ماهر منصور: خاصرة الدراما السورية الرخوة هي النص ونحن نكتب بالفطرة والمحاكاة
أعمال البيئة الشامية متخيلة وتشبه حكايا الجدات وحُملت أكثر مما تستحق وهي أبسط من أن تعكس البيئة
«المنصات» منحت المشاهد السيادة، وفرضت شروطها على صناع الدراما
كاتب وإعلامي وناقد فني، ساهم فعليًا في صناعة الدراما من الجانب الذي يعمل فيه بصفته استشاريًا في تطوير وتقييم وتحليل النصوص الدرامية، ماهر منصور الذي عمل إلى جانب الكثير من كتاب السيناريو البارزين في السينما والتلفزيون، وقدّم ملاحظاته واستشاراته الفنية لمئات النصوص الدرامية، فضلًا عن عمله إلى جانب الإنتاج في مشروعات الأفلام والتلفزيون والدراما من الفكرة حتى العرض، وأسهم كجزء من وظيفته في التطوير واستشارات القصة، وفي تقديم الدراسات النقدية وأبحاث السوق وتقدير اتجاهات المشاهدة، والسياق الثقافي للإنتاج.
وإضافة لعمله في الإعلام فقد أنجز الكثير من حلقات العمل التدريبية لكتابة السيناريو والنقد الفني، وحاضر في الدراما التلفزيونية والمسرح والنقد الفني والإعلام؛ وقد صدر للزميل ماهر منصور عدة كتب في مجال النقد الفني وكتابة السيناريو، أترككم مع تفاصيل الحوار:
* بداية ما رأيك بالموسم الدرامي السوري هذا العام .. وهل تعافت الدراما وعادت إلى ما كانت عليه مطلع الألفية الثالثة؟
- لا يمكن القول بأنها تعافت، ويقاس نجاح الأعمال نسبة لما يُقدم، ولا نسبة للتاريخ، لذلك يبدو لي تقدير التعافي بأنه يجب أن يقاس بتاريخ الدراما السورية وما أنجزته منذ سبعينيات القرن الفائت، وهذا الكلام لا يعني أبدًا أنها كانت معافاة على مدار تاريخها، فقد عانت من آثار الولادات المتعثرة لها، حتى نكاد نقول إنها لم تعمل يومًا في مناخات مثالية، ولكن الأمل يظل قائمًا على طاقة أبنائها الفنية والدرامية الذين صنعوا مكانتها في المشهد الدرامي العربي وما زالوا كل عام، مهما ارتفع منسوب الخيبة، يمنحونا أملًا مشروعًا بـ«درامانا»، لذلك أجدني أردد دائمًا، أننا محكومون بحبها، حتى لو كان صرحًا من خيال وعلى رؤوسنا هوى.
* في المشهد الدرامي هذا العام برزت بكثرة مشاهد العنف، وأثارت جدلًا حولها، فيما رد صناع الدراما بتعابير أنها تجسيد للواقع ولا يريدون تجميله، أو معالجة المشاهدين بالصدمة وما إلى ذلك.. ما رأيك؟
- سأقارب الموضوع من منظور فني خالص، ما اعتقده مشاهد العنف التي حفلت بها الدراما السورية اليوم كان ينقصه التخييل، أي ما يجعلها تنتقل من حيز الصورة الوثائقية إلى حيز الصورة الدرامية، وفي الحالتين لا يفارق المضمون الواقع، ولا يجمّله، ولكنه يحترم قواعد الفن، وعقل المشاهد، فملاحقة أثر ضوء الشمعة، لا يغيب حقيقة اشتعالها، ولكنه يأتي بتصوّر فني عنه، وإلا ما هو الفارق بين الفني واللا فني في تصوير الشمعة؟.
نحن مطالبون دائما بتقديم تصور فني للحدث الدرامي، افترض ما يفترضه ألبرت أينشتاين بأن «الخيال أهم من المعرفة».. لكن الخيال يحتاج إلى سياق، وكل خيال لا يؤدي سياقه إلى المعرفة، هو بالضرورة عيب في المبدع لا المشاهد.
