هل تنفصل الشخصيات الروائية من حياة مؤلفيها أم تطاردهم باستمرار؟!
سميحة خريس: هناك علاقة شائكة بين الكاتب والمكتوب ونحن نستغل الشخصية لنبش دواخلنا الخفية
زياد عبدالله: لا يمكن أن أطرد شخصيات رواية أنجزتها إلا برواية جديدة
محمود عبدالغني: الشخصيات الروائية مخلوقات ثائرة وعنيدة لذلك فهي تسكن رأس الروائي
ليلى عبدالله: أفضل أن أتحرر كليا من عملي السابق كي أكون مستعدة نفسيا للاحق
محمود الرحبي: الفضاء هو أكثر ما يظل باقيا عندي أما الشخصيات فبعضها فقط يبقى
محمد بركة: روح أم كلثوم أصبحت تحدد مزاجي العام لعدة شهور
*****************************************************
في عالم الكتابة بشكل عام والرواية بشكل خاص، تتجاوز الشخصيات الروائية حدود الصفحات لتصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة مؤلفيها. يقول الكاتب والصحفي الإسباني مانويل فاسكيث مونتالبان: "نحن عبيد شخصياتنا".. فسألنا مجموعة من الكتاب العمانيين والعرب حول الكيفية التي يطردون بها شخصيات رواياتهم بعد الانتهاء من كتاب ما، هل تسكنهم وتحوم حولهم باستمرار حتى يحين العمل على كتاب آخر جديد؟ هل ثمة شخصية من إحدى رواياتهم ظلت ترافقهم حتى عند كتابة رواية جديدة؟!
يسعى هذا الاستطلاع إلى استكشاف تجارب الروائيين والروائيات العرب في التعامل مع شخصياتهم بعد الانتهاء من الكتابة. وكيف يطردون هذه الشخصيات من عقولهم؟ وهل يظل تأثيرها ملازما لهم، كأشباح تحوم حولهم وترافقهم في حياتهم اليومية؟ من خلال آرائهم، سنتعرف على الروابط النفسية والعاطفية التي تربط الكتاب بشخصياتهم، ومدى استمرار تلك الروابط بعد طباعة الكلمة الأخيرة.
********************************************************
العلاقة الشائكة
توافق الروائية الأرنية سميحة خريس على "كوننا كروائيين عبيد لشخصياتنا"، وتقول: "هناك علاقة شائكة بين الكاتب والمكتوب، نحن نستغل الشخصية لنبش دواخلنا الخفية، كذلك تقاومنا الشخصية لتسيير مصيرها الخاص، يحدث هذا عند الكتابة، ونعيش مع شخوصنا في مغامرة مدهشة تبدو أقرب إلى الواقع من علاقاتنا الأخرى على أرض الواقع، تأكل الشخصية معنا وتشرب، تحرك وجداننا وتتحكم برغباتنا، حتى ليشعر أحباءنا بالغيرة من وجودها في حياتنا، تتلبسنا مثل قرين لا نسعى إلى الفكاك منه، في تقديري هذا الحال يكون مستعرا عند الكتابة، ولي تجربة في تتبع تلك المواجهة المشتعلة بين الحرف وكاتبه في روايتي خشخاش، لكن بالنسبة لي، بمجرد أن أنتهي من العمل الروائي، أحط عن كتفي كل هذا الحمل الثقيل، أنتهي منه بنقطة آخر السطر، وتولد في أعماقي شخصية جديدة تتشكل على مهلها وتتقدم بذكاء لاحتلال عقلي وقلبي. هكذا أذهب إلى عملي القادم، ولا يربطني بالنص الأول إلا ذلك الاحتفاء الإعلامي والنقدي وما يرجع إلى من ردود فعل القراء". وأضافت: "أحيانا أرتطم بالشخصية وقد ظننت أني تخلصت منها حين أصادف في الحياة من يطابقها أو يشابهها، وقد تعاودني بصورة غرائبية كما حدث مع شخصية "يحيى" الذي صدمني بأني كنت أوقع الرواية التي تحمل اسمه في نفس البقعة التي عاش فيها قبل سبعمائة عام، فإذا بي أفاجأ أن ذلك اليوم يحمل تاريخ إعدامه في الماضي. يحدث هذا أحيانا، ولكن في الغالب أتخلص من هؤلاء الذين ظننت أنهم حياتي لفترة فإذا بهم حياة الرواية، قد ترافقني بعض الشخصيات لأن لها مساهمة عابرة في العمل الجديد، خاصة عندما أكتب رواية أجيال، مثل شجرة الفهود بجزئيها، أو بابنوس وفستق عبيد، ولكن التسيد في الواقع يكون للشخصيات الجديدة التي تحتلني طاردة ما تم إنجاز مقولته والتعبير عنه. وهكذا أدخل في دوامة سيطرة شخوص جديدة أقع في غرامها وأكرهها وأعيد صياغتها، وتعيد صياغتي وتعلمني الكثير عن نفسي وأنا أكتبها، وفي زاوية بعيدة في أعماقي تقبع سخرية تقول لي: هذا كله وهم ستنتهين منه حين تضعين النقطة الأخيرة في النص".
