No Image
ثقافة

"من بعثنا من مرقدنا".. حينما يكون الميتُ في قفص الاتهام

27 سبتمبر 2024
"ياسر أسلم" مفاجأة مهرجان المسرح العماني الثامن
27 سبتمبر 2024

راودني الكثير من القلق وأنا أكتب هذه المادة القرائية -قدر الإمكان- عن العرض المسرحي الرابع في مهرجان المسرح العماني الثامن، عرض "من بعثنا من مرقدنا" الذي أقيم مساء أمس ، متسائلًا، كيف لي أن أوفي هذا الجمال الإبداعي حقه من خلال الكتابة عنه؟

كان العرض، الذي قدمته فرقة مسرح الشرق ومن تأليف وإخراج ياسر أسلم البلوشي، بمثابة مفاجأة من العيار الثقيل بالنسبة لي، وبالنسبة لعدد من المسرحيين الذين يملكون خبرة طويلة في المجال. فقد دار حديث بيننا بعد العرض مباشرة، واتفقنا جميعًا أن ياسر أسلم فاجأنا بعرضه الجبار، بمعية فريقه الرائع الذي يبدو أنه اختارهم بعناية، فكلٌّ يؤدي دوره بانضباط ليس من ناحية الأداء أو الحوار فحسب، بل حتى من ناحية لغة الجسد التي كانت ذات بُعد عميق في العمل المسرحي وذات دلالات تعمق فهمنا للشخصية.

تمثلت المفاجأة بالنسبة لي في انطباعي -الظالم- بشكل مسبق عن العرض؛ فقد سبقته عدة عروض لأسماء كبيرة وقديمة في المجال، إلا أنها لم تقدم الفرجة البصرية التي تشبع حبي للمسرح على أقل تقدير. فكيف لتجربة جديدة نسبيًا -وإن أكملت حوالي 7 سنوات وفق قراءتي المحدودة، فقد عرفت ياسر في مهرجان المسرح العماني السابع أول مرة- أن تشكل فارقًا مسرحيًا؟ كما أنني قد حضرت عرضًا مسرحيًا شارك فيه أسلم مُمثلًا، ولم أخرج من العرض بفهم مطلقًا. وعندما سألته حينها عن فكرة العمل، قال لي: "تركنا الفكرة لتأويل كل متلقٍ"، فجاء في بالي سؤال: "هل سيقدم ياسر عملًا مشابهًا؟" وأقول -وأنا أقدم اعتذاري لياسر وفريق عمله الرائع- إنه صاحب تجربة ناضجة كتابة وإخراجًا، وأنه بجدارة يشكل رقمًا صعبًا في مسيرة المسرح العماني، فهنيئًا لنا به.

وبعد هذه المقدمة التي قد تدفع فضول القارئ ممن لم يشاهد العرض للتعرف عليه، فإنني قد وقفت أمام عرض مسرحي جمع العديد من الفنون البصرية والأدبية في آنٍ واحد، وكسر -ربما- قاعدةً عند البعض بأن النص المسرحي ليس نصًا أدبيًا. فقد كان النص على مستوى رفيع ينضح بالشعر والحوارات الآسرة وشيء من التناص مع الموروث الأدبي. كان العمل يسير في خط "مسرحية داخل مسرحية"، حيث يقف الممثل بدور المخرج، وإن بدا أنه الراوي كذلك، ليسرد لنا تفاصيل المشهد الذي سوف نراه، وهي جثة أثناء عودتها إلى الحياة. وهي فكرة فانتازية خيالية أدار منها ربان العمل رسالة عميقة. يصف لنا المخرج كيف استبدل الأدوار، حيث كان الدور أساسًا لممثلة، لكنها توفيت فجأة دون أي سبب، أو ربما اختبأ السبب وراء حجة واهية وهي "الموت المفاجئ". ليقوم بعد ذلك بتوظيف ممثل بدلًا من ممثلة، واستبدل الخطاب المؤنث بخطاب مذكر، فما الفرق؟ "تبقى الجثة جثة". لينتقل المشهد ويسلط الضوء على الجثة وهي تستعيد أنفاسها، نافضة غبار القبر ممزقة الكفن الهش، متسائلة "من بعثنا من مرقدنا؟" لتواجه محققًا أمامها، إذ ترى نفسها في قفص الاتهام، وتُوجَّه إليها التهمة الأساسية "أنت متُهم بموتك". يستنكر الميت ذلك، فمن يُتهم لأنه مات؟ لتتوالى أسئلة المحقق، ويدور الحوار العقيم بينهما. ليزداد الضغط بإضافة محقق آخر، فهم السلطة التي تعرف كل شيء عنه. يسألونه، كيف مات؟ وماذا كان يفعل قبل الموت؟ يخبرونه عن حقيقته التي نسيها، فهو ممثل مسرحي. فيستعيد الميت شيئًا من ذكراه وأعماله المسرحية، والمشهد الذي طُعن فيه، معتقدًا أن هذا المشهد هو سبب موته، ولكن الحقيقة غير ذلك، فلم يكن ذلك إلا مشهدًا.