أما فيما يتعلق بدور الدراما بعكس الواقع أو ما يرتبط ذلك من نظريات، ففي رأيي أنه من المسلّم به أن تمزج الدراما الجيدة، بوصفها عملية إبداعية، بين ما هو واقعي وبين ما هو فني، وبين ما هو محسوس وبين ما هو متخيل، وبمقدار بلاغة السياق الدلالي لعملية المزج هذه، بمقدار ما يدركه المشاهد ويدرك مراميه.
* هل يجب أن تحمل الدراما أو لنسميها الأعمال التلفزيونية مشروعًا إصلاحيًا مثلًا، أو يعوّل عليها لتكون كذلك، وهل تحتمل ذلك وقادرة عليه..؟
- لنتفق أولًا أن مهمة الدراما الأساسية هي الترفيه، اليوم نطمح إلى أن تكون الدراما هي وسيلة للتسلية والترفيه وتكون دراما مفيدة، أن تحمل مشروعًا إصلاحيًا، مشروعًا فكريًا بالحد الأدنى، عادةً الدراما في مبدأها الأول والبسيط هو حكاية، ولا توجد حكاية من دون مغزى، هذا المغزى قد يكون بسيطًا جدًا، أو معقد، فالدراما بطبيعتها كحكاية تحمل الحد الأدنى من التكلف، لذلك كان مقبولا في يوم الأيام أن نقول كوميديا الضحك من أجل الضحك، دون رسالة عظيمة، منذ مطلع الألفية الجديدة بدأت دوائر الغرب تنظر للدراما بوصفها وسيلة من وسائل التعليم، ويجب أن تدرس في الجامعات؛ وتم عمل استبيان عن مصادر الثقافة والتأثير للشباب في سوريا وجاءت الدراما التلفزيونية في مقدمة عناصر التأثير، اليوم نجد أن الدراما هي الحامل الثقافي الأساسي لكل مصادر الثقافة، ولا تنسى أن لدينا نسبة أمية، نحن كعرب ثقافتنا ثقافة صورة، وكل وسائل الاتصال الحديثة تعتمد على الصورة بشكل أساسي وهذا مؤشر بأن ثقافتنا صورة، وهي واحدة من أدوات التعبير الأساسية للدراما، إذًا هل تتحمل أن تكون مشروعًا إصلاحيًا؟، تتحمل بمقدار ما تحتمل حكايتها؛ وبالتأكيد فيها مغزى، لأن كل الحكايات، دراما بمبدأها حكاية، وكل الحكايات كذلك، وهي قادرة على ذلك لأنها واحدة من وسائل الأكثر تأثيرًا على الجمهور والمتلقي، ولكن الأمر منوط بالحكاية أولًا، هل تحتمل الحكاية أو لا تحتمل، ثانيًا بإرادة الصناع وثقافتهم ومعرفتهم، دائمًا الثقافة هي الأساس.
* دعني اسألك، هل أعمال البيئة كانت وفية للبيئة، أم أنها خرجت عن النص بعد التي شاهدناها في البدايات..؟
- إن كنت تقصد أعمال البيئة الشامية، ففي جزء كبير من صناع هذه الأعمال لم يَدّع أنه يقدم الشام، وفي جزء ادعى ذلك وتوقفت هذه الأعمال، ويوجد أيضًا المتلقي الذي جاء يحاسب أصحابها بأنهم أساءوا إلى صورة الشام وهي ليست هكذا، الجدل الذي أثير حول هذه الأعمال هو الذي طرح مسألة هل هذه تعكس البيئة أو لا تعكس البيئة، وفي رأيي كل الأعمال بالنتيجة هي أعمال متخيلة تلامس الواقع في شيء، تشبه حكاية الجدات وألف ليلة وليلة تمتد بشكل أفقي وليس تصاعديًا، الغاية منها الترفيه والتسلية وتقديم قيم أخلاقية تقوم على مبدأ الأبيض والأسود، الخير والشر، فهذه الأعمال بطبيعتها ليست ذات طبيعة أعمال درامية محكمة بشكلها البنائي والفني، ولكن تم تحميلها أكثر مما تستحق، ولنتساءل معًا، هل عكست الدراما بيئتها؟ نعم فعلت ذلك إلى حد كبير؛ أما أعمال الدراما البيئة الشامية هل عكست البيئة، سأجيبك: هذا النوع من الدراما هو أبسط من أن يعكس البيئة.
