نحتُ المتفرِّج في الجريمة: السرد وموقع المتفرج في فيلم كوروساوا «راشومون» (3 من 3)
يثابر الفيلم على التحرك برشاقة بين ثلاث صيغ للنسخ الأربع من رواية القصة. أما الصيغة الأولى فهي انتقال الحاضر الذي تقدِّم فيه الكاميرا السرد بصيغة الغائب (لقاء ومحادثات القس، والحطَّاب، والمتشرِّد، وذلك عند أنقاض بوابة راشومون). وأما الصيغة الثانية فهي تذكُّر الشخصيات للماضي القريب بصيغة المخاطَب (استجواب قاطع الطريق، والمرأة الضحيَّة، والقس، والحطَّاب، وبوح الزوج المقتول من خلال وسيلةٍ وسيطةٍ. وكل أولئك يجيبون عن أسئلة محقق بوليسي غير مرئي). أما الصيغة الثالثة من صيغ رواية القصة في "راشومون" فهي تقديم أوصاف الشخصيات الرئيسة للماضي الأبعد أكثر، التي هي -- أي تلك الأوصاف -- عبارة عن كورونولوجيا تفصيليَّة لواقعة الاغتصاب والقتل بصيغة المتكلِّم، حيث تتذكر كل من تلكم الشخصيات الأحداث من مواقع منظوراتها.
وبالتالي فإن انتقالات وتحولات الصيغ السرديَّة إنما تغيِّر موقع المتفرج، مشوِّشةً ومربِكةً بذلك فهمه، واستقباله، ومُدْرَكِهِ الحسِّي (هذا على الرغم من أن تلكم الصيغ السرديَّة، وكما ذكرت سابقًا، لا تضع المتفرج في المكان الخطأ). وفي الحقيقة، فإن هناك في الأصل تضاربًا "موضوعيًا" في ما يخص وقت ارتكاب الجريمة؛ فبينما يؤكد الحطاب أن ذلك الوقت هو "قبل ثلاثة أيام" فإن القس أقل تأكدًا إذ يقول: إن الوقت كان "قبل ثلاثة أيام تقريبًا". يبوح السرد بهذا التضارب في بداية الفيلم، ولا يعود له مرة أخرى. والمتفرج، في الصيغة السردية الأولى (أي حين تكون الكاميرا ساردًا بصيغة الغائب)، "مشاهِدٌ موضوعي"، إذا ما جاز القول، تتكشَّف أمامه الأحداث وهو قَصِيٌّ عاطفيَّاً، ومتجرد بوصفه مُشاهدًا فحسب. ولكن في الصيغة السرديَّة الثانية (صيغة المخاطَب) يصبح المتفرج مشاركًا نشطًا ليس بالضبط في صنع القصة، بل تحديدًا في اكتشافها وبناء الاستنتاجات عليها ومنها بوصفه متفرجًا "بريختيَّاً" (نسبة إلى برتولت برِخت Bertolt Brecht) من نوع ما. وأسلوب "لقطة -- لقطة عكسية" (champ-contrechamp) التصويري والمونتاجي الذي ينتهجه الفيلم هنا تموضع المتفرج في مكان المحقق البوليسي الموجود/ الغائب في خارج الكادر (off-frame)، مسبغًا عليه -- أي على المتفرج -- درجة من استحواذ السُّلطة. لذلك فإن ما يحدث هنا هو أن المتفرج قد تحول وتناسَخَ، بمعنى من المعاني، ليكون المحقق اللامرئي الذي يحاول أن يحلَّ لغز الجريمة. والحقيقة أن المرء لا يستطيع التغلب على الإحساس بأنه يوجه الأسئلة وجيهة المنطق وغير المسموعة ذاتها التي نستمع إلى إجاباتها من الشخصيَّات.
لكن المفارقة البارادوكسيَّة هنا هي أن السُّلطة التي يتخذها المتفرج في هذا الموقع لا تمضي من دون تعزيز وتحدٍّ معًا؛ وذلك لأن الصيغة السرديَّة الثالثة في الفيلم (صيغة المتكلِّم) تسجل تحوِّل المتفرج إلى موقع القاضي، وفي هذا يكون على المتفرج أن يحاول مصالحة الأدلة المتناقضة التي تقدمها الشخصيَّات من خلال استعاداتها الذاتيَّة بصورة صرف. وتزداد صعوبة موقع المتفرج هذا إلى حد أبعد بامتناع الفيلم امتناعًاً كاملًا عن تقديم أية إشارة أو إلماح تأييد أو إثبات لأي من النسخ الأربع المتضاربة من القصة.