الجانب القاسي
لا يمكن للروائي السوري زياد عبدالله أن يطرد شخصيات رواية أنجزها إلا براوية جديدة، ويقول: "إن آمنت جدلاً كروائي بأنني عبد لشخصياتي، فهذا يعني أن عبوديتي ماثلة في حرية الشخصيات، وكلما تماهيت معها زادت حريتها، وتنامت عوالمها، وفرضت فعلها ورد فعلها، طباعها وخصالها، وفقاً لتكوينها ونشأتها، وصولاً إلى تبدلاتها ومصائرها، وهذا مفصلي وحاسم في بناء الشخصية، لا بل في عملية التأليف الروائي ككل، فأنا أؤمن أن التأليف عملية حرة ومنضبطة في آن معاً، متى ما تناغم الشكل مع القصة، بمعنى التوصل إلى كيفية سرد الحكاية، يمسي الكاتب مُطارِداً صيّاداً لما يسرده، تمضي أمامه الأحداث والشخصيات وهو يلاحقها، وبهذا تكون عملية التأليف إبداعية بحق، مليئة بالاكتشافات والمنعطفات والمفاجآت، وبغير ذلك، أي أن يكون المؤلف متخطياً لها وهي تلاحقه، تمسي باهتة مفتعلة، أقرب إلى النخاسة والعبودية معاً، فهنا الكاتب نخّاس للشخصيات من جهة، وعبد للوصفات الجاهزة والحلول المعدّة سلفاً من جهة أخرى".
ويضيف: "لا يمكن أن أطرد شخصيات رواية أنجزتها إلا برواية جديدة، والمضي قدماً بهذه الأخيرة هو الدليل الوحيد على أن شخصيات الراوية السابقة قد فارقتني، وهذا ما أعتبره على الدوام الجانب القاسي في التأليف الروائي، فالاستمرارية تتطلب قسوة ما، قدرة على تناسي شخصيات وعوالم ومصائر عايشتها لسنوات، والمضي إلى غيرها، على شيء من الحياة ربما! وكل ما نعيشه يتحول في النهاية إلى ذكرى وماضي، فإن رضينا بالماضي بقينا فيه. وهذا يقودني للقول إن الانتقالات لدي حادة – لئلا أقول قاسية – من عمل إلى آخر، راديكالية على صعيد الشكل، وصولاً إلى البيئة والعوالم والأسلوب، فروايتي الأولى "بر دبي" تدور أحداثها في دبي وجميع شخصياتها قادمة أو "وافدة" على المكان، ماضيها منفصل عن حاضرها، بينما تدور أحداث روايتي الثانية "ديناميت" في مدينة اللاذقية السورية، وجميع الشخصيات راسخة في المكان ماضياً وحاضراً، فلا مجال إذن لأن تتسرب أي شخصية من الأولى إلى الثانية، كما أن الشكل والأسلوب مختلف تماماً بينهما، تحت إملاءات طبيعة المكان والبيئة والتاريخ، الأولى مصاغة على هدي الطرقات السريعة والأبراج الزجاجية ومطحنة العمل، بينما تكون الحارات والأزقة فضاء الثانية في سياق أحداث مفصلية في تاريخ سورية المعاصر".
"تخلق نفسها"
وصف الشاعر والكاتب والمترجم المغربي الدكتور محمود عبدالغني الشخصيات الروائية، منذ فجر جنس الرواية والحكايات، بالكائنات الغامضة، وقال عنها: "لا تنتمي إلى عالمنا رغم أنها تحمل أسماءه صفاته وملامحه وأفعاله. إنها غريبة حقا بشكل متطرف. تهزمنا في كل كلمة وجملة. لذلك فالروائي يتبعها مثلما يتبع عبد سيده. في بداية كتابة العمل الروائي نظن أننا إله يخلق هذه الكائنات الصغيرة، فتصير تحت يده وسلطته كائنات مطيعة، تسير في الدروب التي كتب عليها الإله السير عليها. لكنها سرعان ما تتمرد، وتسلك دروبا أخرى، غير موجودة أحيانا على الخارطة. الشخصيات الروائية مخلوقات ثائرة، منتحرة، عدوانية وعنيدة. لذلك فهي تسكن رأس الروائي، وتجعل منه حيزا للعب واللهو والثورة. كم تمنيت أن أربط شخصيات روايتي بخيط رفيع وقوي. لكنها تنقلب علي وتسبرني بخيوطها الرفيعة. بل إنها تملي علي ما ينبغي كتابته أو فعله. كل شيء فيها غرائبي. لم يحدث في أي من رواياتي أن سيرت شخصياتي وجعلتها على الصورة التي أردت، فهي تخلق نفسها كما تخلق أوصافها وأفعالها".