*هل تعاني الدراما فعلًا من أزمة نص، أم رؤية مخرجين، أم ماذا..؟
- نعم تعاني من أزمة نصٍ قوية وهذه ليست جديدة أو طارئة ولا علاقة لها بما حدث في سوريا؛ ولعل خاصرة الدراما السورية الرخوة هي النص، نعم نحن نكتب الدراما السورية بالفطرة والمحاكاة، وهذا لا يعيبها هذا مصدر قوتها، ويعكس واقعيتها، ولكن ما زال النص بعيدًا عن تقاليد كتابة النص الدرامي الحديث، أضف إلى أنه بالرغم من أن النص الدرامي السوري قدّم دراما مسلية ومفيدة وأعمالًا قوية كانت تحسب للدراما السورية وأعمالًا خالدة، وعمل مثل «الزير سالم» و«الجوارح» و«التغريبة الفلسطينية» عمل يمتلك أسباب ديموته، وأحد أسرار الديمومة هو النص.
* كيف يمكن أن يكون تأثير الدراما على المجتمع في زمن المنصات المنتشرة بكثرة؟
- الموضوع ليس من يؤثر في من، هذه المنصات منحت المشاهد السيادة والقدرة على متابعة واختيار ما يشاء من مجموعة مسلسلات معروضة أمامه وبالتالي يجب أن يقدم المسلسل أوراق اعتماده، ومقولات بشكل وصورة تغازل وتناسب هذه المشاهد وبالتالي أصبح المطلوب من الدراما أن ترفع طاقتها الفكرية والفنية والحكاية بالدرجة الأولى أقصد التسلية والترفيه حتى تستطيع أن تؤثر في مشاهدي المنصات.
* في رأيك هل سيتغير شكل الدراما وأسلوبها ومعالجاتها في ظل الواقع والتقلبات الكثيرة من كل النواحي؟
- نعم بدأت الدراما فعليًا تغيّر شكلها، المنصات فرضت قوانين شديدة على صناعة المسلسل التلفزيوني، للأسف نحن في السوق العربي لم ندرك بعد حجم هذا التغيير، ما زلنا نتعامل مع المسلسل التلفزيوني الذي يقدّم على المنصة كما لو أنه يقدم على التلفزيون، ولكن المنصات فرضت شكلًا جديدًا على الدراما التلفزيونية، والسوق العربي أدرك جزءًا منها ولم يدركها كاملة.
كيف أثرت منصات على صناعة المسلسل الدرامي، أولًا بات صناع الدراما مطالبين بالقبض على اهتمام المشاهد وإثارته منذ اللحظة الأولى، لذلك تم إيجاد ما نسميه اليوم بـ«المشهد التشويقي»، الذي يظهر قبل شارة العمل قد طغى على الشارة كثيرًا، وفي بعض المنصات يعطونك خيار تجاوز الشارة، وكأنهم يقولون لك، القيمة فيما يعرض وليس في من يعمل، يوجد في صناعة الحكاية الحدث المحبذ الذي يشكّل نقطة انطلاق الحكاية الفعلية وهذا الحدث عادة يكون في الربع الأول من زمن الحكاية إذا كان فيلم مدته ساعة فيجب أن يقع هذا الحدث في الربع الأول منها، إذا كان هذا العمل مدته 10 حلقات يجب أن يقع هذا العمل بأول حلقتين ونصف حلقة ضمنا، اليوم في صناعة المنصات مطلوب أن يقع هذا الحدث بأسرع ما يمكن وكلما كان أسرع، كان أفضل لدرجة أنه أفضل حدث في هذا السياق فيما يخص المنصات هو الحدث الذي يبدأ منذ المشهد الأول مثلًا.
