ثقافة

مسرحية "جرنيكا غزة" للفلسطيني إميل سابا

24 أكتوبر 2024
24 أكتوبر 2024

ثمة خيط سريالي ناظم، لعله خيط "يامن" الإنسان الناجي الذي "يخيط" به الأطراف المبتورة، مكان أطراف أخرى، للحيوانات والطيور، والبشر، فتظهر رجل بطة في قط مثلا، بل لعله خيط-القلم والفرشاة، وغيرها من أدوات الفنون، الذي يعبر عن أهوال ما عاشه البشر، وما زالوا يعيشونه كما في غزة الآن.

وثمة "يارا" راكبة أمواج الركام بدل أمواج البحر، فقد ودّت الفتاة لو تركب كل هذا الموج-المتراكم من دمار البيوت، لتنجو بالوصول إلى أول ماء، الذي، للمفارقة، صار ماء الأمن، بعد لا أمان البر!

هو تشابه، فلم لا يكون طنين النحل سرياليا أيضا، بالمشابهة مع طنين "الزنّانة" الإسرائيلية، التي سطت على ما تبقى من آذان الغزيين/ات، في وقت يحرص "بلال" صاحب آخر خلية نخل أن تظل حية، لأنه إن تحتفي فلن يكون في غزة لا نحل ولا عسل! لعلها رؤية إخراجية جاءت من جنس جرائم العصر العجيبة.

أما فضاء المسرحية، فهو على خشبة المسرح، من خلال الشخصيات الغزية المستوحاة من شخصيات لوحة جرنيكا ونص الكاتب الإسباني لفرناندو أرابال"، أو ما أعدته الكاتبة الأميركية نعومي والاس والفلسطيني إسماعيل الخالدي حيث يمكن القول إنه تم توطين تلك الشخصيات (فلسطنتها).

تستعيد راكبة الأمواج، التي استشهدت تحت القصف والركام، ما كان من حياة وأمل، وينشأ حوار بينها وبين والدها، يرينا ما كان من حياة وما صار من موت، في حين نجد مربي النحل القلق على آخر خلايا النحل بعد أن سطا القصف كما يبدو على باقي الخلايا، وهو الذي يعاني من طنين "الزنانة" التي ترصد حياة البشر، والتي بسبب إزعاج صوتها لربما ما عاد يشكو طنين النحل.

ولعل أبز الشخوص ذلك الناجي من الحرب، والذي يخيط الحيوانات، بطريقة غريبة، فحين يجد نقصا في أطراف حيوان مثلا، ويجد طرفا لحيوان آخر، فإنه يخيطه لاكتمال الحيوان المصاب. ولعل حواره السريالي مع أخيه شكل أكثر عناصر المسرحية جذبا، متوجا ذلك بوصيته حول "تخييط" طرفه، إذا بتر، على أن يتم استئذان الحيوان قبل موته.

الرؤيا الاخراجية: لعلنا نذكر قليلا بمذهب السريالية التي ولدت في الفن التشكيلي في بداية القرن العشرين لكنها امتدت الى الفنون والمسرح كذلك، وارتبطت بالدادئية، التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى. وهي أي السريالية حركة ثقافية في الفن الحديث والأدب تهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق. وتميزت بالتركيز على كل ما هو غريب ومتناقض ولا شعوري. وكانت السريالية تهدف إلى البعد عن الحقيقة وإطلاق الأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية وسيطرة الأحلام.

وكما قلنا في بداية المقال، لقد تأثر العرض الذي قدم على خشبة مسرح عشتار برام الله، بمضمون وشكل اللوحة، وكذلك النص الأصلي، والنص الأخير الذي تم إعداده. قدم إميل سابا شخصيات من عالم الحرب والموت والدمار، وهي في ذهولها تتحدث كنص سريالي غير واقعي، كما في شخصيات العرض. لعله الشعور هو من يقود تلك الشخصيات لا الواقع نفسه، فليس مربي النحل واقعيا ولا صاحب الإبرة والخيط، ولا راكبة الأمواج. لكن في الوقت نفسه، فإن الحدث عن آلام الحيوانات كان واقعيا، وهذا ما ظهر خلال الحرب، ولعل اختيار الحديث عن الحصان، ينسجم مع الحصان الموجود في لوحة جرنيكا.

وقد لاءم الإخراج الحديث العرض، الذي يستخدم شفافيات القماش بما تشف به عن حياة هنا وهناك، في الحياة وما بعدها، كذلك جعلها شاشة تعرض للأحداث، ما يدخل المشاهد في الحدث وتذكارات الحرب. ويمكن القول إن توظيف الشفافيات كان موفقا.