لذلك فإنه يكون لزامًا على المتفرج أن يتفكر في ثلاثة احتمالات. أما الاحتمال الأول فهو أن جميع نسخ القصة صادقة، والاحتمال الثاني هو أن جميع نسخ القصة غير صادقة (وهذا احتمال سيميل إليه كثيرون بالنظر إلى الكثير مما كُتب حول الفيلم بأنه متناغم مع نزعة معينة في الفلسفة ترى الطبيعة النسبيَّة للحقيقة)، أما الاحتمال الثالث فهو أن واحدة فقط من نسخ القصة صادقة وما تبقى فلا. وفي هذا السياق فإن إفادة الحطَّاب، وهو عنصر خارجي على جوهر القضيَّة ولا شأنَ مباشرًا له بها ولذلك فإن من المرجح أن يكون جديرًا بالثقة، تبدو -- أي الإفادة -- صادقة في البدء، غير أن مصداقيتها تبدأ في الاهتزاز وفقدان التماسك حين يضعه المشرد السَّاخر والشَّاك في زاوية حرجة باكتشافه عدم اتساق الرواية فيما يخص الخنجر. وهكذا فإن معظم المتفرجين سيتوصلون إلى حكم "ليس الأمر واضحًا" (non liquet).
كما أن انتقالات موقع المتفرج في سرد الفيلم يموضع ذلك المتفرج ويعيد موضعته في نطاقات "زمكانيَّة" مختلفة؛ فمع تقديم كل نسخة جديدة من القصة يقيم المتفرج مؤقتًا في حقيقة جديدة، فقط ليقيم في غيرها بعد حين. وكل نسخة من نسخ القصة تحتفظ ببعض المظاهر الثانوية من النسخة المضادة عبر تغيير العناصر الرئيسة. ولذلك فإن المتفرج يصبح شاهدًا على الزمن بوصفه "لوحًا أبيضَ لم يُخطّ عليه شيء بعد" (tabula rasa) وبكونه "لوحًا يكتب عليه لمرة ثم يُمحى ما كُتب بعدد المرات التي يشاؤها الكاتب" (palimpsest) في نفس الوقت. وفي هذا المعنى يكون لزاماً على المتفرج أن يشكل نسخته الخاصة من القصة من حيث هي "المتن الحكائي"، الـ"fabula"؛ أي "قالب من العلاقات بين الشخصيات وقالب الأحداث وهي تتكشف في تسلسل كرونولوجي" "المبنى الحكائي" من حيث هي الـ”syuzhet”؛ أي يمكن فهمها من حيث هي "التنظيم الفني أو "التشويه" لتسلسل العلاقات السببيَّة/ الكرونولوجيَّة في التسلسل الزمني" كما جاء في معجم سيميائيَّات سينمائية معتبَر (1)، وذلك وصولاً إلى "الفيلم الكتابيِّ" إذا ما جاز لي التنويع على رولان بارت Roland Barthes في مفهوم "النص [الأدبي] الكتابي" (2). وفي كلمات أخرى، يصبح الزمنُ النَّصَ اللانهائي للمتفرج.
وبذلك أعتقد أن "المتن الحكائي" (بمعنى fabula) ليس متماثلًا مع التأويلات السائدة التي تذهب إلى أن فيلم "راشومون" هو فيلم عن نسبية الحقيقة كما يقول أحد الكتب التأسيسية والمحترمَة في حقل الدراسات النقدية السينمائية (3)، أو أن الأمر ليس ذلك بالضبط وفقط؛ ذلك أن "نسبيَّة الحقيقة"، ومهما كانت هذه المقولة الفلسفية وجيهة ومعتبرَة، ليست إلا نصف القصة فحسب؛ فالقصة في "راشومون" تبقى متعالية وتوجد مستقلة عن الموقع الذي يحتله المتفرج في "التَّبنيء الحكائي" ) بمعنى fabualization) للسرد، وذلك "القصُّ" هو النصف الآخر من السرد في "راشومون"، وهو حقاً طريقة كوروساوا البارعة في نحت المتفرج في الجريمة التي يتقاسم الجميع ارتكاب تفاصيلها، ووحشيتها، وألقها الشرير، وكمالها.
-----------------------------------------------
(1). Robert Stam, Robert Burgoyne, and Sandy Flitterman-Lewis, New Vocabularies in Film Semiotics: Structuralism, Post-Structuralism, and Beyond (New York: Routledge, 1993), 71.
(2). للوقوف على التمييز الذي يقيمه بارت بين "النص القرائي" (readerly text) و"النص الكتابي" (writerly text)، انظر:
Roland Barthes, S/Z: An Essay, trans., Richard Miller (Oxford: Blackwell, 1990).
(3). David A. Cook, A History of Narrative Film (New York: Norton, 1981), 577.