في المسلسلات التقليدية غالبا يتم بث إعلانات، وفي دوائر الصناعة المحترفة وليست الحالة العشوائية، تفرض بعض دوائر الصناعة الدرامية العربية الاحترافية على كاتب العمل وصناعه أن يحددوا متى يجب أن يظهر الإعلان ضمن المسلسل وفي أي مقطع جاذب للمشاهد لإجباره على متابعة الإعلان وانتظار انتهائه للعودة للمسلسل.
في المنصات لا توجد إعلانات وأنت كصانع دراما مطالب في كل لحظة بإبقاء المشاهد مهتمًا ومرتبطًا بما تعرضه، وهنا يظهر تأثير المنصات على الدراما إذ بات على صناعها أن يبقوا في كل لحظة من حكايتهم سببًا كي يبقى المشاهد متابعًا مشدودًا للعمل، وبالتالي حالات التطويل «المطمطة» اختفت، وحالات عدم احترام عقلية المشاهد أو عرض أي شيء، وسأقول لك لماذا؟ لأن المشاهد هو سيد الأمر وبيده جهاز التحكم، ولأنه هو مصدر الدخل الوحيد للمنصة، بينما في التلفزيون مصدره من الإعلانات، ومن هنا يأتي تأثير المنصات على الدراما لأنها تحترم المشاهد الممول لها.
* سوريًا وعربيًا تكاد تغيب الكوميديا عن الشاشة، ما هو السبب في رأيك..؟
- الكوميديا هي من أصعب فنون الكتابة، من السهل إبكاء الناس ولكن من الصعب جدًا أن تضحكهم، وسبب نجاح الكوميديا هو قدرتها على الإضحاك، دائما نحكم على المسلسل الكوميدي إذا كان يضحكنا أو لا، هذا الحكم لأنه أساسًا وظيفته الإضحاك بغض النظر على نوع الكوميديا التي نقدمها، ونظرًا لصعوبة كتابة هذا النوع من الأعمال نجد أنه من الطبيعي أن يختفي أو يكون قليلًا، لأنه ليس متاحًا لأي أحد أن يكتب كوميديا تقنع وتضحك وبالتالي تنجح.
* وجودك في الخليج العربي جعلك تلامس الواقع الفني للأعمال الخليجية عن قرب، كناقد كيف ترى هذا الواقع وما يقدم فيه من أعمال على الصعيد الدرامي والسينمائي..؟
- يمكنني توصيف الدراما الخليجية بأنها تجتهد كثيرًا لتأخذ مكانها، وقد حجزته بالفعل وملأته بالنسبة لمشاهدها الخليجي حيث تقدم أعمالًا خليجية متميزة حتى بالنسبة لأبناء هذه الدراما تتفوق أحيانًا على نفسها في بعض الأماكن، عربيًا قد لا تكون وصلت حد المنافسة الشرسة مع الأعمال المصرية والسورية لأن لديهما أرث وتاريخ في هذه الصناعة، أعتقد أنه بالنسبة والتناسب فهي وبدأت تفرض نفسها في السوق.
نشهد اليوم صعودًا قويًا للمسلسل السعودي وكذلك صناعة تأسيسية للسينما السعودية بما يوازي السينما التي كانت السينما في البحرين والريادة التأسيسية في الكويت.
* بوصفك ناقدًا فنيًا، هل تقييمات الدراما والاستطلاعات وتصنيف العمل من خلال الوسائل المتبعة يمنحها الأفضلية...؟
- أعتقد اليوم أن جزءًا لا بأس به من الأرقام التي تقدمها أنظمة التقييم الإحصائي من وسائل التواصل الاجتماعي مرورًا بالاستطلاعات التي تجريها المجلات والمواقع الإلكترونية، بما فيها المختصة بالبيانات، تمثل جانبًا واحدًا من الحقيقة لا كلها، ولا سيما حين يتعلق الأمر بتفضيلات الناس الفنية والأحكام الجازمة حولها التي تبدأ بكلمات من قبيل «أفضل»، أو «أهم»...إلخ.