يزداد الضغط على الميت، بدخول رئيس المحققين، الذي يبدأ بتذكيره ببعض التفاصيل، منها أنه كان يملك مسرحًا وباعه، وأنه لا يملك عائلة ترثه. وفي ظل هذه الضغوط تتكشف الحقائق تلو الأخرى، فهو فعلًا كان يملك مسرحًا، لكنه لم يبعْه، وأن حياته ظلم في ظلم، فهو الشخصية المسلوب منها الحق، مغتصبٌ في ماله وأرضه وأهله، أُخِذَ حقه بالقوة رغمًا عنه، وبحماية المحققين والقوى الأكبر، أو بغطاء عن الحقائق. في إسقاط واضح على القضية الفلسطينية وما يحدث فيها من هزل أمام مرأى العالم.

ليتضح في نهاية العمل أنه قد مات فجأة كما ماتت قبله الممثلة التي كان من المفترض أن تقوم بالعمل مكانه. مات، وماتت في ظل القمع والقهر والجوع وأمام مرأى العالم الذي "يدين، ويشجب، ويستنكر"، ولا شيء غير ذلك.

رغم سوداوية العمل في فكرته العامة، إلا أن المخرج بذكائه الفذ استطاع أن يملك مشاعر الجمهور وانتباههم من أول دقيقة إلى آخرها، كما أسلفت، باللغة الآسرة، وكسر حدة المأساة بالكثير من الكوميديا غير المخلة في العرض، ومن خلال القصائد التي ضمّنها في النص، فهو الكاتب والمخرج والشاعر، كما أعرفه. إضافة إلى بُعد آخر وجميل أسر الجمهور، الذين لم يمنعوا أنفسهم من التصوير بهواتفهم، وهو البعد الموسيقي الحي. حيث وظّف المخرج الموسيقى التعبيرية في المشاهد وضمن مواهب الممثلين. فقد كان الراوي عازفًا لآلة العود بطريقة آسرة، منتقلًا من مقام إلى مقام آخر بسلاسة، إضافة إلى غنائه العذب والمؤثر جدًا، مما أضاف بُعدًا جماليًا اتفق عليه الأغلب. كما كان لشخصيات المحققين كذلك مهارات في العزف والغناء بطبقة أصوات عالية تعكس القمع والقهر والجبروت.

أما لغة الجسد، فقد أتقن ياسر أسلم في اختيار فريقه الفني، فشخصية الجثة لها جسد هزيل جدًا، يعكس واقع المظلوم والمضطهد، ويذكرنا بأجساد من يعيشون في ظل ويلات الاحتلال الإسرائيلي بمجاعة وجوع ونقص حاد في الوزن. أما أجساد المحققين فهي الممتلئة والسمينة، وتعكس مدى تفاوت الطبقية بين المظلوم والظالم. وهذا ما كان محل إشادة في الجلسة التعقيبية التي تلت العرض المسرحي.

