مسجد «الخور» بمسقط .. التاريخ القديم والمدرسة النظامية
مساء الجمعة من الأسبوع الماضي: 25 أكتوبر، نظَّم «مركز الندوة الثقافي» ببهلا، ندوة حول التعليم في مدرسة «مسجد الخُوْر» بمسقط خلال العقود الماضية، حين كان مدرسة تُشْرِفُ عليها الحكومة، خُصِّص لها مدرِّسون لتعليم الطلاب علوم العربية والشريعة، نحوًا وفقهًا وعقيدةً، ودروسًا في شرح الحديث النبوي، وقراءةً في كتب التفسير، وغيرها من المعارف التي يدرسها الطلاب، ليصبحوا بعد ذلك معلمين أو أئمة مساجد، وبعضهم يواصل تعليمه، فيصبح قاضيًا أو أي من المناصب الدينية الرَّفيعة.
وكانت الندوة بالنسبة لي فرصة للتعرُّف على الرَّعيل الأول من المعلمين، الذين حملوا مشاعل العلم، والجيل السابق من الدارسين في علوم العربية والشريعة الإسلامية بمسجد الخور أو «مسجد الشُّهداء» كما يطلق عليه، وفي هذه المقال أحاول الاقتراب من التاريخ القديم للمسجد، ذي المكانة التاريخية في مدينة مسقط، ثم من حيث كونه مدرسة نظامية، امتدت عقودًا من السنين.
وواضح من تسمية المسجد أنه بُنِيَ بمحاذاة البحر، في ذراع من اليابسة يطلق عليها «خُوْر»، كان مرفأ للسفن يقصدها الصيادون والبحارة والنواخذة، ويطلق عليه أيضًا اسم «مسجد الشُّهداء»، فبحسب الروايات أن المسجد بُني في البقعة التي أقيمت فيها الصلاة على جثامين شهداء معركة تحرير مسقط، التي دارت رحاها بين اليعاربة والبرتغاليين، في تلك البقعة المباركة بُنيَ المسجد في زمان ما، ويوصف بأنه مسجد صغير، في صحنه الداخلي أسطوانة واحدة ترفع السقف، ومحاط بفناء واسع من الخارج.
وفي الحقيقة فإنه لا أحد يجزم بتاريخ بناء المسجد، ثمة رأي قرأته للباحث ناصر السعدي، نشرته وكالة الأنباء العمانية، أن بعض الروايات تشير إلى أنه بُني على أنقاض المسجد، الذي هُدم إبَّان وصول القائد البرتغالي «البوكيرك» مسقط عام 1507م، وروايات أخرى تقول: إن بناءه أعيد بعد طرد البرتغاليين على يد الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي عام 1650م، وعرف حينها بمسجد «الشُّهداء».
وموثَّق تاريخيا أنَّ غزو البوكيرك الجائر للسواحل العمانية، كان بين العامين المتتالين: 1507 و1508م، بعنصرية مقيتة وحقد أسود على الإسلام، فدمَّر المدن البحرية الممتدة من قلهات وحتى صحار، بما فيها مسقط، ولعل موقع «مسجد الخُوْر» الحالي، كان ذاته الموقع القديم للجامع الذي هُدِم، وحتى نرسم في خيالنا صورة عن ذلك المسجد الجامع الذي هدمه البوكيرك، نقرأ ما ورد عنه من وصف مفرط في الجمال والأسى، اقتبسته في كتابي «وحي المحاريب»، نقلا عن المجلد الأول، من السجل الكامل لأعمال البوكيرك، ص182، يقول: (أمَرَ البوكيرك ثلاثة من حاملي المدافع بأن يقطعوا بالفؤوس دعامات المسجد، وكان واسعًا جميل البناء، مشيدًا في غالبه بالأخشاب التي نحتت نحتًا متقنا جميلا، وبه أعمال تجصيص في جزئه العلوي، فقُطِعت الدعامات، حتى انهار البناء، وأشعلوا النيران فيما تبقى من المسجد، فأتت عليه كله، ولم تترك شيئًا).
بل إن كاتب المذكرات، وهو الابن غير الشرعي للبوكيرك، أمْعَن في تصوير الأسى أكثر، حين كتب: (لقد كانت النيران عنيفة ذات لهب، لم تترك منزلا ولا مبنى إلا أتت عليه، وأتت على المسجد الذي كان واحدًا من أجمل المساجد التي رأيناها على الإطلاق).
وبلا شك أن مسقط خسرت في عام 1507م جامعًا فخمًا، يعود تاريخ بنائه إلى عهود سابقة، أما موقع ذلك الجامع المنكوب، فلا أحسبه إلا ذاته الذي بني فيه «مسجد الخُوْر» الحالي، ألا يمكن أن يكون أولئك الشُّهداء، هم أنفسهم الذين راحوا ضحية محرقة البوكيرك، لحظة دفاعهم عن المدينة والجامع الفخم قبل خمسة قرون؟!.أما المسجد باعتباره مدرسة نظامية حديثة، فإن الندوة أقيمت تحت رعاية الشيخ محمد بن عبدالله بن زاهر الهنائي، بمشاركة كل من: الشيخ أحمد بن سعود السيابي أمين عام مكتب الإفتاء، والدكتورة بدرية بنت محمد النبهانية باحثة ومحاضرة في التاريخ، وسند بن حمد المحرزي باحث بدائرة المخطوطات، أناب عنه في تقديم ورقته الباحث سليمان الهميمي، بدأت الندوة بتقديم من خالد الشكيلي، ثم كلمة افتتاحية ألقاها خميس بن راشد العدوي رئيس المركز، تحدث فيها عن استعداد «مركز الندوة الثقافي» ببهلا، إلى دراسة المدارس العلمية في عُمان، تلك التي اهتمت بها الحكومات السابقة، وأشار إلى أن مدرسة «مسجد الخُوْر» حَريٌ بها أن تستمر، وتُنقل إلى مكان آخر.