هنا لا أدعو إلى إسقاط قواعد البيانات والأرقام ورأي الناس، وإنما أدعو إلى تفهم حقيقة ما تمثله، وأن ما نصدره بوصفه العمل الأبرز أو الأهم في عام من الأعوام، هو في الحقيقة العمل الذي حظي بفرصة مشاهدة أوسع، والعمل الأبرز من بين ما تتم مشاهدته هو العمل الذي قدّم مساحة أوسع لإشباع دوافع أكبر عدد من المشاهدين وليس كلهم، فعلماء النفس والاجتماع يفسرون تهافت الناس على أعمال فنية بعينها على نحو أدق، حين يقولون إن المشاهد يختار العمل الذي يوفر له مساحة لإشباع نسق دوافعه ومشاعره ومعارفه.
وكأنك تحيل مسألة تقييم الأعمال الدرامية إلى علم النفس ومختصيه، لا نقاد الدراما...هل بذلك نتماهى مع ما رآه الناقد البريطاني رونان ماكدونالد في كتابه «موت الناقد»، من أن «زمن الناقد، بوصفه الحكم الفيصل الذي يُقرّر ما يستهلكه الجمهور على الصعيد الثقافي، قد ولى».
أتفهم ذلك من خلال يقين ترسخ لدي على مدار سنوات طويلة من عملي في النقد الدرامي، بأنه لا تفسير نقدي لعمل ناجح سوى أن الناس أحبته، وما من تفسير لحب الناس يصلح أن يكون وصفة دائمة لصنع عمل ناجح، وكل ما نعتقده خلاف ذلك هو الوهم، فالحب الحقيقي لا تؤطره قاعدة، بل وتفسده الوصفات الجاهزة...هذا ما اعتدت أن أردده وأؤمن به، رغم أنني واحد ممن يقوم عملهم اليوم على التزام القواعد لتقييم الأعمال الدرامية وتطويرها وإعادة كتابتها.. لذلك إن كنت قرأت «موت الناقد» جيدًا فاعتقد أن كاتبه كان ينعي في كتابه ممارسة الوصاية على المشاهد في الممارسة النقدية ولم ينع موت الناقد، أي أن موت الناقد أو حياته، بالمعنى الرمزي، سيظل رهن الممارسة النقدية...
كلنا، بوعي أو من دون وعي، نتأثر بآرائنا الشخصية وذائقتنا، وكل ما نعرفه ونتعلمه ونسمعه خاضع لحالتنا النفسية في كل لحظة، لذلك سأعترف بوصفي ناقدًا، بأنه لا يوجد تقييم حيادي، ولا يوجد تقييم عادل.. في أفضل الأحوال يوجد تقييم صادق في ساعته ومكانه فقط. ولكن للناس عقل يجب أن يحترم، وأقل احترام له هو أن نبيّن حيثيات موقفنا من العمل الفني كما سبق وطالب المخرج والناقد الفرنسي فرانسوا تروفو.
* ألا تجد أن هناك تناقضًا في التزامك في عملك بالقواعد الفنية، وقولك بأن الوصفات الجاهزة تفسد الحب، وكنت تقصد على ما أفهمه صناعة العمل الدرامي وفق وصفة يُعتقد أن الناس ستحبها...أقول هذا وأنا أعرف أنك تجاوزت مسألة التزام القواعد في عملك نحو التنظير لها في كتبك؟
ظاهريًا يبدو أن هناك تناقضًا، ولكن واقع الممارسة العملية الواعية للقواعد سيكشف غير ذلك، ولنتذكر دائمًا أن أفضل القواعد في الدراما هي تلك التي تدعوك بداية للالتزام بها، ثم توصيك في النهاية بكسرها والانقلاب عليها، وأن أكثر الناس كسرًا للقواعد هم الأكثر إيمانًا بأهمية القواعد لتجنب الكتابة الدرامية السيئة، ويبقى الثابت دومًا في النصوص الدرامية الجيدة وما تستهدفه عملية إعادة الكتابة والتطوير، هو مقدار ما يشبهنا في هذه النصوص، ومقدار المتعة التي تأتينا من مشاهدتها، ما نحبه فيها، ويتردد صداه في قلوبنا ويرسخ في ذاكرتنا وما تعلمناه منها وما أحدثته من تغيير فينا، فإذا ما حاز نصٌ على كل ذلك بشكله المنشود، كان هو النص المطلوب الذي يبحث الجميع عنه، ولندع بعيدًا كل النظم البنائية ونظريات كتابة السيناريو بعدها، في الحالتين أجد أن القواعد أساسية لبلوغ أي نتيجة مثلى، ولكنها ليس ذات أهمية عند الوصول إلى النتيجة ذاتها بفطرة القص والمحاكاة، فالأساس الثابت في الدراما هو المتلقي، وكلما استطعت الوصول إليه، بكامل لياقتك الفنية والفكرية، فأنت حققت ما نريده للدراما، ولا يهم الوسيلة بعدها.