أما بالحديث عن الشخصيات، فتتمثل في شخصية "المخرج أو الراوي"، وهي شخصية محورية تتحكم في سير الأحداث وتوجه باقي الشخصيات خلال رحلتهم. ويتضح من خلال العمل أنه يمثل القدر أو المصير، حيث يقوم بتوجيه الشخصيات وكأنهم تحت سيطرته، لكنه في النهاية منعزل عنهم تمامًا، وكأنه يحمل أداة تشغيل فيلم وإيقافه كيفما يشاء، أو أنه يوقف المشهد ليخبرنا ما الذي حدث، أو يعبر عن تأثره وحالته النفسية التي يعيشها أثناء إخراجه للعمل. فهو الذي يحرك الشخصيات ويعكس الصراع بين الإرادة الحرة والتحكم الخارجي. كان تفاعله مع الشخصيات الأخرى يوحي بتأمل حول مدى سيطرة الإنسان على حياته مقارنة بما يمليه عليه القدر.

الجثة، والتي يتضح لاحقًا أنه ممثل في المسرحية، هي الشخصية التي تنخرط بشكل مستمر في الحوارات الفلسفية مع المحققين ورئيسهم. تعبر عن شخص يعيش تساؤلات وجودية ويتساءل عن دوره في الحياة والمسرح. فهل من حقه أن يموت؟ وتمثل شخصية "الجثة" حالة الإنسان الذي يلعب أدوارًا متعددة في الحياة، ولكنه يظل يتساءل عن طبيعة الواقع. تساؤلاته المتكررة حول الحياة والموت والغرض من الوجود تعكس الصراع الداخلي لإيجاد معنى في هذه الحياة.

أما المحققون الثلاثة، فهم يلعبون دورًا محوريًا في استجواب الممثل والبحث في أفعاله ودوافعه للموت والحياة. يمكن اعتبارهم تجسيدًا للسلطة القهرية المدعومة من عناصر أقوى للتحكم في المصائر باسم "العدالة" أو "المساعدة". يمثل المحققون المواجهة التي يمر بها الفرد مع ذاته أو مع الآخرين في محاولة لفهم حقيقته. يطرح المحققون أسئلة وجودية تُجبر الممثل على مواجهة حقائق مزعجة عن وجوده، مما يدفعه للتفكير العميق حول الحياة والموت والحرية والحقوق.

وبهذا العمل المسرحي الرائع "من بعثنا من مرقدنا"، يدحض ياسر أسلم الإشكاليات المتعددة الناتجة عن تولي المؤلف عملية الإخراج. وتلك ملاحظة قد تتكرر دائمًا، إذ عندما يكون المؤلف مخرجًا دائمًا ما يقدس نصه ولا يمسه، الأمر الذي قد يدعو الملل، أو ضعف الرؤية الإخراجية، إلا أنني قد وقفت على عرض كان مزيجًا بين الكتابة الاحترافية والرؤية الإخراجية الذكية، وعرض يستحق أن يشاد به، فشكرًا لفرقة مسرح الشرق وشكرا ياسر أسلم وفريق العمل ككل.

وقد تكون فريق العمل من عبدالله اليعربي بدور "الجثة"، وهزاع المقبالي بدور "المخرج"، ومحمد النعيمي بدور "رئيس المحققين"، وعادل البوسعيدي و أحمد مستهيل بدور "المحقيين".

أما الجوقة فتكونت من وليد العزيزي، وعبيد الغافري، وميثم القاسمي، وأسامة الوحشي، ومحمد البلوشي، ومحمد الحبسي، إضافة إلى طاقم فني كبير.

الجلسة النقدية

وقد أعقب العرض المسرحي جلسة نقدية -كما جرت العادة- تحدث فيها كل من الدكتور سيد علي إسماعيل من مصر، والمخرج والناقد المسرحي بدر النبهاني، بإدارة هلال الزيدي. استهل الدكتور إسماعيل حديثه بالإشارة إلى أن النص المسرحي يتناول قضية معاصرة وهي القضية الفلسطينية، مشيرًا إلى أنها قضية مستمرة ترافقنا بصور القتل والدمار. كما أشار إلى أن عنوان المسرحية "من بعثنا من مرقدنا" يعكس حالة من الظلام ترمز إلى العرب الذين يقفون متفرجين، غير واعين بالعواقب وكأنهم يشاهدون مسرحًا.