وتحدثت الدكتورة بدرية النبهانية عن «المدارس الدينية في عمان قبل عام 1979م، مدرسة الخور نموذجًا»، لتفتح نافذة تطل على مساحة منسية من التعليم الديني في عُمان، ففي ورقتها قالت: إن «مسجد الخُوْر» شكَّل حضورًا في تاريخ الحركة العلمية في عمان، وهناك عوامل ساهمت في ظهوره كمدرسة دينية، لعل أبرزها هجرة العلماء من الداخل للعاصمة مسقط، فيستقرون فيها، ويتولى بعضهم القضاء والتدريس في «مسجد الخُوْر»، منهم الشيخان محمد بن أحمد الكندي، وابن عمه الشيخ سعيد بن ناصر الكندي (1936م)، اللذَيْن خرجا من نزوى، ثم قام بالتدريس فيه إمام المسجد الشيخ سليمان بن محمد الزدجالي، وكذلك الشيخ حمد بن عبيد السليمي (ت: 1971م).
وتناولت ورقة سند المحرزي الفترة التي عمل فيها سماحة الشيخ أحمد الخليلي، مُدرِّسًا في هذا المسجد، استفاد الباحث من حوار أجراه مع الشاعر هلال بن سالم السيابي، باعتباره تلميذًا درس في المسجد خلال فترة شبابه مدة أربع سنوات، وأن المنهج المقرر كانت كتب الشيخ نورالدين السالمي؛ «جوهر النظام»، و«بهجة الأنوار»، و«شرح طلعة الشمس»، و«شرح مسند الإمام الربيع بن حبيب»، و«تلقين الصبيان» مع «ملحة الإعراب» في علم النحو، أما وقت الدراسة فيبدأ في الصباح الباكر وحتى وقت صلاة الظهر، وفي المساء بعد صلاة العصر.
وكان مسك الختام للشيخ أحمد بن سعود السيابي، سرد ذكرياته عن تعليمه في «مسجد الخُوْر»، حينما كان في عمر ستة عشر عامًا، وتعلمه على يد الشيخ الضرير الربيع بن المر بن نصيب المزروعي (ت: 1982م)، وهو من أهالي قرية الحَزْم بالرُّستاق، استقدمه السيد أحمد بن إبراهيم البوسعيدي ناظر الداخلية (ت: 1981م)، للتعليم في عهد السلطان سعيد بن تيمور آل سعيد (حكم: 1932 - 1970م)، كما كان السيد أحمد يتولى شؤون «مسجد الخُوْر»، نظرًا لمكانته الدينية والأسرية، فعيَّن الشيخ الربيع بن المر المزروعي، ثم بعد ذلك التحق سماحة الشيخ أحمد الخليلي بعد مقدمه من زنجبار، وتم تعيينه مُدرسًا في المسجد.
وذكر الشيخ أحمد أن الدراسة في «مسجد الخُوْر» انتظمت على ثلاثة مستويات، الأول يعلِّم فيه أحد خريجي المدرسة، وكان الأستاذ حمد بن خلفان الرَّواحي يقوم بهذه المهمة، والمستوى الثاني يعلِّم فيه الشيخ الربيع بن المر، واتخذ من «ملحة الإعراب» بشرح الشيخ بُحْرُق الحضرمي، و«مدارج الكمال» للشيخ السالمي منهجًا في النحو والفقه، أما سماحة الشيخ الخليلي فكان يعلِّم «جوهر النظام» و«طلعة الشمس» و«مشارق أنوار العقول»، وفي المساء يقرأ شيئًا من «شرح مسند الإمام الربيع بن حبيب»، و«تفسير الكشَّاف» للزمخشري، كان عددنا ستين طالبًا، وفي العام الدراسي 1973 - 1974م، ألغيت الدراسة في «مسجد الخُوْر»، لإعادة بنائه كما هو عليه الآن، ليتناثر منا العقد النظيم.
لقد مضى على إغلاق «مدرسة مسجد الخُوْر» نصف قرن، تغيَّرت خلاله أحوال الزمان والمكان، فأما ذلك السِّرْب من التلاميذ، فقد أصبحوا شيوخًا، وذابوا في معترك الحياة، وأما المسجد فبقيت قبابه تعانق زرقة السماء، وتُشكِّل مع «قصر العلم العامر»، وصفحة البحر، والجبل الشبيه بمنحوتة عظيمة، وقلعتي «الجلالي» و«الميراني»، لوحة تبهج الناظرين، وستظل منارته تذكِّر بالأمس الغابر، وهي تصيخ السَّمع إلى اصطفاق الموج، أو يلامسها النسيم المتهادي، ويختزن المكان أحلام فتية صغار، كانوا يأمُّون المسجد، وشيوخًا بذلوا أعمارهم في التعليم على ضوء القناديل.