* كتبك الثلاثة اعتنت بالتنظير لكتابة السيناريو وتقييمه ونقده.. حدثنا عن ملامح مشروعك التنظيري هذا؟
- كانت البداية الفعلية من كتابي (نقد الدراما التلفزيونية بين مرجعيات المسرح والسينما)، وفيه شرحت كيف أن فهم العلاقة المتشابكة بين الدراما التلفزيونية والمسرح والسينما، وطبيعة التفاعل بينهما وحدود افتراقهما، يشكّل مدخلًا لقراءة المسلسل التلفزيوني، وبالتالي الاعتماد على الإرث النقدي في المسرح والسينما للوصول إلى منهج نقدي يمكن الاتكاء عليه عند الكتابة النقدية الخاصة بالدراما التلفزيونية.. لقد استلهمت الدراما التلفزيونية أساليبها وطرق تعبيرها من المسرح والسينما مع اختلاف الوسيط بين الفنون الثلاثة، وبالتالي يمكن أن تستلهم أساليبهما النقدية، أي نقد الدراما التلفزيونية وفق مرجعيات ومنهجيات النقد المسرحي والسينمائي مع الأخذ بفكرة اختلاف الوسيط.. وهذا ما حاولت شرحه.
وبانتقالي للعمل على طرفي الطاولة مع الكتّاب والمنتجين، وضعت نصب عينيّ البدء بمشروع تنظيري عربي أحاول من خلاله تناول المبادئ التي تجعل نص الكاتب التلفزيون/ السينمائي أقرب ما يكون من قرار إنتاجه، وذلك ابتداء بكتابي (المبدأ الملك) وفيه عرضت لكيفية تسويق العمل الفني عند الجهات الإنتاجية، إذ ما من فائدة أن تكون لديك قصة عظيمة ولا تجيد التعبير عنها وتسويقها، لذلك فإن إتقان كتابة الوثائق عما يدور حوله العمل الفني، فيلمًا كان أو مسلسلًا، هو ممر إجباري لا بد أن يتجاوزه أي كاتب سيناريو طموح لإنتاج عمله، وهي عملية لا تتطلب خبرة (مندوب مبيعات)، وإنما شخص يدرك أبعاد قصته تمامًا ويجيد التعبير عنها في أشكال مختلفة، وبطريقة بسيطة وثرية وجذابة في الوقت نفسه.
تاليًا كان كتابي «أعمدة الحبكة..» وفيه قمت بجمع مكونات السرد التي ترى أنها تشكل نقطة تقاطع بين كل ما وسم بأنه سيناريو جيد، وذلك بالاتكاء على واقع ممارستي العملية، سواء في مساعدة كتّاب السيناريو في إعادة كتابة نصوصهم، أو في تطوير النصوص وتقييمها، وقدمت فهمي لمكونات بنية سرد للقصة بالأساس الفطري ذاته الذي ولدت منه الحكايات منذ 4000 عام، وشرحت طبيعة عملها بوصفها أسلوب حياة لأبطالها أكثر من كونها قواعد ونماذج موحدة، وصولًا إلى إيجاد لغة مشتركة حول تلك المكونات ووظائفها الدرامية، تمهد بدورها لنوع أكثر تلقائية من الكتابة والتطوير على نحو يخدم الفكرة الدرامية، ويحافظ على الإحساس بما هو عملي وممكن وفطري في أفعال أبطالها.