لعله إخراج مسرحي معاصر، رغم أن الإخراج كان يمكن أن يكون سرياليا من وحي القصص التي عرضت، والتي بنت العرض المسرحي.

هناك تقريبا 3 قصص، سنأتي عليها، كانت تقدم بشكل غير متتابع، بحيث كان في كل مشهد يتم عرض مشهد من قصة منها، يتلوه مشهد آخر من قصة أخرى، وهكذا. وكل قصة هي وحدة واحدة، بمعنى أننا إزاء قصص من الحرب، ناظمها هو هذه الحالة من الذهول.

واستطاع المخرج رغم وجود تلك القصص التي ظهرت سواء وحدها أو من خلال وجود قصص أخرى على خشبة المسرح، جعل الممثلين مندمجين بمشاعر شخصياتهم، خصوصا حين يؤدي جزء منهم دوره المنطوق، حيث يتابع الآخرون حركاتهم ونظرات وجوههم كأنهم في حوار أو مونولوج. ولعل ذلك يحسب للمخرج وطاقم التمثيل.

بدأت القصص بيارا راكبة الأمواج مع والدها عنتر، ثم بدأت قصة بلال مربي النحل، فقصة يامن وحمزة، تلك القصة السريالية فعلا.

أما يارا، واستدعاء ما كان، ثم يارا والركام، حين تحلم بركوب موجة الركام لتنجو. ثم حين تظل في ذهن والدها يارا التي تركب أمواج البحر.

في حين نرى بلال وهو يتحدث عن النحل كأنه شعب يبحث عن النجاة، فنراه يعرض وصفا للنحل فيما يشبه التقرير الصحفي، أمام الكاميرا، وحديث عن سعادة مربي النحل بسبب موسيقى الطنين، التي تختلف بالطبع عما تسببه "الزنانة" من ألام حادة. يستذكر بلال قصة سميرة من عائلة مربي النحل، تلتحق بالثورة في لبنان، ثم يكون مصيرها الإقامة باليمن بعد اجتياح إسرائيل لبنان عام 1982، حيث تواصل رحلتها مع النحل في جبالها.

أما القصة الأكثر سريالية وإبداعا تجلى فيه المخرج والطاقم، فهي قصة يامن الناجي وأخيه حمزة المقاوم.

في حوار الأخوين، يتحدث يامن عن الحيوانات المصابة، قط بدون أذنين، حمامة بدون رجلين، تقاسم الأطفال الطعام القليل مع حيواتهم الأليفة. وكيف أنه وجد طيرا بدون جناح فركب له جنحا من ورق تبقى من كتاب محروق، متسائلا بوجع: "كيف يمكن نقول للعصفور انه عمره ما راح يرجع يطير". وكيف أنه خاط قوقعة سلحفاة وركبها للعجل الذي بتر حافره، في حين يؤنبه أخوه حمزة قائلا: "بزبطش تضلك تفكفك وتركب بيطلع معك اشي مسخ"، وربما هي عبارة رمزية عن حال الناس-الشعب! ويذكره بالقط الذي مات لأنه ركب له رجل بطة "معفنة"، وفي الوقت يستذكر يامن وصف الاحتلال أهل غزة "بالحيوانات الشرية، يوصي أخاه ما أوصى حول "تخييط" طرفه، إذا بتر، على أن يتم استئذان الحيوان قبل موته. يسمع أخوه ما يسمع ثم يتركه "ليخلّص" على ميركفاة.

يقتل الغزاة الخيول والأطفال، يستمر القتل الهستيري. لكن حينما يطل طائر النورس، يخاطبه "يامن" "كنت بدي أسالك تعيرني جناحك".

لربما كان بالإمكان إظهار الخوف والتفجع والغضب والألم أكثر، من خلال سرد قصص أخرى لشخصيات يمكن أن تظهر، كذلك جعل تعبيرات الممثلين تذهب منحى انفعاليا الى مدى أكبر مما رأينا من خلال الصراخ مثلا والذي لا بدّ منه.

وجميل أن نرى الفنانين الشباب، وهم يؤدون أدوار ليست سهلة، لا شكلا ولا مضمونا: فقد قدّم الفنانون تامر طافش، وديفيد طنوس، وساشا أصبح، وفادي مرّار، ونورسان قواسمة أدوارا جذبتنا للمشاهدة.

إنه أمل جناح السنونو ليطير به الإنسان الفلسطيني المحاصر. ولعل "الرياضيات في غزة غير "عبارة يامن أو حمزة"، بما فيها من رمزية، توحي بالإرادة التي يمكن أن تتجاوز منطق قوة الآلة العسكرية وما تلقي الطائرات من "مناشير" لتهجير الناس من بيوتهم يكون مآلها..بعدما نفد ورق التواليت.