قصة عن حبه وظلامه
في روايته الشهيرة المنشورة بالعبرية عام 2002 (قصة عن الحب والظلام،) والتي ترجمها للغة العربية جميل غنايم وصدرت عن دار نشر (الجمل) يكتب الروائي الإسرائيلي عاموس عوز 1918-1939 بصراحة متناهية حياته وحياة عائلته في القدس، وهذه الصراحة لها فائدتان أولاها أنه حاز على إعجاب القارئ الغربي والاسرائيلي الذي انبهر أمام جرأته في كشف أسرار العائلة وخصوصيتها، و ثانيها (وهي فائدة لن تعجب المؤلف) حاز على غضب الكثيرين ممن قرؤوا وسيقرؤون روايته من العرب الفلسطينيين الذين استغربوا و سيستغربون وقاحته وهو ينفي وجود العرب مؤسسات وشعراء ومفكرين.
في القدس، كلمة عربي ُذكرت في رواية عاموز عوز فقط لمدح طعم لبنة قرية لفتا الشهية، في رأس المؤلف فقط لم يكن هناك (خاصة في الثلاثينيات و الاربعينيات) حركة ثقافية فلسطيينية، ولم يجر معرض كتاب دولي ضخم عام 1964 في القدس وشارك فيه دول عديدة، ولم تأت فيروز الى القدس لتغني، ولم يحضر العقاد ليلقي محاضراته في جمعية الشبان المسيحية، ولم تحي اسمهان امسياتها الصاخبة في القدس، أما عبد الوهاب، فلم يأت الى القدس، ويحيي حفلاته ولم تؤسس الكلية العربية في القدس،عام 1918 (وهي سنة ميلاد المؤلف) الكلية الشهيرة التي ستخرج المئات من المفكرين والعلماء والشعراء، كل ذلك لم يحدث في رأس أشهر روائيي إسرائيل، (الذي يدعي أنه يساري ويدعم حل الدولتين) لكنه حدث بشهادة التاريخ والوثائق.
موقف عاموس متذبذبٌ من قضية فلسطين، فمرّة هو مع قصف غزة (بشكل مركّز ومحدود) ومرةً ضد الاحتلال، كيف سأقرأ ظلام عاموس وحبّه إذاً؟ ما الذي سوف أجده هناك، لأستمتع به؟ لماذا لا أقرؤه إذاً قراءةً معرفيةً تاريخيةً فضوليةً، لأطلّ على تاريخ القدس من منظار الآخر الذي يعيش أحلام تاريخٍ غريبة، ومريضة وهواجس أسطورية ودينية لا أصل لها، و لا يمكنها أن تتحقّق، إلا على أنقاض حرية بلادي وسيادتها وتاريخها، هل بالإمكان الاستمتاع جمالياً وبنائياً بأدبٍ يتضارب محتواه وعلاماته مع معايير العدالة والحرية الإنسانية؟ هل تلتقي العنصرية مع الفن؟ هل أقدر على قراءة حاييم بياليك قراءةً جماليةً فنيةً محايدةً، نازعاً عنها الحمولات العنصرية؟ هل في وسع مستوطنٍ إسرائيلي في أرض رام الله قراءة قصيدة "لاعب النرد" لمحمود درويش قراءةً شعريةً، مستمتعاً بصورها وبنيانها ولغتها ومجازاتها، بعيداً عن إشاراتها التاريخية، وخلفياتها الوطنية الفلسطينية؟ الفنانون الإسرائيليون الذين يسكنون بيوت العرب المطرودين في قرية حوض الفلسطينية، هل هم فنانون حقاً؟ كيف يلتقي الفن مع السكن في بيوتٍ طُرد أصحابها منها عنوةً؟ هل نستطيع الاستمتاع بلوحاتهم؟ أسئلة كثيرة وإجابات معروفة..
أرهقني كتاب ظلام عوز أرهقني بالغضب، ربما يقول قائل أن المؤلف يكتب عن طفولته وعن شخصيات رآها، هذا صحيح فعلى الرغم من كل الفظاعات التاريخية والمغالطات والأوهام المرعبة التي آمنت بها شخصياته. أعرف أنه كان ابن مناخه التربوي الصهيوني المتطرّف، وأنه نقل تماماً ما كنت شاهداً عليه كطفل وصبي، لكني أريده أن يعرف وكان عليه أن يعرف، وهو بالتأكيد عرف حين كبر ونضج أن ثمة بشراً آخرين، كانوا يعيشون في القدس نفسها التي عشت فيها في تلك الفترة، يبدعون أدباً وفناً، ويعيشون حياتهم ويحلمون ويسكنون بيوتهم، وأن أحلام شخصياتهم الفظيعة التي كنت شاهداً عليها جرّدتهم من هذه البيوت وشردتهم في منافي الأرض، كان ثمة مبدع اسمه خليل السكاكيني، هل سمعت به يا عاموس؟ يعيش في حي القطمون في بيتٍ جميلٍ بناه مع العائلة بتؤدة الطير، ولهفة العينين، وعشق العاشق وتوق المنفي، سكن فيه 10 سنوات تقريباً مع زوجته أم سري وابنتيه دمية وهالة وابنه سري، قبل أن تجتاحه وتنهبه أساطير الذين صوّرتهم في كتابك، كأنهم خلفاء الحقيقة والسلام والثقافة والحب على الأرض، أو كأنهم سكان الأرض الوحيدون.