الأصوات الحية
ترد الكاتبة والروائية العمانية ليلى عبدالله بقولها: "أعتقد يا مانويل فاسكيت نحن عبيد ما نحبه حقا! وقع اختياري في الحياة على أكثر المهن والمواهب مشقّة، ظلت وما تزال تستنزف عقلي ومشاعري: التدريس والكتابة! ويبدو أن موهبة الكتابة غلبت مهنة التدريس -التي تركتها- دون تأنيب في الضمير مع قليل من الحنين، لكن لا مجال على ما يبدو الاستغناء عن الكتابة حيث لا تربطها قانون تقاعد ولا تلغيها ورقة استقالة. والكتابة من أعتى المهمّات في الحياة بلا منازع ولا تلائم سوى حالم صبور أو من به مسّ الخبَلْ. فأيّ مخلوق هذا الذي يلاحق كلمة تلو كلمة تلو كلمة ليرمّم عوالمه السردية بلا كلل؟! أصدقكم القول: أحيانا أغبط من نجا من لوثة الكتابة. ريّح وارتاح... محظوظ ابن اللذينا! فالكتابة عمل شاق. أشبه بهوس مرضي أو وسواس قهري في كثير من الأحيان، حين تلح على الكاتب فكرة لا يستطيع أن يمضي يومه ببساطة كأي شخص عادي فهي منبع حقيقي لانفعالاته في الحياة: فرحه وحزنه. حماسه وخذلانه، صحته وعلته ونحو ذلك، لا يمكنه مع إلحاح الفكرة أن يظل ناجيًا لاسيما مع صوت شخصية تتخلق في ذاته".
ثم تأخذنا مع تجربتها الأولى "دفاتر فارهو قائلة: "أذكر أثناء كتابة روايتي الأولى دفاتر فارهو، ولدت مسودة الرواية في يوم وليلة، ثمة صوت ملح ظل يسحبني لهتافاته، لصوت مآسيه، لحياته المكللة بالفخاخ، خرجت الرواية من خلال صوت الطفل فارهو. وحينها فحسب استوعبت تماما تقنية الروائية إيزابيل الليندي، حين أشارت في حوار لها إلى أنها رهين أصوات شخصياتها التي تظل تحوم حولها حتى تقبض عليها واحدا بعد آخر في عملها السردي. وهذا بالتحديد ما حصل معي في روايتي الأولى. رغم أنني إلى هذه اللحظة أشعر كما شعر كثير من قراء الرواية أن فارهو حقيقي وأصبح رجلا مسؤولا، صار واقعيا، وله حياة يمارسها في نأي عني أنا الكاتبة، استطاع حقا بقوة صوته أن ينجو من لوثات الخيال. أعتقد بأنني تحررت أيضا من صوته، فليس من طبيعتي أن أزاحم الشخصيات في متاهات الكتابة في حيز زماني قصير. أفضل أن أتحرر كليا من عملي السابق كي أكون مستعدة نفسيا للاحق. فبعد الرواية انكفأت على كتابة متتاليات قصصية في مجموعتي فهرس الملوك. وكتابة القصة ليست ككتابة عمل روائي، ففي الرواية تظل الأصوات حيّة حتى تكتمل وفق مخطط معين في فصول الحكاية وتبقى رهين مطارداتها لفترة طويلة وفق طبيعة الحكاية. أما في القصة، فإن الأصوات لها توقيت تعيه الشخصية، فهي مكثفة وسريعة ولاسعة كطبيعة القصة القصيرة. الكتابة عموما، رغم كل تبعاتها المبهجة في خلق عالم موازٍ هي أيضا استنزاف متواصل لحياة ساردها".
الشخصية أم الفضاء؟!