تطرق إسماعيل إلى أن النظام المذكور في النص يُجسد القوى التي تواجه مؤيدي القضية الفلسطينية، مفسرًا أن المقصود بالنظام الأكبر هو إسرائيل. وأوضح أن العرب يعيشون وهم السلام إلى أن استيقظوا على فساد هذا الوهم. وعن ديكور العرض، وصفه بالبسيط لكنه ذو رسالة واضحة، بينما اسم "دانيل" في المسرحية يرمز إلى شخصية دينية في التراث اليهودي، مشيرًا إلى أن موضوع البيع والشراء يمثل السياسة الصهيونية المنظمة للسرقة والنهب. كما أشاد بتوظيف الموسيقى والغناء في العرض، مشيرًا إلى الأداء الحي والمتميز، ووحدة ملابس الجوقة التي عبرت عن الازدواجية.

في ختام حديثه، أكد الدكتور إسماعيل أن العرض سلط الضوء على موضوع غزة، وكانت الرسالة الواضحة موجهة للعرب، داعيًا إياهم للاستيقاظ من الغفلة. كما انتقد تكرار العبارات المألوفة مثل "ندين، نستنكر، نرفض"، مشيرًا إلى أن الجرأة في المسرح ضرورة.

بعد ذلك، تحدث بدر النبهاني معبرًا عن إعجابه بجهود ياسر أسلم، مشيرًا إلى أن العرض تناول القضية الفلسطينية، وهو ما أنقذ المهرجان من غياب هذا الموضوع الهام. وأكد أن المسرح هو أداة تأثير فعالة، وأن إغفال القضية الفلسطينية في مهرجان عربي يعد أمرًا غير مقبول.

وعن النص المسرحي، أبدى النبهاني بعض التساؤلات حول غموض النص، مشيرًا إلى أنه بدا وكأن الكاتب لم يكن يعرف كيف يختمه ثم ربطه في النهاية بالقضية الفلسطينية. كما تساءل عن الرمزية في العنوان وهل تعني إعادة إحياء القضية بعد غيابها؟ وتناول شخصية "دانيل" متسائلًا عن غياب مشهد تعذيبه في الآخرة، الذي كان يجب أن يتجسد بما يتماشى مع العنوان.

وفي حديثه عن تطور الشخصيات، عبّر النبهاني عن حيرته حول سبب تشظي شخصية المحقق إلى شخصيات متعددة، مؤكدًا أن المحقق المخمور كان يمكنه إيصال نفس الرسالة دون هذا التشظي. كما أشار إلى أن استخدام الموسيقى كان مميزًا، لكنه لاحظ أن بعض الأغاني بدت مألوفة وكأنها مستوحاة من أغاني أخرى، مما أثار تساؤلات حول ذلك.

مقهى المسرح

كما تضمنت فعاليات أمس جلسة "مقهى المسرح" قدمتها الجمعية العمانية للمسرح، والتي شهدت استضافة الناقد البحريني يوسف الحمدان وأدارها الإعلامي أحمد الكلباني.

في بداية الجلسة، طرح الكلباني تساؤلاً حول ما يوصف بحدّة بعض النقاد، ليؤكد الحمدان أن تلك الحدة تنبع من مسؤولية النقد الفني الهادف للارتقاء بالعمل، وليست تجريحًا. وأشار إلى أن أي قسوة من الناقد هي بدافع محبة وحرص على الفنانين.

كما تناول الحمدان الموسمية المسرحية، مشيرًا إلى أن المسرح في الوطن العربي يعاني من طابعه الموسمي، بينما في الغرب يشكل جزءًا من الحياة اليومية، مما يخلق وعيًا مسرحيًا مستمرًا.

وناقشت الجلسة أيضًا كتاب الحمدان "صرخات في وجه النقد المميت"، حيث انتقد مجاملة النقاد التي تؤدي إلى تغييب الحقيقة. وختامًا، استعرض الحمدان مفهوم "موت المؤلف" مؤكدًا أن دور المؤلف ينتهي بتسليم النص، ليصبح المخرج والجمهور شركاء في إعادة تشكيل العمل.