسجيل الاتجاهات والتيارات وكتابة التاريخ، ولا تُعرض إلا نادرًا.
يبدو، حسب تفسيرنا، أن هذه النصوص كانت نصوصًا "لحظوية"، بنت ساعتها وولدت نتيجة لظروف خاصة ناتجة عن صراعات وأزمات أيديولوجية حادة في المجتمع والسياسة العراقية آنذاك. ومعنى ذلك أن تلك النصوص (الدرامية) تكشف عن شيء أساسي فيها وهو انعدام قيمتها الدرامية. فهي، كما يقول الباحث الدكتور ضياء خضير: "لا تحوي عمقًا في التفكير، ولا سعة في الخيال، ولا شمولًا في التصور، ولا عنفًا في المشاعر، ولا ثراءً في اللغة القابلة للتجسيد والفعل".
وحتى ذلك النزر اليسير من المدونات الدرامية المحلية التي لا نملك أن نتعامل معها إلا بحب يرتبط بمعرفتنا بموقعها النسبي والظرف التاريخي الخاص الذي كُتبت فيه، يبدو عاجزًا أو فقيرًا إذا ما تُرك له أن يقدم نفسه عاريًا مجردًا من كل ما ليس له علاقة بحقيقة النص الدرامي الجيد، أي ما يحيط بالإخراج والأداء التمثيلي والقراءة الدراماتورجية المعاصرة والتقنيات. إذ إن تلك النصوص ظهرت أهميتها نتيجة القراءات والرؤى الإخراجية لها، ولم تترك صدى أدبيًا جمعيًا في لحظة كتابتها ونشرها إلا بعد أن تحولت إلى ممارسة (تمسرحية) فعلية على الخشبة.
فولادة هذه النصوص الدرامية جاءت على يد فواعل مخرجيها. فالعلاقة التواصلية والتثاقفية الحادة بين المخرج إبراهيم جلال وسعة اطلاعه على الاتجاهات والتيارات المسرحية الغربية هي التي أثرت مبكرًا في طبيعة أسلوب كتابة المؤلف عادل كاظم وحتى توجيه بوصلته نحو الكتابة في مضان المسرح الملحمي البريشتي. بحيث استطاع كاظم أن يجترح له طريقًا خاصًا في الكتابة بدخول الراوي والتقطيع المونتاجي للمشاهد وإثراء التناقض الطبقي الحاد بين الشخصيات في نصوص (الطوفان) و(الموت والقضية) و(مقامات أبي الورد) و(المتنبي) و(دائرة الفحم البغدادية). وأكثر هذه المسرحيات موجهة لمعالجة الواقع في ضوء موضوعات تاريخية وأسطورية، وهي ذات أغراض سياسية وأيديولوجية واضحة بنت لحظتها، إذ أنها تستبطن مشكلات وعلل اجتماعية وسياسية آنية، على الرغم من بعدها الأسطوري والتاريخي.
إذ عملت تقنية الإسقاط فواعل عديدة في توصيل المضامين الدرامية للمتلقي بفعل تأويلي مستمر لا ينقطع عن الحوادث الحاضرة، فأوقفت السلطة مسرحية (دائرة الفحم البغدادية) عن العرض بسبب تأويلها الشوفيني للمسرحية بأنها -كما يزعمون- إحياء لدولة إسرائيل المزعومة، فالأرض لمن يزرعها لا لمن يملكها. إضافة لعمليات التحويل المستمرة للأثر الأجنبي وتعريقه بما يتناسب ويقترب من الحس الشعبي اليومي.
وكذلك العلاقة المتآزرة بين المؤلف الراحل طه سالم والمخرج محسن العزاوي، ففعل الكتابة الحداثي لدى سالم في مسرحيتي (طنطل) و(فوانيس) وُلد لديه بسبب تأثير مباشر من المخرج العزاوي القادم توًا من بعثته في جيكوسلوفاكيا المشغولة بتطوير تقنيات السينوغرافيا على الخشبة وتلاوين من المسرح الأسود. والتجارب الثنائية والمشتركة عديدة في هذا الصدد، كثنائية الشاعر يوسف الصائغ والمخرج قاسم محمد في مسرحيتي (الباب) و(العودة).