يرى الكاتب والروائي والقاص العماني محمود الرحبي أن ما يسكنه هو الفضاء أكثر من الشخصية، ويقول: "الشخصية الروائية قبل أن تكتب على الورق لا بد أنها تتشكل في ذهن الكاتب وتعيش وتتحرك معه زمنا. ويمكنها أن تكون شخصية مركبة من عدة شخصيات وإن ظهرت واحدة على الورق. فالمواقف هي ما يشكل الشخصيات القصصية، إذن سنكون بذلك أمام شخصية مجسدة أو مثالا لعديد من المواقف قام بها أو فعلها مجموعة من الشخصيات في أزمنة وفضاءات متفرقة ومتباعدة تظهر أمامنا على الورق مجسدة. ثم يأتي اختيار الاسم، وأحيانا يكون عشوائيا - عموما الكثير من الأسماء حتى في الواقع يتم اختيارها عشوائيا ثم ترسخ- ولكنه مع الوقت يستوطن هذا الاسم رأس الكاتب ويرسخ. شخصيا أكثر ما يبقى من ما أكتبه ليس الشخصيات إنما الجو العام. هنا يجب أن نفرق بين الكتابة والنشر، مثلا على المستوى الشخصي لدي مخطوطات سردية عديدة بعضها مكتمل والآخر ينتظر. البيئة العامة هي التي تظل ماثلة في الذاكرة. مثلا لدي مخطوط تحت عنوان مبدئي "عبدالحق يرى تقلب الفصول" وكتبته من وحي إقامتي قرابة ثلاث سنوات في مدينة فاس وتحديدا في حي زراعي اسمه "المرجة" شخصية عبد الحق المتخيلة صحيح أنها سكنتني ولكن أكثر منها كان المكان بتفاصيله الربيعية وناسه وأسواقه. وهناك كذلك نص آخر أعود إليه كل مرة بعنوان مبدئي" مثلث بوندا" يدور في جو زراعي فلاحي أيضا ولكن في سلطنة عمان. الجو العام أو الفضاء هو أكثر ما يظل باقيا عندي، أما الشخصيات فبعضها فقط يبقى، مثل شخصية سالم بن محسن في رواية "طبول الوادي" الذي ما زلت أبحث له عن امتدادات في الحياة، حيث شعرت بأني تركته وحيدا. ولكن هل سأعود إليه أم لا؟ هذا الأمر متروك للمستقبل".
التقمص اللاشعوري
يقول الكاتب والروائي المصري محمد بركة بعد أن حدد روح أم كلثوم مزاجه العام لعدة شهور: "عندما شرعت في كتابة رواية "حانة الست" التي صدرت في القاهرة 2022 عن دار "أقلام عربية"، لم أكن مأخوذا بحالة من الهوس تجاه فن وصوت أم كلثوم، فأنا على المستوى الشخصي لست من دراويشها وأميل أكثر إلى أسمهان، وإنما كنت مجذوبا لفكرة أن تلك السيدة العظيمة التي سحرت الشرق والغرب لم يكتب أحد قصتها الحقيقية بعد".
ويضيف: "كنت مسحورا بالغوص عميقا في السيرة الذاتية لسيدة الغناء العربي وإعادة اكتشافها كإنسان من لحم ودم، تغضب وتثور وتغار وتقلق وترتكب هفوات في لحظات ضعفها الإنساني العام، بمعنى آخر أردت أن أنحي (الأسطورة) جانبا، ولو على نحو مؤقت، لصالح (الإنسانة)".
ويلفت الروائي المصري إلى أنه بمجرد أن انتهى من كتابة المسودة الأخيرة ودفع بها للناشر، اكتشف أن مزاجه العام وسلوكياته أصبحت متأثرة إلى حد التطابق بروح كوكب الشرق، من حيث الدقة والانضباط والاهتمام بأدق التفاصيل سواء في العمل أو حتى على مستوى التفاصيل اليومية، والأهم هذا القدر المذهل من الكبرياء والاعتداد بالنفس.
وتابع: "قضيت أكثر من عام وأنا أغوص في عمليات بحث متعمقة حول كل ما يخص أم كلثوم نفسيا واجتماعيا وإنسانيا ويشكل (الوجه الآخر) لها مع تعمق في شكل ونمط الحياة في مصر بالنصف الأول من القرن العشرين، وهو ما جعلني بعد الانتهاء من الرواية أتقمص لا شعوريا كل ما كان مشهورا عن (الست) فنمت عندي روح السخرية اللاذعة والقفشات الكوميدية والصرامة في تنفيذ العمل على أكمل وجه، حتى أنني كنت أسرح بخيالي وأنا أقود سيارتي وأسير على مهل وكأنني أقود عربة السوارس الخشبية التي كانت تقودها الخيول وركبتها أم كلثوم كثيرا في شبابها".
ويلفت محمد بركة إلى أن تلك "الحالة" ظلت تلازمه عدة أشهر إلى أن دخل في أجواء كتابة رواية جديدة تتحدث عن رحلة الإنسان بعد الموت في العالم الآخر.