وهنا تتمظهر صلادة نص الصائغ الذي جاء عصيًا على القراءة الدراماتورجية الجديدة لقاسم محمد إن وُجدت، ومن حيث المضمون اجترح النص تفاعلًا ذاتيًا مع سيرة الشاعر بمخاضاتها وتمزقاتها الباطنية وتحولاتها الأيديولوجية من مسار إلى آخر. إذن، جاءت نصوص الصائغ بنت مرحلتها أيضًا ولم تجترح نسقًا جماليًا إنسانيًا مشتركًا.
وكذلك فواعل المؤلف فلاح شاكر في نص (قصة حب معاصرة)، والتي جاءت ثيمتها المركزية باحثة في محاولات الزوج والزوجة البقاء والمكوث والصمود في الوطن بعد مآسي حرب الخليج الأولى واندحار الوطن والمواطن فيها. ومن المفارقات أن يغادر مؤلف النص وممثلاه (جواد الشكرجي وسهير إياد) أرض الوطن نهائيًا دون رجعة، بعكس دعواهم المسرحية لقيم الثبات فيه. وفي نص (مئة عام من المحبة) وعودة الجندي الأسير إلى وطنه ومهجعه وتنكر زوجته له دون أن تتعرف عليه رغم كشفه لعلامات مضمرة في جسدها، وهنا يتجلى مثال آخر لكون الدراما حاولت تقصي الوقائع الآنية آنذاك.
فهل بادر مخرجو اليوم من الشباب لإخراج هذه النصوص الآنفة على أهميتها الدرامية والشعرية؟ هذا السؤال يجعلنا ننفتح على سؤال آخر: هل افتقرت هذه النصوص للروح العالمية (الشمولية) ولواعج إنسانها الأممي أم بقيت أسيرة الهم المحلي والتورط فيه؟ تلك المشكلات والعلل والهموم الاجتماعية البنيوية والعضوية الخطيرة التي انعكست في ثنايا ومضامين تلك النصوص أُخرجت على الخشبة بلغة متعالية، كأنها تُتلى من على منصة خطابة في استهلاك للإيهام والتخدير العاطفي بأعلى مستوياته لدى المتلقي الذي ظل رازحًا تحت تأثير العاطفة لا العقل في مشاهدته لهذه العروض. وتلاشى التأثير التغريبي (العقلي) شيئًا فشيئًا بعد أن سادت تلاوين من مغازلة المتلقي شعريًا بعبارات وجمل فضفاضة فارغة وحوارات كان الغرض منها تخليد لـ(شعرية) الكاتب لا تخليد لأثره التنويري في الخطاب المقدم.
وحتى الراحل قاسم محمد لم تتم إعادة إنتاج نصوصه الدرامية التي ناهزت الأربعين نصًا إلا نصي (الحريق) و(مكاشفات) بشواغل المخرجين محسن العزاوي وغانم حميد، لخصوصية أغلب نصوصه وارتباطها بالدعوة لإعادة إنتاج التراث العربي الإسلامي وإعادة النبش في الجذور التراثية لاكتشاف سمات وخصائص مسرحية ودرامية فيها. هذه الدعوة جاءت بتأثير من كتابات يوسف إدريس في مصر من خلال الانفتاح على (مسرح السامر) وكتابات توفيق الحكيم في (قالبنا المسرحي) ومشاهدات قاسم محمد الخاصة لعروض المخرج المغربي الطيب الصديقي وآثار عز الدين المدني.
وخصوصًا عرض (مقامات الهمذاني) للصديقي، والذي عمل على غراره عرض (بغداد الأزل بين الجد والهزل) عن مدونات (الجاحظ). ولم تكن ولادة هذه النصوص ولادة طبيعية ناتجة عن الحاجة الفعلية للمجتمع وصيرورته الثقافية، إنما جاءت كانعكاس لرؤى أيديولوجية في تأصيل الخطاب القومي العربي.
* د. سعد عزيز عبد الصاحب باحث مسرحي عراقي